ومن في حب مكة وأم درمان يُلام؟

بقلم: محمد ضياء الدين

تمر الأيام مسرعة لأكتشف أنني على مشارف إكمال عامٍ كامل في البلد الأمين، في رحاب مكة المكرمة. وما أدراك ما مكة؟ أجمل بقاع الأرض وأطهرها، هذه البقعة التي تهفو إليها أنفاس الخلق.

جئتُ إليها قادماً من أم درمان، مدينتي التي تحتضن جذوري وكل أحلامي الباقيات. خرجتُ من بيتي بالعباسية بعد ما يقارب العام من بداية الحرب، مرغماً مع ابني وشقيقي وبعض من تبقى من الجيران، تحت وابل رصاص الاشتباكات، ارتجالاً لنجاة اضطرارية. فلا ملجأ يُؤوى إليه، ولا مخبأ يُحتمى فيه، فقط خطوات متوكلة على الله، تحمل أجساداً منهكة بالتعب والإعياء والجوع.

ثم كانت مكة بعد عدة محطات. وما أدراك ما مكة؟! احتضنتني ضيفاً في بيت ابنتي وصهري الكريمين. هنا، داخل حدود الحرم، وجدتُ ما لم أجد في عشرات السنين: الراحة التي تلفّ القلب المجروح. هنا، في ظل الكعبة المشرفة، ذاب القلق وحلّ محله اطمئنان عميق يغوص في الروح، اطمئنان لا يُشرح، شعور بأنك في حضن الأمان المطلق، حتى والجراحُ تنزف.

مكة منحتني فرصة الوقت الثمين، هبة لم أعرف طعمها في زحمة العمر. حررتني (ولو مؤقتاً) من أثقال الحياة اليومية التي تخنق الروح وتسرق الأنفاس يوماً بعد يوم، فانفتح أمامي فضاء مقدس، فضاء العبادة الخالصة حيث تهفو الروح إلى خالقها، وفضاء للقراءة والكتابة.

السعادة التي لا تُقاس هي أن تكون الكعبة على خطواتك، وأن تخرج من بيتك في حدود الحرم فتجد نفسك في ساحات الحرم. أن تؤدي العمرة متى شئت، وتصلي في الحرم المكي في جوف الليل أو عند الفجر، وقلبك يخفق بالرهبة والجمال. ثم ها هو القطار يختصر المسافات، فتصبح طيبة الطيبة، مدينة الحبيب المصطفى ﷺ، على بُعد سويعات. تتنقل بين أعتاب الرحمة في مكة وروضة الحبيب في المدينة، وكأنما الروح والجسد يسبحان في فضاء واحد من النور والبركة.

لكن… ورغم كل هذا النعيم الروحي، وكل هذا الأمان الجسدي، وعبق التاريخ والقداسة في كل ذرة هنا… يبقى في الأعماق وترٌ يبكي ولا يكفّ عن الشوق إلى السودان وإلى أم درمان، شوقٌ كالوجع ينخر في العظام، ولسان الحال ينشد:

“من مكة ليك سلامي يا أم در أمان … اقبليه وهاتي الأمان”

الشوق لأم درمان له طعم مختلف، فهو ليس شوقاً للجغرافيا فقط، بل شوق الروح للروح التي تركتها هناك، شوق لزمن مضى، شوقٌ ممزوج بالحزن على ما فُقد، وبالذنب لأنني هنا في أمان وهم هناك في المجهول.

اللهم يا من جمعتني بهذا الحرم الآمن، وفرّجت كربتي، وأسكنت قلبي طمأنينة…

اللهم احفظ السودان وأهله،

اللهم ارفع عنهم البلاء،

اللهم أرِهم نوراً بعد هذا الظلام.

اللهم اجعل في قلبي سعةً لشكر نعمائك التي لا تُحصى هنا في مكة، وسعةً أخرى لتحمل هذا الحنين الثقيل إلى أم در، التي قد تكون في أعين الدنيا صغيرة، لكنها في قلبي تسع الكون.

هنا، عند بيت الله، يتعانق الشكر والحزن، الامتنان والشوق… حتى يأذن الله باللقاء، إما تحت ظل الكعبة، أو على تراب الوطن الذي ينتظر صامداً.


Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.