سلسلة مقالات: الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير (10 – 11)

ديوان الرقابة والمراجعة المالية: ضمان النزاهة والشفافية في الفترة الانتقالية

بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة و أ. ماجد الغوث

مقدمة: تُعتبر الرقابة المالية والمراجعة المستقلة من أهم الآليات الكفيلة بالحفاظ على المال العام، وتعزيز الشفافية، ومحاربة الفساد المالي والإداري خلال الفترة الانتقالية. في هذا السياق، يبرز ديوان الرقابة والمراجعة المالية كجهة رقابية مستقلة لا غنى عنها، لضمان إدارة موارد الدولة بكفاءة ومنع أي تجاوزات مالية في المؤسسات الحكومية.

لذا، يتطلب نجاح الفترة الانتقالية إنشاء ديوان رقابي قوي ومستقل، يتمتع بصلاحيات كاملة لمراجعة الأداء المالي للحكومة والمؤسسات التابعة لها، وتقديم تقارير شفافة للمجلس التشريعي الانتقالي. وقد شكلت تجارب دولية ناجحة في تعزيز استقلالية الأجهزة الرقابية نموذجاً يُحتذى به، مثل تجربة جنوب إفريقيا ما بعد نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، حيث شكّل مكتب المراجع العام (Auditor-General) ركيزة أساسية في ضبط الإنفاق العام، ورفع منسوب الثقة المؤسسية في ظل الهشاشة الانتقالية.


أولاً: تكوين ديوان الرقابة والمراجعة المالية

  1. آليات الترشيح والمصادقة:

    • أ. يتم ذلك من خلال تشكيل لجنة مستقلة ثلاثية التركيب تضم قضاة، وخبراء محاسبة، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني.
    • ب. تحديد آجال زمنية محددة لقبول الطعون المجتمعية في الترشيحات، وفتح باب الاعتراض العام وفق شروط قانونية دقيقة. بهذا، لا يكون الاختيار شأناً فوقياً، بل عملية تشاركية تكرّس الشفافية كمبدأ تأسيسي، لا كشعار ظرفي.
  2. آلية اختيار أعضاء الديوان: يتم ترشيح أعضاء الديوان من قبل الحكومة الانتقالية، على أن تتوافر فيهم الشروط التالية:

    • أ. أن يكونوا من ذوي الخبرات المحاسبية والاقتصادية والقانونية العالية.
    • ب. أن يتمتعوا بالاستقلالية التامة عن أي تيار سياسي، لضمان حياديتهم المطلقة.
    • ت. أن يكونوا مشهوداً لهم بالنزاهة والكفاءة في المجال المالي والرقابي. يخضع المرشحون بعد ذلك للمراجعة والموافقة من قبل المجلس التشريعي الانتقالي، الذي يمتلك حق:
    • إقرار الأسماء المرشحة.
    • رفض بعض المرشحين واقتراح بدائل.
  3. استقلالية الديوان عن السلطة التنفيذية:

    • أ. ديوان الرقابة والمراجعة المالية سلطة مستقلة بالكامل لا تخضع لأي جهة حكومية.
    • ب. يتمتع بحرية تامة في ممارسة مهامه الرقابية دون تدخل من الحكومة أو القوى السياسية.
    • ت. يرفع تقاريره مباشرة إلى المجلس التشريعي الانتقالي لضمان الشفافية والمساءلة الكاملة.

ثانياً: المهام الأساسية لديوان الرقابة والمراجعة المالية

  1. الرقابة على الصرف المالي للأجهزة التنفيذية:

    • أ. يقوم الديوان بمراجعة الأداء المالي للحكومة الانتقالية لضمان عدم إهدار المال العام.
    • ب. يشمل ذلك مراجعة الوزارات، والوحدات الحكومية، والمؤسسات العامة، والهيئات المستقلة.
    • ت. يرفع تقارير ربع سنوية للمجلس التشريعي الانتقالي، تتضمن:
      • مدى الالتزام بالموازنة العامة.
      • كشف أي تجاوزات مالية أو فساد إداري.
      • تقديم توصيات لمعالجة المشكلات المالية والإدارية.
  2. مراجعة ومراقبة الشركات الحكومية والمشتركة:

