
تأتي سلسلة مقالات الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير في سياق السعي لتكوين منصة وطنية تهدف إلى توحيد قوى المجتمع الحية من أجل تحقيق السلام العادل، والعدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية حقيقية. تناول المقال السابق: “من الرماد إلى العقد الجديد: رؤية الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير للتأسيس الوطني بعد الـح-ـرب”، أما المقال الحالي، فينتقل إلى بعدٍ مكمّل:
هيكلة سلطات الفترة الانتقالية في السودان: نحو نظام ديمقراطي متوازن ومستدام
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة – أ. ماجد الغوث
مقدمة:
الانتقال السياسي، في الفكر المعاصر، ليس مجرد جسر بين وضعين، بل هو لحظة انبثاق تأسيسي يُعاد فيها طرح السؤال الجوهري: من يملك السلطة، ولماذا؟ وكما أشارت حنّا أرنت، فإن التأسيس السياسي لا يتحقق عبر التفاوض على السلطة فحسب، بل عبر “خلق مجال عام للفعل المشترك”، وهو ما يجعل من المرحلة الانتقالية لا مجرّد مرور اضطراري، بل فرصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس المشاركة، والمساءلة، والعدالة.
في مرحلة ما بعد الـحـ-رب، يصبح إرساء نظام ديمقراطي انتقالي متين ضرورة قصوى لضمان عدم الانزلاق مجددًا إلى الديكتاتورية أو الفوضى.
تؤمن الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير بأن نجاح الانتقال الديمقراطي يعتمد على تأسيس سلطات مستقلة ومتوازنة، قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية بفاعلية، مع ضمان مشاركة كافة القوى الوطنية الديمقراطية. فالسلطة في الفكر السياسي المعاصر لم تعد ملكًا لفاعل فردي، بل لحقل توافقي تُشتق فيه المشروعية من مدى مشاركة الناس، لا فقط من توقيع القوانين.
يقوم هذا النظام على ثلاث سلطات مستقلة:
1. سلطة تنفيذية يقودها مجلس وزراء مدني كامل الصلاحيات.
2. مجلس تشريعي انتقالي يمثل مختلف مكونات الثورة والقوى الوطنية.
3. سلطة قضائية مستقلة لضمان سيادة القانون وتحقيق العدالة الانتقالية.
أولًا: السلطة السيادية ومجلس الوزراء
1. رئيس الجمهورية كرمز شرفي لسيادة البلاد:
يُختار رئيس الجمهورية وفق معايير واضحة:
عدم ازدواج الجنسية لضمان الولاء الكامل للوطن.
الخبرة السياسية والإدارية، والقدرة على تمثيل الدولة دبلوماسيًا.
أن يكون شخصية توافقية تحظى بقبول واسع من القوى الوطنية.
دور الرئيس سيكون تمثيليًا وشرفيًا دون صلاحيات تنفيذية، لتجنب تكرار تجربة الحكم الرئاسي المركزي.
رغم الصفة الشرفية، يجب ألا يُختزل موقع الرئاسة في أبعاده البروتوكولية فقط؛ بل يمثل الرئيس ركيزة رمزية تُسهم في ترميم الشرعية الوطنية بعد النزاعات، ويكون جسرًا وجدانيًا يوحّد مكونات الوطن.
2. تكوين المجلس التشريعي الانتقالي:
يتشكل من ممثلين عن القوى الوطنية الديمقراطية، ويشمل:
الأحزاب الوطنية التي قاومت الاستبداد.
لجان المقاومة التي قادت الحراك الشعبي.
النقابات المهنية والعمالية.
منظمات النساء والطلاب الديمقراطية.
اتحادات المزارعين والرعاة.
فصائل العمل المسلح غير المتورطة في الانقلاب أو الـ-حـرب.
المكونات الدينية والاجتماعية.
ويُراعى التمثيل الجغرافي العادل لضمان عدالة التوزيع ومنع هيمنة النخب المركزية.
3. انتخاب رئيس الوزراء وصلاحياته:
يرشّح المجلس التشريعي رئيس الوزراء من داخله أو من خارجه.
