أضواء “الشباب والاقتصاد السوداني: طاقات مهدورة أم فرص واعدة؟”

(FILES) A street vendor awaits customers at a market in war-torn Khartoum on May 19, 2023. Out of work as fighting rages between the forces of rival generals, many Sudanese have been forced to find creative ways to support themselves and their families. (Photo by AFP)

على الرغم من أن السودان يُعد من الدول ذات التركيبة الديموغرافية الشابة، حيث يمثل الشباب السوداني ركيزة أساسية في الحراك الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. وتشير تقديرات المجلس القومي للسكان، المنشورة حديثًا في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 27 أبريل 2025، إلى أن الفئة العمرية بين 15 و30 عامًا ستشكل حوالي 60% من إجمالي السكان بحلول عام 2035، مما يعكس ضخامة الدور المتوقع لهذه الشريحة في تشكيل مستقبل السودان الاقتصادي والاجتماعي. أما في الوقت الراهن، فتُشير الدراسات، مثل دراسة البروفيسور عطا البطحاني الصادرة عن مؤسسة فريدريش إيبرت في ديسمبر 2022، إلى أن نسبة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و39 عامًا تشكل نحو 27.7% من السكان وفقًا لإحصاءات عام 2008، مع تزايد تدريجي في النسبة بمرور الزمن. وبين الواقع الراهن والتوقعات المستقبلية، يبرز التحدي في كيفية تحويل هذه الطاقة الشبابية الهائلة من حالة الإهدار والبطالة إلى قوة فاعلة في دفع عجلة التنمية الاقتصادية المستدامة. إلا أن هذه الكتلة البشرية الهائلة لا تزال مهمشة بدرجات متفاوتة في دورة الإنتاج الوطني، ما يشكل مفارقة صارخة في سياق الحديث عن التنمية والنهضة الاقتصادية. في واقع الأمر، فإن أي مشروع اقتصادي لا يُدرج الشباب كمحرك أساسي في التخطيط والتنفيذ، هو مشروع معرض للشلل أو الموت البطيء.

أول ما يبرز في هذا المشهد، هو حجم البطالة المرتفع وسط الشباب السوداني، والذي فاق بحسب تقديرات منظمات دولية ومحلية 35% في السنوات الأخيرة، وقد يكون أعلى في ظل الحرب المستمرة وتوقف الاستثمارات والإنتاج في قطاعات واسعة. هذا الرقم لا يعكس فقط فقدان الوظيفة، بل يشير إلى نزيف مزمن في رأس المال البشري، وهجرة متزايدة إلى الخارج، وتوسع في الاقتصاد غير الرسمي. إنها طاقات تُهدر كل يوم، كان يمكن أن تخلق قيمة مضافة في قطاعات الزراعة، والصناعات الصغيرة، والخدمات الرقمية، لولا غياب سياسات تشغيل واقعية ومستدامة.

لكن المسألة لا تتوقف عند التشغيل فقط، بل تتعداه إلى تمثيل الشباب في اتخاذ القرار الاقتصادي. المؤسسات الحكومية والمالية والبنكية، لا تزال تدار بعقليات محافظة، لا تمنح الجيل الجديد فرصة للإبداع في مجال السياسات، أو للاستثمار في الاقتصاد الرقمي، أو للاشتراك في عمليات الإصلاح والتخطيط الاقتصادي. هذا الإقصاء لا يُنتج فقط فراغًا في قيادة التحول، بل يخلق شعورًا باللاجدوى، يدفع الشباب نحو الهجرة أو نحو دوائر السخط والانكفاء.

وفي المقابل، تشير بعض التجارب السودانية (وإن كانت محدودة) إلى أن الشباب يمكن أن يكونوا رافعة قوية للنمو الاقتصادي حين تُتاح لهم الموارد والبيئة المناسبة. مبادرات الزراعة المطرية الحديثة في بعض المناطق، ومشروعات التصنيع الغذائي التي يقودها شباب، واستخدامهم المكثف للتكنولوجيا في التسويق والتمويل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كلها أمثلة تُظهر ما يمكن أن يحدث حين يتم تمكين الشباب لا احتواؤهم شكليًا.

أزمة الاقتصاد السوداني، إذن، ليست فقط في شح الموارد أو تراجع النمو أو اختلال الميزان التجاري، بل في غياب نموذج تنموي يحتضن الشباب بوصفهم أداة إنتاج، لا عبئًا اجتماعيًا. إعادة رسم هذا النموذج يتطلب بالضرورة تغييرًا في السياسات المالية، والتعليمية، والتخطيطية. فمن دون إصلاح النظام التعليمي ليتوافق مع احتياجات السوق، وتطوير نظم التمويل الأصغر، ودعم الريادة الشبابية، فإن أي وعود بالنمو ستظل حبرًا على ورق.

ومن الناحية الاجتماعية، فإن تمكين الشباب اقتصاديًا ليس مجرد واجب تنموي، بل ضرورة للحفاظ على الاستقرار. فشباب بلا أمل اقتصادي هم وقود لأي فوضى محتملة، بينما شباب مندمج في الاقتصاد، هم ضمان لأي عقد اجتماعي جديد ومستقر.

إن الطريق نحو تعافٍ اقتصادي سوداني حقيقي يمر عبر الشباب، لا حولهم. وإذا ما أردنا مستقبلاً أكثر إشراقًا لاقتصادنا الوطني، فعلينا أن نعيد النظر في سؤال: من يقود عجلة الإنتاج؟ الإجابة الحقيقية يجب أن تكون: جيل الشباب، لا من أجلهم فقط، بل من أجل بقاء الدولة نفسها.