
سلسلة مقالات: الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير
تأتي سلسلة مقالات الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير في سياق السعي لتكوين منصة وطنية تهدف إلى توحيد قوى المجتمع الحية من أجل تحقيق السلام العادل، العدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية حقيقية. تناول المقال السابق: “المجلس التشريعي الانتقالي: دعامة الديمقراطية في الفترة الانتقالية”. أما المقال الحالي، فينتقل إلى بعدٍ مكمل: “استقلالية السلطة القضائية في الفترة الانتقالية: العدالة كضمير الدولة في لحظة التأسيس.”
(9-11)
استقلالية السلطة القضائية في الفترة الانتقالية: العدالة كضمير الدولة في لحظة التأسيس
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة & أ. ماجد الغوث
المقدمة:
في لحظات التحول التاريخي، لا تكون الدولة مجرد آلة سياسية يُعاد تشكيلها، بل هي كيان معنوي تُعاد كتابته في ضمير المجتمع. وفي قلب هذه الكتابة، تقف السلطة القضائية لا كجهاز فحسب، بل كمرآة للعدالة، ومحراب للضمير القانوني. إن استقلال القضاء لا يُطلب فقط لحماية القوانين من سطوة السلطة، بل لضمان أن تظل العدالة عصية على التوظيف، محصّنة ضد الانتقام، ومتسامية فوق النزوات السياسية. فالعدالة، كما قال أفلاطون، ليست فقط فضيلة فردية، بل مبدأ لتوازن المدينة. ومن هنا تنبع أهمية أن تكون السلطة القضائية المستقلة هي أول أعمدة الدولة في فترات الانتقال، لا مجرد تابعٍ لترتيبات سياسية مؤقتة.
أولاً: المفهوم الفلسفي والسياسي لاستقلال القضاء
إن استقلال السلطة القضائية ليس امتيازًا إداريًا يُمنح للقضاة، بل هو ضمانٌ وجوديّ للحقّ ضد القوة، وتجسيدٌ للفصل بين إرادة الشعب وقهر الدولة. فحين يُصبح القاضي رهينة للسلطة التنفيذية، تفقد العدالة صفتها النزيهة، ويتحول القانون إلى أداة هيمنة لا أداة حماية. ولهذا، فإن القضاء المستقل هو أول ما تسعى النظم الديمقراطية لترسيخه، وآخر ما تسعى الديكتاتوريات لإلغائه. ومن منظور فلسفي، فإن استقلال القضاء هو الشرط الضروري لوجود (الحق الموضوعي) الذي لا يتغير بتغير الحكّام، بل يعلو عليهم جميعًا.
ثانيًا: مبادئ استقلال السلطة القضائية
تتمثل مبادئ استقلال السلطة القضائية في التالي:
- القضاء سلطة مستقلة تمامًا عن السلطتين التنفيذية والتشريعية:
- لا يجوز لأي سلطة أخرى التدخل في قرارات المحاكم أو التأثير على القضاة.
- تُعتبر أحكام القضاء واجبة التنفيذ، ولا يجوز لأي قرار إداري أو تشريعي تجاوزها.
- المحكمة الدستورية العليا كأعلى سلطة قضائية:
- تختص بتفسير الدستور الانتقالي والفصل في النزاعات الدستورية.
- تراقب مدى توافق القوانين الصادرة من السلطتين التنفيذية والتشريعية مع الدستور.
- النيابة العامة كسلطة عدلية مستقلة:
- تتمتع النيابة العامة باستقلال تام عن أي تأثير سياسي أو تنفيذي.
- تضطلع بدور رئيسي في مكافحة الفساد وإنفاذ العدالة الانتقالية.
- تنظيم عمل السلطة القضائية إداريًا وماليًا بشكل يضمن شفافيتها واستقلالها:
- وضع نظم إدارية ومالية تضمن استقلال القضاء عن أي تأثيرات سياسية.
- يُقر المجلس التشريعي الانتقالي القوانين المنظمة لهذه الجوانب، مع إمكانية تعديلها لضمان النزاهة والفعالية.
- إدراج مبادئ استقلال القضاء في الدستور الانتقالي:
- وضع نصوص دستورية صريحة تمنع أي تدخل في شؤون القضاء.
- تحديد معايير واضحة لاختيار القضاة وأعضاء النيابة، لمنع تعيين شخصيات ذات انتماءات سياسية.
ثالثًا: آليات تأسيس سلطة قضائية مستقلة في الفترة الانتقالية
تتمثل آليات التأسيس في التالي:
- المحكمة الدستورية العليا: في بنية الدولة الجديدة، يجب أن تتأسس المحكمة الدستورية العليا كرمز للسيادة الدستورية، وضمانة لاستقرار النظام القانوني. إن تشكيلها يجب أن يخضع لمعايير مهنية صارمة، يتم فيها الترشيح من قبل لجنة مستقلة تضم شخصيات قضائية، أكاديمية، وحقوقية، معتمدة على السجل الأخلاقي والكفاءة القانونية، بعيدًا عن الحسابات السياسية أو الولاءات الحزبية. ويُقترح أن يكون التعيين بموافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، منعًا لتغول الكتل المهيمنة، وتعزيزًا للتوافق المؤسسي. كما يجب أن يتضمن القانون الأساسي للمحكمة معايير صارمة للعزل والمساءلة، حتى لا تتحول الحصانة إلى حصن للفساد.
