هل تعود الخرطوم عاصمة للثقافة والحضارة؟

بقلم: علي الدوش

في كل تجربة إنسانية عظيمة، تتشابك خيوط الإيجابيات والسلبيات، لا سيما عندما تكون التجربة جماعية محكومة بحدود برنامج الحد الأدنى. هذا ما شهدته ثورة ديسمبر المجيدة في السودان؛ تلك الثورة التي مثّلت تتويجاً لتراكمات الغضب الشعبي في وجه نظام استبدادي جثم على صدر البلاد لثلاثة عقود. لقد جاءت الثورة بتوافق واسع بين مكونات إعلان قوى الحرية والتغيير، لتضع الشعب السوداني أمام لحظة تاريخية فارقة لاستعادة حريته وصياغة مصيره من جديد.

ورغم التحديات الجمة التي واجهت الثورة منذ لحظتها الأولى، نجح الشعب السوداني، ولو مؤقتًا، في إزاحة سلطة القمع والانغلاق، وبدأت ملامح حلم جديد تتشكل في فضاء الخرطوم. غير أن القوى المضادة للتغيير، سواء كانت داخلية أو إقليمية أو دولية، سرعان ما عملت على احتواء هذه اللحظة الثورية وتفريغها من مضمونها. تم ذلك عبر تعقيدات المشهد العدلي والأمني، وتحالفات هشة سمحت باستمرار النفوذ العسكري في جسد الدولة المدنية الوليدة.

كانت إحدى محطات الالتفاف الخطيرة على روح الثورة هي اتفاق جوبا للسلام. هذا الاتفاق، على الرغم مما حمله من نوايا إيجابية، أسهم عمليًا في عسكرة العاصمة الخرطوم عبر السماح لقوات الحركات المسلحة بالتمركز داخل المدن، محملة بالسلاح والعتاد، في مشهد غير مألوف في عواصم العالم.

تحولت الخرطوم من مدينة مدنية نابضة بالثقافة والفن والتعايش، إلى ساحة تتقاطع فيها البنادق وتنتشر فيها مظاهر التفلت باسم السلطة والنفوذ. انتشر السلب والنهب تحت غطاء النظامية، وغابت قيم النخوة والمروءة التي عُرف بها السودانيون تاريخيًا.

واليوم، وبعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب المدمرة، وفي ظل المؤشرات المتزايدة على إنهاك الطرفين وغياب أفق للحسم العسكري، يعود السؤال الجوهري ليتصدر المشهد الوطني: هل يمكن أن تستعيد الخرطوم عافيتها لتعود عاصمة للثقافة والحضارة كما عهدناها؟ وهل يمكن للمدينة التي احتضنت كبار المثقفين والمبدعين والمفكرين، أن تعود حلماً نابضًا بالوداعة والإنتاج والتنوع؟

الخرطوم ليست مجرد مدينة؛ إنها رمز لوحدة السودان وعمقه الحضاري. هي التي تغنى بها الفنانون، واحتضنت النقاشات الكبرى عن الهوية والمستقبل، وهي التي فتحت ذراعيها دومًا لكل من قصدها من أقاليم البلاد المختلفة. واليوم، تعاني الخرطوم الجراح، لكنها لم تمت. لا تزال تسكنها روح الصمود، ولا تزال أحلام أهلها معلقة على أمل العودة إلى حياة طبيعية، تتوقف فيها آلة الحرب، وتُستبدل البنادق بكتب ومعاول بناء.

إن إعادة الخرطوم إلى مكانتها لا تكون بالشعارات، بل بإرادة سياسية حقيقية لبناء سودان جديد، تُستعاد فيه الدولة المدنية، ويُعاد الاعتبار للثقافة كأداة للتنوير، والفن كجسر للسلام، والاقتصاد كوسيلة للعدالة الاجتماعية. لن تكون هذه العودة ممكنة إلا عبر مشروع وطني واسع، يضع نهاية للحرب، ويمنح الأولوية لإعادة الإعمار وبناء المؤسسات، وضمان العدالة الانتقالية التي تعيد الكرامة للضحايا وتؤسس لمصالحة وطنية شاملة.

ويبقى الدعاء صادقًا: اللهم ثبت ركائز السلام في أرضنا، وأدم علينا نعمة الأمن، لنزرع بدل كل طلقة عصفورة، ونبني بدل كل سجن مستشفى، وننشد مرة أخرى أغنيات المحبة في شوارع عاصمتنا الخرطوم، التي، رغم كل شيء، لا تزال تحلم… وتحيا.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.