ميشيل عفلق وسبل البعث

(في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب ويكثر المتشائمون يجب أن يظهر المؤمنون الحقيقيون، ولا يأتي الإيمان الحقيقي إلا بنتيجة التجربة والمعاناة، ونتيجة الامتزاج الفعلي بين الأفراد وبين مصير أمتهم. عندما يتم هذا الامتزاج نستطيع أن نثق بأن العرب يسيرون إلى ظفر محقق في آخر هذه التجربة، وأنهم سيحملون ثماراً روحية وخلقية وفكرية لا تغذي مستقبلهم فحسب وإنما بمقدورها أن تنقذ الإنسانية مما ينتابها من اضطراب في القيم، ومن تشويه فيها لأن هذه التجربة التي يمر العرب بها اليوم لا أعتقد بأن أمة غير العرب قد عانتها، فإذا كان ابتلاؤها بهذه المصائب أليماً موجعاً، فعلينا أن ننظر أيضاً إلى حكمة القدر الذي يوصل الأمة العربية للعظمة والمجد حتى في أوقات محنتها وتأخرها، فارتقاؤها يكون عظيماً وقيمتها أيضاً عظيمة، ولا تكون الآلام عميقة إلى هذا الحد إلا لكي نستكشف كنوزاً عجزت عن الوصول إليها أمم غيرنا. وما هذه التجارب التي يفرضها القدر علينا إلا في سبيل أن نخرج من بعد طول القعود والسبات بتجديد وإكمال للرسالة وللقيم وللحضارة العربية التي إنما قدر لها أن تتغذى دوماً بالآلام والأتعاب).
ميشيل عفلق – في سبيل البعث – الجزء الأول. (عام 1950)
وفي هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب، وهذا الزمن الذي تتعالى فيه موجات التشاؤم، وتتكاثر الكوارث والنكبات بالأمم، ألم يحن لنفوسنا أن تهتز الاهتزاز العميق لنتذكر ذواتنا وننتفض بانطلاق وحيوية وإيمان في سبيل تحقيق الرسالة الخالدة؟؟؟
وبالتأكيد أن الاهتزاز الذي يقصده المفكر ميشيل عفلق ليس اهتزاز العضلات والدبابات وأزيز الطائرات، وإنما ذلك الذي يأتي بالإيمان الحقيقي المنبثق من التجربة والمعاناة، والممتزج بين الأفراد ومصيرهم.
لفت انتباهي وأنا أطالع كتابات المفكر ميشيل عفلق أنه قد زودنا فيها بخرائط الطرق، ومنها (الامتزاج) الفعلي بين الأفراد والكيانات، ذلك الامتزاج الذي يؤدي للظفر المحقق، وخطر في خاطري تلك الدعوات والمبادرات لترسيخ مفهوم القومية، ولربما يكون الامتزاج الذي يقصده المفكر ميشيل هو خارطة الطريق لترسيخ هذا المفهوم، وذلك لأن الامتزاج يأتي من الفعل (مزج) ويكون المفعول فيه (ممتزج)، وهو يعني الاختلاط دون (قيود)، وذلك حسب ما ورد في – القاموس العربي -، وهو أمر يتوقف على القابلية والقدرة، والقابلية تتعلق في بعض منها بالشعور الذي يولد القدرة، وهو أمر يتوافق مع مفهوم القومية من حيث إنها شعور ومبدأ اجتماعي يتوقف على التعلق والاشتراك، الأمر الذي يجعل منها أيديولوجية تقوم على الهوية والثقافة والتجارب التاريخية، وتتطلب سمات مشتركة لوصفها مثل السمات الاجتماعية والنفسية والحضارية، وهي سمات تعتبر بمثابة حجر أساس للشخصية القومية المكونة للمجتمع القومي الذي تنبثق عنه الأمة.
والامتزاج القومي يحتاج لمجموعةخ من الكليات الفكرية لتكون بمثابة مرجعية لتفسير النسق التصنيفي للمفاهيم التي تناولها المفكر ميشيل عفلق والتي هي في حقيقتها أدوات فكرية لتحديد النموذج السلوكي والتنبؤ بمسار المستقبل.
وإذا اتفقنا بأن المفهوم هو (فكرة) تشير إلى الظواهر فإن هذا الوصف يضعنا أمام مسؤولية دراسة الخصائص. مثلا إذا كان (الامتزاج) الذي أشار إليه المفكر ميشيل عفلق يخص مفهوم القومية وأقصد بذلك امتزاج القوميات داخل كيان الأمة، فلابد لنا من دراسة الخصائص المشتركة بين هذه القوميات والوظائف التي تؤديها هذه الخصائص، وذلك تمهيداً للتعلق والقبول.
وإذا تناولنا القومية كظاهرة اجتماعية نجد أنفسنا أمام ضرورة الأخذ بالمنهاج العلمي لتتبع التطور السلوكي والنظامي للخروج بها من حلقة المضاربات إلى أفق الدراسات المنهجية ولنستطيع الوقوف على عناصرها وخصائصها ومقوماتها وطبيعتها حتى نتمكن من وضع الوسائل الكفيلة بتفعيلها.
وهناك العديد من العناصر التي ترتبط بالمفهوم القومي مثل عنصر النظام القومي والقوة القومية والدولة القومية والقيم القومية والشرعية القومية، وعملية بناء الإطار المفاهيمي لهذه العناصر يقتضي التعرف على مفاهيم أخرى مثل مفهوم الشرعية ومفهوم الصراع الأيديولوجي ومفهوم الاندماج ومفهوم المصلحة ومفهوم القوة ومفهوم الدولة، وذلك نزولاً لمقتضيات التحليل الذي يجعل من هذه المفاهيم عناصر للامتزاج القومي ولازمة من لوازم الترسيخ.
إن الامتزاج الذي يدعو إليه المفكر والمؤسس ميشيل عفلق هو الامتزاج القائم على الثقة في الأنفس أولاً ثم في الآخرين……. فكيف تتحقق الثقة بين الشعب السوداني فيما بينهم؟؟؟ وفي العرب فيما بينهم؟؟؟ وكيف لنا أن ننقذ الإنسانية من الاضطراب؟؟؟