
نيروبي: محمد أمين ياسين
في قلب السودان الذي تمزقه نيران الصراع، حيث تتسع رقعة الألم وتتفاقم فصول المأساة، تبرز بلدة “طويلة” في شمال دارفور كعنوان دامٍ جديد لرحلة نزوح قسرية لا تنتهي. تستقبل هذه البقعة المنكوبة بين أزقتها وبيوتها المتواضعة آلاف الأرواح الشاردة التي اقتلعتها رياح الحرب العاتية من جذورها في الفاشر المحاصرة ومخيمات زمزم وأبو شوك. هنا، في هذا الملاذ الهش، يواجه المنكوبون قدرًا آخر من المعاناة، كما يرصد بعين دامعة مراسل صحيفة “الشرق الأوسط”.
2
تحت سماء “طويلة” الشاحبة، يتكدس النازحون كأشباح مرهقة، تلفهم براثن الجوع والعطش، وتفترش أجسادهم النحيلة الأرض الصلبة دون غطاء يحميهم من قسوة الطبيعة وتقلبات الطقس. وتصف المنسقية العامة للنازحين واللاجئين بدارفور، بمرارة، الوضع بـ”الكارثي”، مؤكدة أن الحاجة إلى تدخلات إنسانية عاجلة باتت صرخة وجودية تنقذ أرواحًا تلفظ أنفاسها الأخيرة على أعتاب الموت.
3
يقول آدم رجال، المتحدث باسم المنسقية، بصوت تخنقه العبرات لـ”الشرق الأوسط”: “نحن على مشارف إعلان حالة الطوارئ القصوى في هذه البقعة المنكوبة، فالحاجة إلى العون الغائب تفوق قدرة الكلمات على الوصف”. ويشير بقلب مثقل إلى أن “النقص الحاد في أبسط مقومات البقاء، من مأوى يحمي الأجساد العارية إلى قطرة ماء تروي الظمأ، يشكل التحدي الأكبر، فآلاف الأرواح تجد نفسها في مواجهة العدم المطلق”. ويضيف بنبرة يائسة أن المدنيين الذين تمكنوا بأعجوبة من الفرار من جحيم الفاشر والمخيمات المجاورة، “خرجوا بأرواحهم العارية، وبعضهم بصحبة أطفال يتشبثون بأذيالهم، ليجدوا أنفسهم في مواجهة العوز المدقع، في ظل استجابة محلية تطوعية خجولة لا تكاد تسد رمق جوعهم”.
4
وتتوالى الشهادات المروعة من أفواه النازحين المكلومين، التي تحكي فصولًا من الرعب والانتهاكات الوحشية التي قاسوها خلال رحلة النزوح القاسية، من فقد الأحبة تحت سنابك الخيل إلى اغتصاب الطفولة البريئة وسرقة ما تبقى من فتات الحياة، وصولًا إلى الموت البطيء جوعًا وعطشًا على طرق النزوح الموحشة.
ووفقًا لإحصائيات المنسقية الموجعة، استقبلت “طويلة” منذ مطلع أبريل المنصرم، تاريخ تجدد القتال الضاري في الفاشر ومحيطها، ما يناهز ثلاثمائة ألف نازح، ليبلغ إجمالي القاطنين في هذه البقعة المنسية، بمن فيهم أهلها الأصليون، رقمًا يفوق طاقتها على التحمل والاستيعاب.
5
تقع “طويلة” على بعد بضعة وستين كيلومترًا غربي الفاشر، آخر قلاع الجيش السوداني الصامدة في غرب البلاد، والتي ترزح تحت حصار “قوات الدعم السريع” منذ عام مضى. وفي هذا السياق المأساوي، يشير رجال بصوت خافت إلى أن الوضع الأمني في “طويلة” يبدو هادئًا ظاهريًا، إلا أن الاحتياجات الإنسانية الهائلة تفوق قدرة المجتمع المحلي والمنظمات الإنسانية الوطنية والسلطات هناك، لافتًا إلى أن البلدة تخضع لإدارة مدنية تحت سلطة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد أحمد النور.
ويوضح أن قادة المجتمع المحلي أطلقوا مبادرات شعبية خجولة لإغاثة النازحين، لكنهم يواجهون صعوبات جمة في تلبية الاحتياجات المتزايدة يومًا بعد يوم بسبب الأعداد الهائلة التي تتدفق على البلدة المنكوبة.
6
وتفيد مصادر لـ”الشرق الأوسط” بأن ما يقارب سبعين بالمائة من سكان مخيم زمزم قد نزحوا قسرًا إلى محلية “طويلة” ومناطق أخرى بالولاية، عقب الهجوم الأخير الذي شنته “قوات الدعم السريع”، والذي خلف وراءه بحرًا من الدماء ودموع الأبرياء. وتشير المصادر ذاتها إلى أن من تبقى في الفاشر والمخيمات يعيشون أوضاعًا إنسانية بالغة السوء والبؤس، جراء النقص المميت في الغذاء ومياه الشرب والدواء، في ظل استمرار الجيش والقوة المشتركة في فرض قيود خانقة على حركة المدنيين ومنعهم من مغادرة الفاشر، وإجبارهم على البقاء تحت سياط التهديد والقصف المتبادل.
7
وتكشف المنسقية العامة للنازحين واللاجئين عن فصل آخر من فصول المأساة، يتمثل في تنفيذ الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش والقوة المشتركة حملة اعتقالات طالت العشرات من القادة والنشطاء المتطوعين في مخيم أبو شوك، بتهمة “التعاون مع قوات الدعم السريع”، وهو ما تعتبره المنسقية “تهمًا زائفة لا تستند إلى أي أساس قانوني”.
وتفيد معلومات مؤلمة حصلت عليها “الشرق الأوسط” بأن معبر أدري الحدودي مع دولة تشاد الشقيقة بات يشكل شريانًا هشًا لإيصال قطرات من العون الإنساني إلى النازحين الجدد في “طويلة”، حيث وصلت خلال الأيام القليلة الماضية قوافل هزيلة من الشاحنات المحملة ببعض المواد الغذائية والأدوية ومستلزمات الإيواء، إلا أنها لا تزال قطرة في بحر الاحتياجات المتزايدة.
وفي ختام هذا التقرير الموجع، تطلق المنسقية العامة للنازحين واللاجئين صرخة استغاثة أخيرة إلى ضمير العالم الحي، مطالبة بتحرك فوري وعاجل من المنظمات الدولية والمحلية لإنقاذ حياة آلاف الأبرياء من شمال دارفور الذين وجدوا في “طويلة” محطة مؤقتة لمعاناتهم التي لا تنتهي.
*نقلاً عن الشرق الأوسط (بتصرف)