
بقلم: إبراهيم وان
كاتب من موريتانيا
تداخل الهوية الموريتانية والعالمية
في زمنٍ تتسارع فيه العوالم، وتتماهى فيه الحدود، لم يعد الإنسان ابن رقعة أرض محددة فحسب، بل بات مواطنًا في قرية كونية يعبرها الضوء والمعلومة قبل أن يرتدّ إليه طرفه. غير أن هذا الانفتاح الهائل، على الرغم من فوائده، يُلقي بظلال ثقيلة على سؤال الإنسان الأبدي: من أنا؟
موريتانيا… حيث تُكتب الهوية على صفحات الرمل والذاكرة
ليس غريبًا على الموريتاني أن يسائل ذاته في زمن التحول؛ فقد عرفت هذه الأرض منذ قرون فنون التفاعل مع التحولات. من ربوع شنقيط، التي كانت منارةً للعلم والرحلة والجدل الثقافي، إلى محاظر كانت تدرّس من علوم القرآن إلى الفلك والمنطق والطب، حمل الموريتاني هويته في عمامته ودفتره، وانفتح على العالم بروحٍ لا تعرف الانغلاق، لكنها لا تفرّط في الجوهر.
ثقافتنا الموريتانية لم تُولد من فراغ، بل نمت في رحم الصحراء، في المجالس حول الشاي الأخضر، وفي الأهازيج البدوية، التي تسرد التاريخ شفهيًا، وفي شعر الملحون، وفي القصص، التي كانت الجَدّات يروينها تحت ضوء القمر. حافظنا على هذه الهوية رغم الغزاة، ورغم الاستعمار، ورغم الجفاف، الذي جرف ما جرف، لكنه لم يستطع أن يجرف الروح.
حين يطرق العالم بابك بلا استئذان
اليوم، يدخل العالم إلى جيوبنا وهواتفنا وأفكار أطفالنا. لا وقت للتفكير قبل التلقي، ولا مسافة للفرز بين المفيد والمُضلّل. وتحت وطأة هذا السيل، يتهددنا خطر التلاشي في هويةٍ لا نعرف كيف تشكّلت.
هل يجوز لنا أن نخجل من رقصة “الهيدونة”؟ أو من تقاليد “إمْعَازِيزْ”، و”إگوان”، ومرويات “إمْظَلَّ”؟ هل من الحكمة أن يتحدث الطفل بلغة أجنبية بطلاقة بينما يتعثر في نطق اسمه العربي أو الزنجي أو الأمازيغي؟
الثقافة ليست عزلة… بل وعي بالجذر
الهوية الموريتانية ليست سجنًا ولا تراثًا جامدًا، بل هي كينونة حية قاومت التحولات عبر القرون. واجهت الاستعمار الفرنسي، وحافظت على لغة القرآن في المحاظر، واستوعبت دخول الإذاعة والتلفاز دون أن تتخلى عن الخيمة. واليوم يمكن أن تواجه عولمة الذكاء الاصطناعي بنفس الروح، إذا وُجد الوعي.
أن تكون موريتانيًا اليوم، لا يعني أن تعيش في الماضي، بل أن تستنطقه ليمنحك القوة في الحاضر. أن تضع على كتفك عباءة الجدّ، وتدخل بها العصر بثقة. فالعالم لا يحترم من يتنازل عن نفسه، بل من يُجيد الإنصات إلى ذاته، ثم يخاطب الآخرين من موقعه لا من ظلّهم.
المحظرة الرقمية؟ لماذا لا؟
ما الذي يمنع أن نحمل روح المحظرة الشنقيطية إلى الإنترنت؟ أن يتحوّل الشعر الشعبي إلى بودكاست، وأن يُدرّس الفقه في قنوات يوتيوب، وأن تُكتب السير الشعبية بلغة شبابية حديثة؟ ليست التكنولوجيا خطرًا بذاتها، بل الفراغ الذي قد تملأه إن لم نسبقها بثقافتنا.
الختام: أن نُمسك بجذورنا كي نحلّق
لسنا أمام خيار بين أن نكون موريتانيين أو أن نكون عالميين، بل أمام واجب أن نُثبت أن العالمية الحقة تبدأ من الاعتزاز بالذات. من عمق هذه الأرض التي أنجبت الفقيه، والشاعر، والمجاهد، يمكن أن نعيد بناء ذاتنا في عصر العولمة.
علينا أن نحمل ثقافتنا كما حملها أجدادنا على ظهور الجمال، لكن هذه المرة عبر الألياف البصرية. فما زال للعالم ما يتعلمه من خيمة تنصب على الرمل، وتمنح العالم دروسًا في الكرامة والأنفة والمعرفة.
Leave a Reply