سلسلة مقالات: الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير”11-11″

تأتي سلسلة مقالات “الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير” في سياق السعي لتكوين منصة وطنية تهدف إلى توحيد قوى المجتمع الحية. هدفنا هو تحقيق السلام العادل، العدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية حقيقية. تناول المقال السابق “ديوان الرقابة والمراجعة المالية: ضمان النزاهة والشفافية في الفترة الانتقالية”، أما المقال الحالي (الجزء 11 من 11)، فينتقل إلى بعدٍ مكمل: مستويات الحكم في الفترة الانتقالية: نحو هيكلة إدارية فعالة ومستدامة.

بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة و أ. ماجد الغوث

مقدمة: رؤية لإدارة رشيدة
نظرًا للتحديات الاقتصادية والسياسية المعقدة التي تواجه السودان، يصبح من الضروري إعادة هيكلة مستويات الحكم خلال الفترة الانتقالية. الهدف هو ضمان إدارة أكثر كفاءة وفاعلية، وتجنب التعقيدات البيروقراطية التي تعيق سرعة الانتقال إلى نظام ديمقراطي مستدام. يستند هذا النموذج إلى رؤية إصلاحية ترى أن اللامركزية الإدارية المقيدة، أو ما يُعرف بـ “الحكم الرشيق” (Lean Governance)، تعزز الكفاءة دون أن تفتح المجال للفوضى. هذا النموذج يتقاطع مع تجارب دول خرجت من نزاعات كبرى، مثل رواندا بعد الإبادة، وجنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري.

ولذلك، تقترح الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير تبني مستويين فقط للحكم الانتقالي:

المستوى الوطني (القومي).
المستوى الإقليمي (الولايات/الأقاليم).
يهدف هذا النموذج إلى تقليل الإنفاق الحكومي، وتسريع تنفيذ السياسات الانتقالية، وتحقيق الاستقرار الإداري والسياسي خلال العامين الانتقاليين. هذا بدوره يساهم في التمهيد لانتخابات حرة ونزيهة تؤسس لنظام ديمقراطي شرعي.

أولًا: المستوى الوطني (القومي)
يتولى هذا المستوى المسؤوليات السيادية والتنفيذية العامة، ويشمل:

مجلس الوزراء الانتقالي:
يتولى الإدارة التنفيذية العليا للبلاد.
مسؤول عن إعداد وتنفيذ السياسات العامة، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد، الأمن، والخدمات الأساسية.
المجلس التشريعي الانتقالي:
الجهة الرقابية والتشريعية العليا خلال الفترة الانتقالية.
يشرف على إقرار الميزانيات، سن القوانين، ومراقبة أداء الحكومة الانتقالية.
القضاء المستقل:
يضمن الرقابة القانونية والدستورية على أعمال السلطة التنفيذية والتشريعية.
يعمل على تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات خلال الحرب.
الأجهزة الأمنية والعسكرية:
تشمل القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات.
تكون تحت إشراف السلطة التنفيذية وفق قوانين واضحة تمنع أي تدخل سياسي.
يتم إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لضمان مهنيتها وحيادها خلال المرحلة الانتقالية.
ثانيًا: المستوى الإقليمي (الولايات/الأقاليم)
يتمتع هذا المستوى بحكم لا مركزي إداريًا، مع الحفاظ على وحدة الدولة (القومية). كما يضمن إدارة الولايات بطريقة فعالة، مع تمثيل عادل لجميع الفئات الاجتماعية والسياسية.

