بساط من عباءة الفضاء

بقلم: محمد جلال
كان سائقنا صاحب مزاج.. ونتاج المزاج صوت غليظ، ونظارات سوداء تستر عيون طفحت عليها حمرة كالشرر..
ضرب لنا عصر الأحد موعدًا لم يخلفه.. و ضرب بنا الجانب الغربي من بوابة جبال كرري..
راحلتنا كانت من صنف الشاحنات المتوسطة، من شركة بدفورد الإنجليزية ويطلق عليها في بلادنا اسم (السفنحة)، وفي جنوب الجزيرة والنيل الأزرق يسمونها، استحقارًا بها (عواطف بت القوز)، ذلك أن قيزان الرمال لا تتشبث بها.. يظنون أن قيزان الرمال متآمرة معها، بعكس شاحنة الهوستن الذي يسميه البعض (حاج الصديق.. شفقة وضيق) الذي لا تستهويه الرمال التي تبتلع إطاراته ويقف عاجزًا أمامها، وهكذا يبدو كعاداتنا السودانية عجلتنا في اختلاق الثنائيات المتضادة، نؤطر لها وننحاز بتزمت وصلف.
لفح الهواء وجوهنا، وكان صوت (السفنجة) حنيناً يبعث الطرب في الوجدان.، نغم يتموج بتغيير السرعات، تقاطيع لسنفونية نحفظها من قديم،
كنا نسابق قرص الشمس على أرض غفر، تفرقت فيها بيوتات النمل الأبيض وتبعثرت شجيرات ضعيفة، تصارع الجدب والعطش.. كان ذلك على مشارف قوز أبو ضلوع.
مضت الشمس تسدل ستارتها، وجاء الليل يطلب النهار حثيثًا، وكان لسان حال (السفنجة) يخاطبني:
(هاربًا من حضارة لم تسقيك إلا كؤؤس عذاب..
عاقرت مدن الأنين حيث يهيم الناس كالأنعام
تعسًا لأصحاب الحضارة غالية التكاليف ومرهقة للنفس والجسد)..
كأن صوت محرك الشاحنة يردّد علي ذلك بلحن باكي..
سيطر علينا شرود حتى غطسنا في الوحل،كثبان من الرمل خطت عليها اللواري خطاً مزدوجًا وعميقًا يسمونه المُجرى، تناثرت فوقه بقع من الزيت المحترق بفعل العمل المنهك لتلك الماكينات وبقايا من آثار لم تمحها الرياح..
تمكنت منّا قطع من الليل مظلم، وطرزت النجوم السماء ببهاء وألق وبريق لم تحظ به سماء المدن..
تقدمنا ببطء حتى أدركنا عربان كأنهم أشباح، ونار خافتة يشعلها مصباح بدائي يعمل بزيت تالف من بقايا الشاحنات العابرة، وقِربة من الماء عُلقت على أعواد السقف المشتتة، أغصان عصف بها الدهر وقدكان منبتها قديمًا في أيام قحط وجدب، فلم تذق نعيمًا قبل الموت وولا بعده..
رحب بنا الإعرابي وبدا وكأنه يعرف السائق الذي سأله: (شايك دا جديد)؟ رد الأعرابي: (جديد شديتوا الليلي الصباح)! أمّن السائق على ذلك مبديًا رضاه، وأمره ان يسقينا..
فسألته عن الشاي القديم؟ قال: (يكون مشدودًا ليومين، ينتظر صاحب الرزق..)
ردّدت في نفسي (للجهل طعم رائع.. يقال له راحة).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.