بدون ألوان.. سلسلة المنسية”4_50″

بقلم: حمدي صلاح الدين

بدأت حاجة العازة تحضيراتها لتخريج ابنها أحمد، الذي اجتاز امتحانات السنة النهائية وسيتخرج مهندساً زراعياً.

شرعت في صناعة الخبائز مع نساء “الجبنة” وتحت إشراف ابنتها الكبرى أميمة. الفرحة لم تكن تسعها؛ فها هي ذي ترى سنين الضنك والعذاب والتعب تُزهر ورداً في حياتها.

كانت حاجة العازة تشعر أن رأسها مرفوعة، والطريفي المدغمس يناديها: “يا أم الباشمهندس”.

زملاء أحمد تواصلوا معها عبر الهاتف في دكان الطريفي، مهنئين ومباركين نجاح وتفوق أحمد.

كانت تدندن طوال اليوم برائعة عبد الرحيم أرقاوي:

برضي منك ما بقصر بحفر أديك المعايا.. كان ده كلو كمان شوية بتلقى في دهبي الكفاية.. أصلي من سويتو ناذره يبقى لي أيام قسايا.. داخره لي الزمن البِعاند ولي سعادتك يا عشايا.. أنت من تبِّيت صغير راسي ما بتحتاج وصايا.. ما حصل خيّبت ظني ولا فشل فيك زين غنايا..

كلنكيت لا يزال في مربع أحزان وفاة أمه (ست الدار)، لكن وقفة أحمد وحاجة العازة القوية معه جعلته يتجاوز الكثير، وبدأ في تلبية احتياجات التخريج من حجز الحافلات لنقل الأهل والأقارب من المنسية إلى الخرطوم، والإشراف على كل مستلزمات السوق للنساء حتى ينجزن الخبائز والحلوى. كل المنسية كانت خلية نحل لأكثر من شهر، احتفاءً بالباشمهندس أحمد؛ فحاجة العازة صاحبة حضور طاغٍ وعلاقات ممتدة في المنسية.

دعت حاجة العازة أدروب وزوجته وأولادهما، وكذلك الأستاذ آدم والأستاذ أحمد، والشاويش ميانق، وعبد الصمد التمرجي، والحاج بابكر، والحاج الفضل، وجيلاني قنصة، والشيخ السماني (شيخ الخلوة)، والطريفي المدغمس، ونساء الجبنة والخلوة والجمعية، ورفيقات “البنبر” من البائعات أمام المدارس وأمام كمائن الطوب، وكل المنسية تقريباً، لحضور حفل تخريج ابنها في أحد أندية بري، الضاحية الخرطومية التي تحتضن العديد من صالات المناسبات.

تحرك ركب مكون من أربع حافلات منذ الثانية عشرة ظهراً إلى الخرطوم، ووصلوا النادي قبل المغرب بقليل.

مشهد الصالة بزينتها وأضوائها الكاشفة كان يسر الناظرين. ورغم التعب والإرهاق، إلا أن الفرح كان يعم الحضور. الأستاذ أحمد، والأستاذ آدم، والطريفي، وأدروب، وعبد الصمد أعدوا هدايا لأحمد وساهموا بعبوات البيبسي والكولا. قدموها للعازة أم أحمد، التي اغرورقت عيناها بالدموع وهي تتسلم “أطنان” من البيبسي والكولا والحلوى المغلفة والخبائز من رجال ونساء المنسية الذين أغرقوها بكرمهم الكبير. هي تستحق ذلك؛ فهي تقف في خدمة كل مناسبات أهالي المنسية من الألف إلى الياء.

كانت التاية وبت المني بت مساعد والرهيف وأميمة يتناوبن في إطلاق الزغاريد من حين لآخر. لم يتوقفن عن إطلاق الزغاريد كلما مر أحمد أمامهن.

أحمد نفسه كان محل احترام كل أهالي المنسية بفهمه العالي ومساعدته لهم ووقوفه مع الحق دائماً، وكذلك أميمة.

