طفولة الشَّاعر

بقلم: بابكر الوسيلة
حميد سعيد لا يستوي عندي شاعرًا فحسب، بل أنَّه أوسع من ذلك معنى، وأعمق عناقًا وأكثر تأثيرًا (ضمن آخرين) في متردَّم الشِّعر العربيِّ العذب.

في طفولتنا الشِّعريَّة، وبصحبة الشَّاعر الصادق الرَّضي صديق العمر والدُّروب المستقيمة كقافية، والمتعرِّجة كزقاق، كنَّا قد التقيناه في “طفولة الماء”. تبادلنا كتابه الشِّعريَّ هذا بعد أن أهدانا له عماد عركي، عركي المترع بكلِّ شعريَّة العالم. كان عائدًا وقتها من العراق في نهاية الثَّمانينيَّات، ونحن نأتنس معه في منزلهم العامر والمعمور بالمحبَّة في مدينة الثَّورة بالحارة السَّادسة، وهو ذات البيت الَّذي كان شاهدًا على “تبديد” عماد عركي في كلِّ أرجاء البيت بدانةٍ قصفته، وهي لا تدري أنَّها بدَّدت كنز المعنى عن عبارات أجمل القصائد وأبهى الأناشيد في حياة المقاومة (وتلك دمعة أخرى ستنسكب في وقتها المباغت اللَّازم).

“طفولة الماء” عرَّفني به شاعرًا ذات أثر، وحين التقيته بالجزائر في العام 2017، كان ذلك فتحًا مبينًا لي لمعانقة الطِّفل في الماء. شربنا وأكلنا معاً، تحادثتنا وتحاورنا وسهرنا معًا، وغنَّينا ورقصنا وعلى تلال جبال أطلس كانت روحي توَّاقة لفتح “أناشيد الجبل” على مصرعيه، فقرأت له البعض منه وكانت “الله الله الله” تخرج من روحه كجزء عزيز من الأناشيد، وفي ليلة المهرجان الأخيرة، قرأنا الشِّعر من مِنصَّة واحدة وأنا سليل طفولته، وحين غادر كلانا الجزائر، كان عناقنا ما يزال يرمي بالمُقالدة (تلك الكلمة الأثيرة لعادل القصَّاص) ومازادت مراسلاتُنا اليوميَّةُ المشتركةُ عبر الواتساب القلبَ والعقلَ إلَّا اتِّقادًا في محبَّة هذا الشَّاعر/ الطِّفل/ الرَّجل/ النَّبي.

لم يُحدِّثني بأمر الجائزة، ولا ريب عندي أنَّ حميدًا لم يعر الأمر أيَّ أهمِّيَّة بالجائزة من جانبها التَّرويجيِّ الفجِّ له كشاعر، فاكتفى بالصَّمت وترك الأمر للأثير يذيع الخبر. قرأت اليوم إعلان فوزه بجائزة العويس للشِّعر لهذا العام. ضحكت في نفسي عند أوَّل الأمر وقلت تبًَّا لهؤلاء لا ينتبهون لحميد سعيد إلَّا أخيرًا، فمثله تجيزه الخلوات النَّاصعة الخيال قبل السُّهول الباتعة الجمال، ولكنَّني لم أشأ أن أعكِّر فرحتي قبل فرحته بهذا الاستحقاق.
راسلته على الفور وكتبت له:
“رغم أنَّ مثل هذه الجوائز لا تضيف لأمثالكم رصيدًا ولا تُثمن ولا تُغني من جوع يا ”أبو بادية”، إلَّا أنَّ الفرحة لم تسعن، وكم تمنَّيت أن أكون بقربك الآن لأعانقك عناقًا حارَّا.

مبارك لك هذا الفوز، الَّذي يتضاءل أمام إنجازك وتأثيرك البالغ في حركة الشِّعر العربيِّ واتِّصاله بالقيم الإنسانيَّة”

لك عميق مقالدتي وعناقي”

وكان ردُّه: “أخي العزيز
احبك شاعرًا وإنسانًا
رعاك الله وزادك حضورًا
تحياتي وتقديري”.