يجب أن يكون شخصية وطنية مستقلة، غير مزدوج الجنسية، ملتزمة بأهداف المرحلة الانتقالية.
يُقر تعيينه بأغلبية ثلثي المجلس لضمان شرعية واسعة.
4. تشكيل الحكومة الانتقالية:
يقدّم رئيس الوزراء المرشحين للوزارات بشروط:
عدم ازدواج الجنسية.
الكفاءة والخبرة.
يخضع الوزراء لموافقة المجلس التشريعي.
تُخصص نسبة لا تقل عن 40% من الوزارات للنساء، التزامًا بالعدالة الجندرية.
5. مسؤولية مجلس الوزراء:
مسؤولية تضامنية أمام المجلس التشريعي.
يمكن للمجلس إقالة أي وزير أو سحب الثقة من الحكومة بأكملها.
لا يتمتع رئيس الوزراء بصلاحيات استثنائية؛ بل تحدد صلاحياته بدقة في الدستور الانتقالي.
ثانيًا: السلطة التشريعية (المجلس التشريعي الانتقالي)
1. المهام:
إقرار التشريعات المؤسِّسة للنظام الديمقراطي.
مراقبة الحكومة.
إصدار قوانين العدالة الانتقالية.
الإشراف على ترتيبات الانتخابات.
ويُناط به أيضًا التشريع الاقتصادي والاجتماعي، لتعزيز المساواة والعدالة الضريبية، وتحفيز الاقتصاد المنتج، وضبط إدارة الموارد العامة.
2. ضمان التعددية:
توزيع المقاعد بشكل يمنع احتكارها من أي مكون.
تمثيل النازحين، اللاجئين، والمغتربين.
اتخاذ قراراته بآلية توافقية لمنع الشلل السياسي.
ثالثًا: السلطة القضائية واستقلال القضاء
1. ضمان الاستقلال:
يُمنع تعيين أي قاضٍ مرتبط بالنظام البائد.
يتم إصلاح القوانين القضائية.
يُختار رئيس القضاء والنائب العام عبر آلية شفافة بإشراف المجلس التشريعي.
2. دور القضاء:
محاكمة مرتكبي جرائم الـح-ـرب والفساد.
إلغاء القوانين المقيدة للحريات.
إعادة هيكلة الأجهزة العدلية لضمان نزاهتها.
رابعًا: التحديات وسبل مواجهتها
يمكن الاستفادة من تجارب مثل:
تجربة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا.
تجربة تونس في التوازن التشريعي.
1. تجنب فشل الحكومات الانتقالية السابقة:
توسيع التمثيل الديمقراطي.
وجود آليات حسم خلافات فعالة.
تحديد دقيق لصلاحيات السلطة التنفيذية.
2. منع عودة النظام القديم:
رفض أي محاولة لإعادة إنتاج الديكتاتورية، سواء عبر الانقلاب أو احتكار السلطة.
فرض رقابة شعبية قوية.
دعم الإعلام المستقل والمجتمع المدني لكشف محاولات تقويض الانتقال الديمقراطي.
3. تعزيز المشاركة الشعبية:
إشراك المجتمع في الرقابة الحكومية.
تمكين الشباب والنساء في القرار السياسي.
تأسيس “مجلس مجتمع مدني انتقالي” بصلاحيات رقابية وتشاورية.
الخاتمة:
تسعى الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير إلى إرساء قواعد راسخة لديمقراطية مستدامة، من خلال هيكلة متوازنة للسلطات، وضمان تمثيل حقيقي لكل مكونات الشعب.
الفترة الانتقالية ليست جسرًا فنيًا نحو الانتخابات فقط، بل فرصة تأسيسية تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. فإما أن يُبنى السودان على ميثاق جديد ينبثق من الشارع، أو تعود الدائرة للانغلاق.
طرح هذا النموذج لا يُقدَّم كبرنامج حزبي، بل كأفق وطني مفتوح، يُعيد للثورة معناها كمشروع للكرامة لا ينتهي.
غدًا إن شاء الله تنشر صحيفة الهدف الجزء (8–11).
Leave a Reply