
تأتي سلسلة مقالات الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير في سياق السعي لتكوين منصة وطنية تهدف إلى توحيد قوى المجتمع الحية من أجل تحقيق السلام العادل والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية حقيقية. تناول المقال السابق: “الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير: نحو تأسيس مشروع وطني جامع”، أما المقال الحالي، فينتقل إلى بعدٍ مكمّل: “من الرماد إلى العقد الجديد: رؤية الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير للتأسيس الوطني بعد الحرب”.
(6 – 11)
من الرماد إلى العقد الجديد: رؤية الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير للتأسيس الوطني بعد الحرب
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
مقدمة
حين تضع الحرب أوزارها، لا تعود الحياة كما كانت، بل تبدأ من سؤال أشد تعقيدًا: كيف يُبنى وطنٌ على أنقاض الدم، ومن يحوّل الركام إلى معنى؟ في السودان، لم تكن الحرب مجرّد اشتباك بين أطراف، بل انهيارًا شاملًا للعقد الاجتماعي، وامتحانًا قاسيًا لفكرة الدولة، وتعريةً صارخة للمؤسسات التي طالما تغنّت بالوحدة فخذلتها عند أول امتحان. ولهذا، فإن ما بعد الحرب لا يُقاس بعدد ما توقّف من الرصاص، بل بما يُستعاد من كرامة وما يُصاغ من أفق جماعي جديد.
إنّ الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير، إذ تنظر إلى هذه اللحظة، لا تراها هدنةً، بل فرصة تأسيسية؛ لا ركْبًا جديدًا فوق الخراب، بل لحظة نادرة لإعادة طرح سؤال: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ ومن يملك الحق في كتابة المصير؟ وفي هذه الرؤية، لا تُطرَح المرحلة الانتقالية بوصفها تدبيرًا إداريًا، بل بوصفها لحظة ميلاد سياسي وأخلاقي، تُستعاد فيها السيادة الشعبية، وتُعاد صياغة علاقة الدولة بالمجتمع، والسلطة بالقيم، والمؤسسة بالإرادة.
فمن الرماد الذي خلّفته الحرب، لا تنبع فقط مهمة الإنقاذ، بل دعوة لتشييد (عقد جديد) – عقد لا يقوم على محاصصات فوقية، ولا على تسويات قسرية، بل على التئام الإرادة الشعبية حول مشروع يعيد إنتاج السودان لا كما كان، بل كما يجب أن يكون.
أولًا: ملامح الفترة الانتقالية
1. مدة الفترة الانتقالية: لا تتجاوز العامين، تُنفَّذ خلالها الإصلاحات الضرورية تمهيدًا لقيام نظام ديمقراطي تعدّدي مستدام.
2. النهج المتبع: تنفيذ المهام الانتقالية بالتوازي، مع إشراك كافة القوى الوطنية في عملية اتخاذ القرار.
ثانيًا: محاور برنامج الفترة الانتقالية
1. مواجهة التحديات المالية والاقتصادية والاجتماعية
إن الاستقلال السياسي الذي لا يُترجم إلى سيادة اقتصادية يبقى مشروعًا معلقًا، كما علمتنا تجارب الجنوب العالمي في مرحلة ما بعد التحرّر. فليس الاقتصاد مجرد أرقام وموازنات، بل هو الترجمة المادية لإرادة السيادة. فلا معنى لاستقلال سياسي تُموّله القروض الأجنبية، ولا لحرية شكلية تحتكم إلى شروط صندوق النقد الدولي. من هنا، تؤمن الجبهة بأن السيادة الاقتصادية هي حجر الزاوية في أي مشروع تحرري ديمقراطي. كما أشار سمير أمين في نقده للتبعية الاقتصادية والاستقلال الشعبي، بأن:
> “ما لم نضع الاقتصاد في موقعه السياسي والتاريخي، فسنبقى نُصلّح الخراب لا نبني البديل.”
وتتضمن الإجراءات:
حشد الموارد الذاتية وسيطرة الدولة عليها لضمان الاستقلال الاقتصادي.
إنشاء صندوق وطني يجذب مدخرات السودانيين في الداخل والخارج لدعم جهود إعادة الإعمار.