“والله حاجة العازة ولدت صح!” قالت بت المنى بت مساعد للرهيف. “الله يهنيها بأولادها وبناتها. ألم تتعب يا ابنة أخي؟ من يتعب يجد الثمرة. العازة من تصبح لغاية ما تمسي وهي تبيع، وعندما ترجع البيت تعمل من صلاة العشاء إلى قريب منتصف الليل. هذا غير دق الريحة وعواسة الآبري وتعليم العرائس الرقص. والله ما فعلته العازة لا يفعله الرجال. الله يحفظ لها أولادها هؤلاء فقط.”

انطلق صوت من مكبر الصوت ينادي على الخريجين وظل ينادي وينادي حتى جاء دور أحمد، فانطلق الصوت مجلجلاً: “من مواليد قرية المنسية.” هنا انطلقت الزغاريد والتكبيرات والتهليلات. وواصل الصوت: “درس المرحلة الأساسية بمدرسة المنسية الأساسية بنين، والمرحلة الثانوية بمدرسة المنسية الثانوية. وتخصص في الهندسة الزراعية، كلية الهندسة، جامعة الخرطوم. الخريج أحمد عبد المجيد الإمام ود ختم.”

كان منظمو حفل التخريج قد أوقفوا العازة عند عتبة سلم الصعود إلى المسرح.

عند صعود أحمد لاستلام شهادته، لم تتمالك نفسها ولم يتمالك هو نفسه. احتضنها ودخلا في موجة بكاء حار. بكاء يحمل شقاء وتعب السنين. جثا أحمد على ركبتيه وقبّل قدميها.

تذكر هو مرارة السنين… وفاة عبد المجيد الإمام ود ختم… موت شقيقه غرقاً في الدفاع الشعبي… وتحمُّل والدته للمسؤولية…

تذكر قهر الحكومة للبائعات الشريفات… الكم فدان التي تغولت عليها المحلية…

هي تتذكر عبد المجيد الإمام ود ختم… ليته كان هنا… ليحتفل بأحمد…

عبد المجيد الذي ألجمته السكتة بعد إحالته للصالح العام…

تذكرت سنوات “البنبر”… برد الشتاء… حر الهجير… صوت الرعد… قلة أدب موظفي المحلية… وطاقية السعف…

تذكرت الصريف… الغرفة الطين…

وتذكرت اعتداء وداعة العبيط عليها… تذكرت هيجان حاج بابكر في وجهها… سوء حاج الفضل وقطعه لإمداد المياه باستمرار عن منزلها…

إيه يا زمن! دموع انهمرت شلالات في أمسية فرح… تعب الغلابة… وفرح الغلابة…

فسقطت حاجة العازة مغشياً عليها. لم يتحمل قلبها كل هذا الشريط المرير من الذكريات. سقطت من فرط الانفعال… وألم الذكريات المرة…

سقطت شامخة، فالأم لا تسقط… ولا البلاد… وإن الظلم لساعة.

قليل من الكولونيا واستراحة لدقائق… أعادت حاجة العازة إلى الحياة… وهي لا تزال في موجة بكاء.

لحظات عصيّة على الجميع… من أن يتحكموا في مشاعرهم… ترابط أهل المنسية… جعل أحمد ابن كل واحد منهم… والعازة أم كل واحد منهم…

أحمد نفسه سقط في اختبار الصمود…

فلم تكف دمعته عن النزول حتى لملمت الكراسي وركبت الحافلات استعداداً لرحلة العودة.

موجة بكاء حارة انتقلت إلى المدرجات حيث الأستاذ آدم والأستاذ أحمد وأدروب وكل من شهد على كفاح امرأة اسمها حاجة العازة، كافحت حتى أوصلت ابنها هذه المرحلة (مرتبة الشرف الأولى).

الأستاذ آدم، مدير مدرسة الأولاد الثانوية، أقوى شخصية في المنسية كلها. طوال سبعة عشر عاماً يدير المدرسة الثانوية بالمنسية، لم يرَ أحد دموعه إلا مرتين: (يوم وفاة ست الدار أم كلنكيت)، ويوم (تخريج أحمد عبد المجيد الإمام ود ختم).

ثم أعلنت إدارة الجامعة تعيين أحمد معيداً بالكلية. وهنا تبدأ صفحة جديدة في المنسية.

نواصل.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.