حميد شاعر نادر في تاريخ الشِّعر العربي والعالمي، وإن فرحنا بجائزته، فإنَّنا فرحنا لاستواء الجوائز على قيمتها الحقيقيَّة في الاحتفاء بالجمال الغرير والقيمة الإنسانيَّة العظيمة الكامنة وراء الأدب وخصوصًا الشِّعر في أبهى تجلِّيَّاته.

إلى حميد سعيد
في تذكُّر البستان، في تذكُّر الإنسان، الذي فيه

أخيرًا،
عثرتُ على زهرة كنتُ أبحث عنها
قُطفت من بستانِ عبدِ الله
ذاتَ قصيدةٍ فشلت ذريعاً في معادلة الحضور
العاطفيِّ الجمِّ،
بين عاشقةٍ وعاشق..
كان عبدُ الله يعرفُ كلَّ شيء
عن دواليهِ..
ويبكي كلَّ يوم في لياليهِ..
حين يَذكُر اسْمَ الله فيهِ.

كان يرقصُ كالنَّسيم إذا رأي ولداً يُقبِّل فاتنة
كان يهمس للفراشة أن تُغازلَ سوسنة
وكان يعشق كلَّ حيٍّ في العلاقة بين شعر الماء في عينيه،
وبين ذكرى الأغنية..
يسير من وردٍ إلى وردٍ
ويسقي روحَهُ بعبير ناي..
كان يحرس في ليالي حزنه
قمراً طفوليَّاً
ويهمس للقصيدة في أطراف قريته..

سمعتُ عبدَ الله يقول للأشجار يوماً
إنَّ الطَّيرَ من لغتي يُغنِّي
وإنَّ الصَّمت للدُّنيا إذا استعصت عصاي..
لم يكن، في الحقِّ، شاعر
كان حليفَ كلِّ ندى قصيدة..
يُعانق سرَّها سرُّ الأزاهر
كان مكتملَ الضَّمير بحبِّ كلِّ فراشة في الكون..
رجلاً حقيقيَّاً يحبُّ طبيعةً
تنمو على بستانه في وجه زوجته البعيدة..
رجلاً بدائيَّاً، نديَّاً، مبدئيَّاً
لا تَطلُّ زُهيرةٌ في وجه أنثى،
إلَّا وكان عبدُ الله راعيها ببسمته
وساقيها طفولتَهُ ودرويشَه..
ولا ينمو بطين القلب عُشبٌ
إلَّا وكان فؤادُ عبدِ الله تعريشة.

رجلٌ
كأنَّ الله لم يخلق رجالأ
إلَّا لأنَّ عبدَ الله في بستانه
يهوى ويعبدُ ربَّه ويُعيد تكوينَ الحياة على يديه بحبِّه لبلاده في كلِّ نبتة..
في كلِّ غصنٍ له نبعٌ من الرُّؤيا
ويَعلمُ كيف يُثمِرُ من يديه المستحيل
إنَّ عروقَ يديِّ عبدِ الله
جذورُ أشجارِ النَّخيل..
تصحو على يده، وتموتُ حتَّى
رجلٌ سليمُ الأرضِ بين النَّاسِ شتَّى.
……..
………

بالأمس القريب
على تعريشة البستان،
أمام رقرقة المياه،
مات عبدُ الله..
جاء طيرٌ من بساتين الحنان..
جاء أهلُ العشق أنهاراً وجئتُ
لكأنَّ عبدَ الله يَعرِفني تماماً
ويَعرِف بين أنَّات المعزِّينَ الزُّهور..

كانت زهرةٌ مفقودةٌ قُطِفت سنيناً
من بستان عبدِ الله تبكي..
جاءت لتشهدَ طينةً خضراءَ تهفو
في كفِّ عبدِ الله..
وهي تَعرِفُ ما المَحبَّةُ
ما الحياه.

ملحوظة: القصيدة كتبت قبل أكثر من أربعة أعوام، والصُّورة تجمعني بالشَّاعر حميد سعيد والشَّاعر الفلسطيني عبد النَّاصر صالح والنَّاقد العراقي الرَّاحل سلام الشَّمَّاع

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.