تأسيس مؤسسات استثمارية وطنية مثل: بورصة الذهب والمعادن.
إنشاء شركات مساهمة عامة للحبوب الزيتية والصمغ العربي والثروة الحيوانية والقطن.
التوسع في التعاونيات الإنتاجية والخدمية والتسويقية لتمكين المجتمعات المحلية.
تعديل قانون البنك المركزي لضمان استقلاليته، وتمكينه من السيطرة على الكتلة النقدية.
تحقيق استقرار سعر الصرف.
الإشراف على الجهاز المصرفي وإصلاحه.
2. الترتيبات الأمنية والعسكرية
لقد كان تعدّد الجيوش أحد أبرز أعراض انهيار العقد الوطني، وتحويل السلاح إلى أداة رزق لا وسيلة دفاع. لذلك فإن إعادة توحيد المؤسسة العسكرية وتحريرها من التسييس لا يعد إصلاحًا مؤسسيًا فحسب، بل إنقاذًا لروح الدولة ذاتها. وتتضمن الترتيبات:
إعادة بناء الجيش الوطني وفق معايير مهنية ودستورية.
إنهاء ظاهرة تعدّد الجيوش والمليشيات.
تحويل فصائل العمل المسلّح إلى كيانات سياسية عبر برامج الدمج والتسريح.
الاستفادة من تجارب كولومبيا وجنوب إفريقيا في المصالحات وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.
الاستلهام من تجربة كولومبيا بأن:
> “العدالة كمسار لا كعقوبة”، حيث أُنشئت لجان للعدالة والحقيقة بمشاركة الضحايا، وشكّلت برامج لدمج المقاتلين في الحياة المدنية عبر مشاريع إنتاجية تعاونية.
3. إصلاح القوات النظامية والخدمة المدنية
تنقية القوات المسلحة والشرطة والأجهزة الأمنية من بقايا النظام البائد، وفق معايير الشفافية والمنهجية القانونية.
تشكيل لجنة مختصة تضم عسكريين حاليين ومتقاعدين، وقانونيين، تحت إشراف الحكومة المدنية.
إصلاح القوانين لضمان مهنية الأجهزة الأمنية وعدم استخدامها لأغراض سياسية.
4. إلغاء القوانين المقيدة للحريات
إن العدالة الانتقالية ليست مجرد محاكمات قانونية، بل هي فعل اجتماعي – أخلاقي يعيد ترميم العلاقة بين المواطن والدولة. إذ منح ذاكرة الجماعة حقها في الاعتراف والرواية والمشاركة في كتابة تاريخ جديد بلا أقنعة. كما أشار نيلسون مانديلا:
> “الحرية لا تكتمل حين يتحرّر البعض، بل حين يشعر الجميع أن مصيرهم لا يُدار باسمهم بل بإرادتهم.”
وتتمثل الإجراءات في:
مراجعة جميع القوانين التي فرضت الهيمنة الأيديولوجية على مؤسسات الدولة.
إلغاء قوانين التمكين التي استخدمت لتثبيت سلطة النظام البائد.
استبدالها بقوانين ديمقراطية حديثة تضمن حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية وفصل الدين عن الدولة.
5. استمرار عمل لجنة إزالة التمكين وتوسيع صلاحياتها
معالجة الفساد والاستيلاء على المال العام عبر إجراءات واضحة وشفافة.
تحويل لجنة إزالة التمكين إلى مؤسسة دائمة تضمن استعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين.
حظر العمل السياسي والنقابي على من يثبت تورّطهم في جرائم الفساد أو الانتهاكات.
6. إجراء إحصاء سكاني شامل
تحديث السجل المدني لضمان الشفافية في العملية الانتخابية.
توفير بيانات دقيقة حول عدد السكان والمكوّنات الاجتماعية، لضمان سياسات عادلة في توزيع الموارد والتنمية.
7. إنشاء لجنة وطنية مستقلة للانتخابات
إصدار قانون يحدّد مهام وصلاحيات اللجنة لضمان نزاهة العملية الانتخابية.
وضع ضمانات قانونية تمنع التلاعب بالانتخابات.