    • أ. يشمل عمل الديوان الرقابة المالية على الشركات التابعة للقطاع العام، بما في ذلك الشركات الحكومية المملوكة بالكامل للدولة، والشركات المشتركة بين القطاعين العام والخاص.
    • ب. يضمن أن تكون هذه الشركات ملتزمة بالمعايير المحاسبية والإدارية السليمة، ولا تُشكل عبئاً مالياً غير مبرر على الاقتصاد الوطني، ولا تُستخدم كأداة للفساد أو استغلال الموارد العامة.
  3. مراقبة العطاءات الحكومية والمشروعات العامة:

    • أ. يقوم الديوان بفحص العطاءات الحكومية ومشاريع البناء وإعادة التأهيل لضمان شفافية التعاقدات الحكومية ومنع المحسوبية والاحتكار.
    • ب. يضمن مطابقة العطاءات للمواصفات المالية والفنية، والتأكد من تنفيذ المشاريع وفق الميزانيات المعتمدة، وعدم التلاعب بأسعار العقود أو المواصفات الفنية.
    • ت. يضمن الديوان أن تتماشى المشروعات الحكومية مع سياسات مقاومة الفساد، وأهداف موازنة الحكومة الانتقالية.

ثالثاً: دور ديوان الرقابة في مكافحة الفساد المالي والإداري

  1. كشف الفساد وإحالة المتورطين إلى العدالة:

    • أ. يحقق الديوان في أي عمليات فساد مالي أو إداري تظهر في تقاريره.
    • ب. في حال وجود أدلة على الفساد، يتم إحالة المتورطين إلى النيابة العامة للتحقيق واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
  2. تعزيز الشفافية في الإنفاق الحكومي:

    • أ. نشر تقارير سنوية للرقابة المالية متاحة للرأي العام، لخلق ثقافة شفافية في إدارة الأموال العامة.
    • ب. التعاون مع المنظمات المدنية والإعلام في تعزيز الرقابة المجتمعية على الأداء المالي للحكومة.
  3. تقديم توصيات لإصلاح الإدارة المالية للدولة:

    • أ. اقتراح سياسات مالية أكثر كفاءة لضبط الصرف الحكومي.
    • ب. تحسين أنظمة المحاسبة والرقابة الداخلية في المؤسسات الحكومية.
    • ت. تقديم حلول عملية لتقليل الهدر المالي وتعزيز الأداء الاقتصادي.
  4. الشفافية التفاعلية: عبر إنشاء بوابة إلكترونية موحدة:

    • أ. تمكّن المواطنين من الاطلاع على بيانات الإنفاق العام بطريقة مبسطة وسلسة.
    • ب. تتيح تقديم بلاغات وشكاوى مالية، مع آلية تتبع ومعالجة محددة زمنياً.
    • ت. تربط بين الديوان والمجتمع من خلال آليات ذكاء اصطناعي لتحليل الأنماط المالية المشبوهة. بهذا تتحوّل الشفافية من قيمة أخلاقية إلى ممارسة رقمية قابلة للقياس والاستجابة.

رابعاً: التحديات المحتملة وسبل مواجهتها

  1. محاولات التدخل في عمل الديوان:

    • أ. وضع ضمانات قانونية صارمة لحماية استقلاليته ومنع أي ضغوط سياسية أو تنفيذية عليه.
    • ب. تشكيل لجنة من المجلس التشريعي لمراقبة عمل الديوان والتأكد من نزاهته.
  2. نقص الكوادر والخبرات في المجال الرقابي:

    • أ. توفير برامج تدريب مستمرة للعاملين في الديوان لتعزيز قدراتهم في التدقيق المالي.
    • ب. التعاون مع المنظمات الدولية المتخصصة في الرقابة المالية ومكافحة الفساد للاستفادة من تجاربها.
    • ت. وضع خطة وطنية استراتيجية لبناء القدرات الرقابية، تتضمن شراكات مع الجامعات المحلية والدولية الرائدة في المالية العامة والتدقيق الداخلي، وإطلاق برامج مهنية معتمدة في مجال الحوكمة مثل (CIA Certified Internal Auditor) و (CGAP Certified Government Auditing Professional)، وخلق مسار وظيفي مهيكل لموظفي الديوان قائم على التدرج المهني والتقييم المستمر. هذا التضمين يربط بين الجودة المؤسسية والمعرفة التخصصية، ويؤسس لنخبة رقابية تكون عماد الحكم الرشيد.
  3. التهرب المالي في بعض القطاعات:

    • أ. فرض عقوبات رادعة على الجهات التي ترفض الامتثال للمراجعة المالية.
    • ب. تفعيل دور النيابة العامة في ملاحقة المخالفات المالية، وعدم التساهل مع الفاسدين.

إنّ هذه المقترحات لا تنبع من رغبة في الإضافة الشكلية، بل من إيمان بأن بناء مؤسسات رقابية في المرحلة الانتقالية لا يكتمل إلا بدمج العمق البنيوي، والانفتاح على التجارب المقارنة، والتقاطع مع الرقابة المجتمعية، وتحويل الشفافية من وعد أخلاقي إلى التزام مؤسسي قابل للقياس. هذه ليست تحسينات، بل استحقاقات فلسفية وسياسية لأي مشروع يروم التحرر من ثقل الفساد، باتجاه دولة القانون والمساءلة.


خامساً: أهمية ديوان الرقابة في إنجاح الفترة الانتقالية

  1. ضمان إدارة شفافة للموارد المالية للدولة: لتجنب إهدار المال العام، وضمان توجيهه نحو الخدمات الأساسية وإعادة الإعمار.
  2. منع تكرار أخطاء الأنظمة السابقة: من خلال محاربة الفساد المالي الذي كان أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الدولة.
  3. طمأنة الشعب السوداني والمجتمع الدولي: لتعزيز الثقة في الإدارة المالية للدولة، مما يسهل الحصول على دعم دولي وإقليمي دون مخاوف من الفساد.
  4. تمهيد الطريق لنظام ديمقراطي مستدام: بتوفير بيئة مالية وإدارية سليمة، تُؤسس لاقتصاد قوي ومستقر.
  5. تحديد مؤشرات الأداء: من أبرز هذه المؤشرات:
    • أ. عدد التقارير الفصلية والسنوية التي يُصدرها الديوان.
    • ب. معدل الاستجابة الحكومية (كنسبة مئوية) لتوصيات الديوان خلال عام مالي.
    • ت. نتائج استطلاعات رضا المواطنين عن الشفافية المالية، تُجرى سنوياً عبر مؤسسات مستقلة.
    • ث. عدد قضايا الفساد التي تم اكتشافها بناءً على تقارير الديوان. هذه المؤشرات لا تقدم فقط بُعداً تقييمياً، بل تخلق مناخاً تحفيزياً للأداء الحكومي.

الخاتمة: يُعتبر ديوان الرقابة والمراجعة المالية أحد أهم المؤسسات في ضمان نجاح المرحلة الانتقالية، حيث يشكل درعاً واقياً من الفساد، وضامناً للشفافية، وحامياً للمال العام. إن تمكين هذا الديوان واستقلاله التام عن السلطة التنفيذية سيجعل من السودان نموذجاً في الإدارة المالية الرشيدة، وسيمنع تكرار أخطاء الأنظمة السابقة التي أهلكت موارد الدولة بالفساد وسوء الإدارة. وإذا تم إنشاء ديوان رقابة قوي ومستقل، فإن السودان سيكون قادراً على بناء دولة ذات مؤسسات شفافة، وخالية من الفساد، قادرة على تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاقتصادية.

غدًا إن شاء الله تنشر صحيفة الهدف الجزء (11-11).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.