حكومات الأقاليم/الولايات:
تتكون من قيادات الأجهزة التنفيذية في كل إقليم أو ولاية، باستثناء القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات.
تضمن تقديم الخدمات الأساسية (الصحة، التعليم، البنية التحتية).
تتبع السياسات العامة المقررة من الحكومة الانتقالية المركزية، ولكن مع منحها صلاحيات إدارية واسعة.
المجالس التشريعية الإقليمية:
تتكون من ممثلين عن القوى السياسية الفاعلة في الإقليم، النقابات المهنية والعمالية، لجان المقاومة وغرف الطوارئ، والمنظمات الديمقراطية والمجتمع المدني.
تقوم بالتشريع المحلي والرقابة على أداء الحكومة الإقليمية.
دور المستوى الإقليمي في دعم الفترة الانتقالية:
يسهم في تطبيق السياسات القومية على مستوى الولايات.
يوفر إطارًا رقابيًا محليًا يمنع التجاوزات الإدارية والفساد.
يضمن التوزيع العادل للموارد، خاصة في الولايات المهمشة.
لتفادي التعارض بين المستويين، يُقترح تشكيل لجنة تنسيقية دائمة (مثل مجلس تنسيق انتقالي مشترك أو لجنة تنفيذية بين مستويات الحكم)، تضم ممثلين عن المجلس الانتقالي المركزي والمجالس الإقليمية، لضمان انسجام السياسات وتنفيذها بفاعلية.
ثالثًا: مزايا تقليص مستويات الحكم خلال الفترة الانتقالية
تقليل النفقات الحكومية:
إلغاء المستويات البيروقراطية الزائدة يساهم في تقليل تكلفة الإدارة العامة.
يسمح بتوجيه الموارد نحو التنمية والخدمات الأساسية بدلًا من تضخم الجهاز الإداري.
تسريع تنفيذ سياسات الإصلاح:
وجود مستويين فقط يمنع تعقيد الإجراءات الحكومية.
يتيح تنفيذ الخطط الانتقالية بسرعة وكفاءة أكبر.
منع الفوضى الإدارية والسياسية:
تجنب تضارب الصلاحيات بين الولايات والمستوى القومي.
يحد من تأثير النزاعات الجهوية والإقليمية على إدارة البلاد.
تمهيد الطريق لحكم ديمقراطي مستدام:
يتيح فرصة تجربة نموذج الحكم اللامركزي، مع إمكانية تعديله وفق نتائج الفترة الانتقالية.
يسمح بتقييم مدى فاعلية الحكم الإقليمي، لتحديد النموذج الأفضل للحكم الدائم.
لقد لجأت دول مثل جنوب إفريقيا وتونس في مراحل انتقالها الديمقراطي إلى تبسيط هيكل الحكم لضمان الفاعلية وتقليل النزاعات الإدارية خلال الفترة الانتقالية.

رابعًا: التحديات وسبل مواجهتها
مقاومة القوى السياسية والإدارات المحلية: ضرورة إجراء حوار واسع مع جميع القوى السياسية والمدنية لضمان توافق وطني حول النموذج الإداري للفترة الانتقالية.
الحاجة إلى بناء قدرات الأجهزة التنفيذية في الأقاليم: تنظيم برامج تدريب وتأهيل للكوادر المحلية، لضمان إدارة حكومية فعالة على مستوى الولايات.
تحديات التوزيع العادل للسلطة والموارد: وضع آليات رقابية لضمان عدم تهميش أي منطقة أو فئة اجتماعية في القرارات الإدارية والاقتصادية.
مع مرور النصف الثاني من الفترة الانتقالية، يمكن النظر في إدماج مستوى ثالث للحكم على المستوى البلدي، عبر مجالس محلية صغيرة منتخبة تعمل على تعزيز المشاركة القاعدية ومراقبة الأداء اليومي للخدمات.

خامسًا: كيف يمكن لهذا النموذج أن يحقق نجاحًا في السودان؟
توفير إدارة رشيدة وسريعة خلال الفترة الانتقالية:
منع البيروقراطية الزائدة التي قد تؤخر الإصلاحات المطلوبة.
تسهيل تنفيذ القرارات الحكومية دون عراقيل سياسية أو إدارية.
تحقيق توزيع عادل للسلطة بين المركز والأقاليم:
منح الأقاليم صلاحيات إدارية حقيقية، مع الحفاظ على وحدة الدولة.
ضمان تمثيل جميع المناطق في عملية صنع القرار.
بناء تجربة يمكن تطويرها بعد الفترة الانتقالية:
يتيح هذا النموذج فرصة تقييم الأداء الإداري للأقاليم.
بعد الانتخابات، يمكن للسودانيين تحديد النظام الإداري الذي يناسبهم على المدى الطويل.
الخاتمة: نحو عقد اجتماعي جديد
تقترح الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير أن تبني نموذج حكم انتقالي مبسط ليس مجرد إجراء إداري، بل هو تعبير عن قطيعة مع ماضٍ من البيروقراطية والتهميش، واستشراف لوطن تُبنى فيه الدولة على قدر الإنسان، لا على حسابه. وإذا نجحت هذه التجربة، فستكون الخطوة الأولى نحو عقد اجتماعي جديد، أكثر عدالة واستدامة.

غدًا إن شاء الله تنشر صحيفة الهدف: المقال الختامي (تحالف انتخابي للجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير: نحو استكمال مسار التحول الديمقراطي).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.