8. إصدار قانون ديمقراطي للانتخابات
اعتماد نظام التمثيل النسبي والقوائم الانتخابية.
توزيع الدوائر الانتخابية وفق الثقل السكاني، يضمن تمثيل اللاجئين السودانيين في الخارج والمواطنين في معسكرات النزوح.
إتاحة مشاركة جميع القوى السياسية والمجتمعية.
9. صياغة دستور دائم للبلاد
سيكون المؤتمر الدستوري لحظة تعاقد رمزية تُشبه لحظات روّاد التنوير في أوروبا أو حركة مانديلا في جنوب إفريقيا. لحظة يؤسّس فيها المجتمع ذاته، لا بوصفه تابعًا لماضٍ نُهبت فيه الإرادة، بل صانعًا لميثاق جديد يرتكز على وحدة الإرادة والتعدّد الحيّ. وكما أشار حنا أرنت:
> “السياسة لا تبدأ حين يُقسم الناس الولاء، بل حين يُقررون أن يتصرّفوا معًا.”
ويتمثل ذلك في:
تشكيل لجنة وطنية لإعداد الدستور تضم مختصّين قانونيين وممثّلين عن القوى السياسية والنقابية ولجان المقاومة.
الاعتماد على الإرث الدستوري السوداني وتجارب الدول الديمقراطية في إفريقيا والعالم العربي.
عرض مشروع الدستور على مؤتمر دستوري شامل، ليُعتمد لاحقًا باستفتاء شعبي.
10. التحضير لمؤتمر دستوري جامع
يضم ممثّلين عن الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية، اتحادات المزارعين والعمال، لجان المقاومة، القوى النسوية والطلابية، وفصائل العمل المسلّح غير المتورّطة في الانقلاب والحرب.
التداول حول مستقبل السودان واعتماد مسودة الدستور للعرض على البرلمان المنتخب.
11. الإشراف على قيام انتخابات نزيهة وشفافة
تحت إشراف لجنة الانتخابات الوطنية المستقلة.
بمراقبة جهات إقليمية ودولية لضمان النزاهة.
ضمان مشاركة جميع السودانيين المؤهّلين داخل وخارج البلاد.
ثالثًا: ضمان نجاح المرحلة الانتقالية
1. رفض أي محاولة لإعادة إنتاج الحكم العسكري بأي صيغة كانت.
2. إشراك جميع القوى الديمقراطية في صنع القرار.
3. فرض رقابة شعبية على الحكومة الانتقالية لمنع إعادة إنتاج الفساد والاستبداد.
4. الالتزام بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد لضمان انتقال سلس إلى الحكم المدني.
رابعًا: ملامح الطريق الوطني – من الخراب إلى التأسيس
النتيجة المتوقعة المهمة المركزية المرحلة
تهدئة، وقف النزيف، استعادة الدولة الرمزية وقف إطلاق النار، إنشاء إدارة انتقالية مدنية ما بعد الحرب (0–6 شهور)
استعادة الثقة، خلق فضاء سياسي تعدّدي إصلاح الجيش، العدالة الانتقالية، بناء المؤسسات الفترة الانتقالية (سنة–سنتان)
انبثاق شرعية ديمقراطية من الإرادة الشعبية عقد المؤتمر الدستوري، إقرار الدستور، إجراء الانتخابات مرحلة التأسيس (السنة 2–3)
الخاتمة
إن ما بعد الحرب ليس نهاية للمأساة، بل بداية لمعركة المعنى. الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير في هذا السياق ليست مجرد مشروع سياسي، بل وعدٌ أخلاقي بأن لا تُختزل تضحيات الأبرياء في بيانات سياسية عابرة، وبأن لا يُعاد تدوير الجلادين بلباس مدني. فإما تأسيس جديد يستحق التضحيات، أو ارتكاس يعيدنا إلى المربع الأول. والفرق لا تُصنَع بالخطابات، بل بالإرادة. والجبهة، إذا صدقت مع نفسها، ستكون الاسم الجديد للمستقبل الممكن. فمن لا يتحرّك اليوم ليؤسّس الغد، سيجد نفسه غدًا يدافع عن الأمس الميت.
Leave a Reply