مدينة النهود.. الغرق في الصمت والدمار تحت ظلال الحرب

منذ مطلع مايو الماضي، دخلت مدينة النهود في غرب كردفان طورًا مظلمًا من تاريخها، بعدما سيطرت عليها قوات الدعم السريع في مشهد عسكري فُرض بالقوة، لكنه ترك وراءه خرابًا متسارعًا وأرواحًا محاصَرة في الزوايا المعتمة من الحياة.

الحياة تتوقف… والمدينة تُختطف
منذ اللحظة الأولى لدخول القوات، تحوّلت الشوارع إلى متاريس، والأسواق إلى ساحات خالية. مظاهر الحياة تراجعت بسرعة، بينما فُقدت الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والدواء، في وقتٍ لم يكن فيه المواطن مستعدًا لأي من ذلك.
وتقول مصادر محلية متطابقة إن حملات مداهمة منظمة استهدفت منازل السكان والمتاجر، شملت تفتيشًا قسريًا ونهبًا علنيًا، بينما تحوّلت بعض الأحياء السكنية إلى نقاط تمركز عسكري، جعلت سكانها أسرى في بيوتهم.

النهب لا يعرف التوقف
بحسب روايات شهود عيان، بدأت عمليات النهب المنظم فور دخول القوات. سيارات خاصة، أموال، ذهب، وحتى الحبوب الزيتية والمحاصيل التجارية — كل ما له قيمة تمّت مصادرته. أحد الشهود، تحدث بشرط عدم ذكر اسمه، قال لـ”ترياق نيوز”:نُهبت مئات الشاحنات — لا تقل عن 400 — كانت محملة بمحاصيل مثل الفول النقاوة، السمسم، الكركدي، والصمغ العربي، وتم تحويلها إلى أسواق في الإضية والفولة ومنها إلى تشاد وأفريقيا الوسطى.”

العطش… أولى علامات الانهيار
في حي الثورة، يتحدث المواطن حسين.ع عن أزمة مياه خانقة شلّت المدينة لعدة أيام بعد تدمير شبكة التوزيع الرئيسية وقال: “استمرت معاناة العطش في القرى المجاورة مثل أم سنط وأم مراحيك لأكثر من ستة أيام. الوضع بلغ حدًا من القسوة اضطر فيه الأهالي للتفاوض مع عناصر الدعم السريع لإعادة تشغيل المحطات، لكن الهدف كان واضحًا: الضغط على السكان لإجبارهم على الخضوع.”

مستشفى خارج الخدمة… ودواء مفقود
من داخل مستشفى النهود، تحدث مصدر طبي لـ(ترياق نيوز) قائلاً إن المستشفى لم يعد يؤدّي وظيفته بعد أن استولت القوات على مبانيه، محوّلة إياه إلى مركز ميداني لعلاج عناصرها. قسم الطوارئ أُغلق، والكهرباء انقطعت، والوقود نفد، كما توقفت الإمدادات الدوائية،”حتى مرضى السكري والضغط لم يعودوا يجدون دواءهم، والصيدليات التي كانت ملاذًا أُغلقت بعد تعرّضها للنهب. النساء الحوامل أيضًا تُركن بلا رعاية، في وقت لا صوت فيه يعلو على صوت السلاح.”

مدينة تئن… ولا مغيث
الوضع المعيشي يزداد تدهورًا كل يوم. نقص في الغذاء، الدواء، والوقود. بعض السكان بدأوا بحفر الآبار يدويًا بحثًا عن قطرة ماء، فيما يعيش الجميع على وقع الخوف من تفشي الأمراض. لا منظمات، لا مساعدات، ولا أفق قريب للنجاة.

أحد شيوخ المدينة عبّر عن ذلك قائلاً: “نحن ضحايا صراع لا يد لنا فيه. نحمل الطرفين مسؤولية ما يحدث. المدنيون يُدفعون نحو الهاوية دون رحمة.”

إدارة مدنية على الورق
في محاولة لتهدئة الغضب، أعلنت قوات الدعم السريع تشكيل إدارة مدنية “مؤقتة” لتسيير الأمور داخل المدينة، لكن السكان لم يبدوا أي ثقة في تلك الخطوة، واعتبروها غطاءً لتثبيت السيطرة بالقوة، دون أن يرافقها تحسّن في الأوضاع.

وطن يتآكل بصمت
ما يجري في النهود لا يُمكن عزله عن السياق الوطني الأوسع: حرب مفتوحة دخلت عامها الثالث بلا حل سياسي ولا هدنة جادة. جميع المبادرات، من جدة إلى إيغاد إلى مساعي دول الجوار، تبدو معلقة في الهواء، لا تجد آذانًا صاغية لدى الأطراف المتحاربة.
النهود اليوم ليست مجرد مدينة تحت الحصار، بل هي صورة مصغرة من السودان الكبير — بلد أنهكته الحرب، وأتعبته الحسابات الدولية المعطّلة، حيث المدنيون هم وحدهم من يدفعون الثمن، كل يوم، بصمتٍ طويل ونزيف لا يتوقف.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.