- النيابة العامة ومجلس القضاء الأعلى: ينبغي أن تُعاد هيكلة النيابة العامة لتكون جزءًا من السلطة القضائية، لا تابعة للسلطة التنفيذية. ويتم تعيين النائب العام بواسطة مجلس القضاء الأعلى بعد ترشيح من مجلس قانوني مستقل، ضمانًا للفصل بين التحقيق الجنائي والإرادة السياسية. أما مجلس القضاء الأعلى، فيجب أن يتكون من أغلبية منتخبة من القضاة أنفسهم، بالإضافة إلى ممثلين من المجتمع القانوني المدني، لضمان الشفافية والرقابة المتبادلة.
رابعًا: أدوار السلطة القضائية في دعم المرحلة الانتقالية
- ترسيخ مبدأ سيادة القانون: في ظل دولة كانت فيها القوانين أداة قمع، يصبح سيادة القانون هدفًا تأسيسيًا. وعلى السلطة القضائية أن تستعيد شرعية القانون من خلال:
- مراجعة التشريعات السارية وتنقيحها من القوانين الاستبدادية.
- الفصل في المنازعات الانتقالية بين السلطات دون تردد.
- حماية الحريات العامة عبر تفعيل الرقابة الدستورية والحقوقية.
- حماية حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية: إن القضاء هو الحارس الطبيعي للعدالة الانتقالية، وعليه أن:
- ينظر في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان بطريقة تُشعر الضحايا أن العدالة ليست انتقامًا، بل اعتراف ومعالجة.
- يضمن عدم إفلات رموز النظام السابق من المحاسبة، دون الوقوع في فخّ التشفّي.
- يبت في قضايا الفساد الإداري والاقتصادي بما يُعيد الثقة في النظام العام.
- بناء الثقافة القضائية الجديدة: التحول لا يتم فقط بتعديل المؤسسات، بل بإعادة تشكيل الضمير القضائي. ويجب أن تُصاحب عملية الإصلاح برامج تدريبية وأكاديمية تُكرّس:
- ثقافة النزاهة القضائية والاستقلال الذاتي.
- قيم العدالة الاجتماعية والإنصاف النوعي.
- نقد الإرث القضائي السلطوي واستبداله بنموذج أخلاقي وإنساني جديد.
خامسًا: التحديات المحتملة أمام استقلال القضاء
تتمثل التحديات في التالي:
- التدخل السياسي: في ظل هشاشة المرحلة الانتقالية، تميل السلطة السياسية إلى التدخل في القضاء باسم (تسريع العدالة) أو (ضبط المرحلة). يجب تحصين المؤسسات القضائية من هذا التدخل عبر نصوص قانونية ومساءلات عامة.
- ضعف البنية التحتية والموارد: لا يمكن لقضاء مستقل أن يُمارس مهامه في ظل بيئة فقيرة الموارد، متخلفة التكنولوجيا، ومفتقرة للمحفزات. يجب تخصيص ميزانية مستقلة للسلطة القضائية، وتحديث بيئتها المؤسسية.
- مقاومة التغيير من داخل الجسم القضائي: ثمة قضاة تشبّعوا بثقافة النظام السابق، وقد يُشكّلون جبهة مقاومة ضد قيم الانتقال. لا بد من برنامج تطهير قانوني عقلاني، يقوم على التقييم المهني لا الانتقام السياسي، ويعتمد على آليات مراجعة الأداء والسجل القضائي.
سادسًا: الدروس المستفادة من التجارب الانتقالية المقارنة
إن تجربة جنوب إفريقيا بعد الأبارتايد، وتشيلي بعد الديكتاتورية، وتونس بعد الثورة، تؤكد جميعها أن نجاح الانتقال لا يتم إلا بقضاء مستقلّ، محميّ من نزعات التسييس، مدعوم بثقافة قانونية جديدة. وقد فشلت دول أخرى في بناء هذه الاستقلالية، فانهارت عملية الانتقال، أو تحوّلت إلى إعادة إنتاج للاستبداد بصيغ دستورية.
الخاتمة: القضاء كضمير الذاكرة الوطنية
في نهاية المطاف، ليست العدالة مجرد حكم يُصدره القاضي، بل هي وعد أخلاقي بأن الدولة يمكن أن تكون عادلة، وأن التاريخ لا يُكتب فقط بمداد السلطة، بل أيضاً بميزان الحق. في فترات الانتقال، حين تكون الذاكرة مثقلة بالدم والانتهاكات، يكون القاضي كاهن الحقيقة، يحرس ذمة المجتمع، ويعيد بناء الثقة في القانون. لهذا، فإن استقلال السلطة القضائية ليس بندًا تقنيًا في ترتيبات دستورية، بل هو سؤال وجودي: هل نريد دولة تُبنى على العدل أم على القهر؟ وهل نملك الشجاعة لنُخضع السلطة للحق، لا أن نُخضع الحق للسلطة؟
فالقضاء المستقل في لحظة التأسيس هو الضمانة الكبرى: ضد التكرار، ضد النسيان، ضد التلاعب بالحقائق. وهو بداية الخروج من الظلم، لا بالدعاء فقط، بل بالحكم العادل، الكلمة النزيهة، والقانون الذي لا يُشترى.
غدًا إن شاء الله تنشر صحيفة الهدف الجزء (11-10) من هذه السلسلة.
Leave a Reply