
كل شيء قد تغير، الشوارع التي كانت تضج بالحياة، صارت خالية تمامًا إلا من الركام، البيوت مفتوحة كأنها تعاتب أهلها الذين غادروها بغير وداع. النوافذ محطّمة، الجدران توشحت بالحزن. لا صوت، لا حركة، فقط رائحة الرماد، وأثر موت لا يزال طريًّا في زوايا الطرقات.
مدينة ود مدني تعيش في إهمال وكأنها شيخوخة النهاية لمدينة كانت تضج بالحياة والجمال قبل هذه الح.رب اللعينة التي سلبتها نضارة شبابها.
رصدت “الهدف” عودة مستمرة لسكان المدينة منذ دخول الجيش في 11 يناير الماضي بعد خروج قوات الد.عم الس.ريع دون قتال، حيث بات مألوفًا دخول أعداد كبيرة من الحافلات والسيارات التي تحمل العائدين من النزوح الداخلي، ومن اللجوء الذي اضطروا إليه خارج السودان.
مناظر محزنة:
يواجه العائدون للمدينة منظر السيارات المحترقة وهي تقف في منتصف الطريق، كأنها تحرس الذكريات. الجدران تتحدث بلغة الخوف، وكل زاوية تروي حكاية موت لم تُستكمل فصولها.
المدينة تواجه تحديات على صُعد مختلفة، بسبب الدمار الذي لحق بالخدمات وفقدان الممتلكات، في وقت تحتاج فيه الولاية لإسناد متقدم لإعادة الحياة لطبيعتها.
وتراوح أزمات الكهرباء والمياه وإزالة النفايات والخدمات الأخرى مكانها.
فيما لا تزال شوارع المدينة المتربة مكدسة بالنفايات ومخلفات الجثث وأنقاض قصف الطيران على الأحياء والأسواق.
وعلى الأرض، بدا إيقاع استعادة الحياة الطبيعية بطيئًا واقتصرت جهود النظافة على تحركات محدودة لآليات الدفاع المدني لنظافة الشوارع، فيما اجتهد متطوعون بمجهودات ذاتية في نظافة أحيائهم وإزالة الأنقاض والنفايات والأوساخ.
غياب الأمن:
في السياق، عاد بعض أفراد الشرطة والأمن للانتشار في الشوارع وتأمين المؤسسات الحكومية والمستشفيات والمراكز الخدمية، ورغم ذلك لا تزال السرقات للمنازل التي غاب سكانها بسبب النزوح مستمرة تحت مرأى ومسمع السلطات الأمنية، بل هنالك من يتهمهم بالمشاركة في السرقات.
أفراد من الجيش والأجهزة الأمنية يدخلون منازل من يتهمونهم بمناصرة الد.عم الس.ريع أو الانتماء لأحزاب لا تناصر الجيش بأخذ ممتلكاتهم ومصادرتها.
استمر الإغلاق التلقائي للأسواق (السوق الكبير، سوق الخضار، السوق الشعبي والسوق الجديد) في وقت تنشط فيه بعض أسواق الأحياء في عووضة والإسماعيلي شرق مدني، وغيرها من الأسواق الصغيرة التي تلبي بعض احتياجات المواطنين.
رصد مراسل “الهدف” استمرار أسواق المسروقات في عملها المعتاد دون أن تحرك السلطات ساكنًا أو تتخذ الإجراءات القانونية في حقهم.
نظام سابق:
“الهدف” رصدت عودة العديد من قيادات وأنصار النظام السابق وتصدرهم للمشهد في المدينة وانتشار مليشياتهم داخل الأحياء والمراكز الخدمية وقيادة حملات ضد النشطاء السياسيين وأنصار لجان الخدمات.
ورغم إعلان والي الجزيرة عن عودة محطات الوقود للعمل وافتتاحه لمحطة (أويل ليبيا) بشارع المحطة جنوبي مدني إلا أن المحطات لم تعمل مما يعني انعدام الجازولين والبنزين الذي يأتي من مدن مجاورة مثل المناقل والفاو.
انعدام الوقود ترتب عليه عدم وجود المواصلات حيث استمرت عربات (الكارو) في العمل كوسيلة لنقل المواطنين إلى جانب الدراجات الهوائية.
وتتوفر بعض الخضروات في أسواق الأحياء بشكل متقطع ومتذبذب مع حالة ندرة كبيرة للحوم الحمراء والبيضاء والألبان ومنتجاتها بالتزامن مع انعدام غاز الطبخ.
وفيما يتعلق بخدمات الكهرباء لا تزال أحياء المدينة تعيش في ظلام دامس منذ شهور مع عودة المياه في بعض الأماكن بعد تشغيل عدد محدود من المحطات بالطاقة الشمسية أو بالجازولين على ندرته وقلته.
عودة اضطرارية:
وكانت كل المشافي قد توقفت عن الخدمة منذ اقتحام قوات الد.عم الس.ريع للمدينة ما عدا مستشفى الجزيرة لأمراض وجراحة الكلى الذي كان يعمل بطاقة محدودة إلا أنه عاد للعمل بصورة طبيعية حيث سلمت آلات ومعدات غسيل الكلى من السرقة ولم تتعرض للنهب بعكس بقية المستشفيات.
وفرضت الح.رب واقعًا قاسياً على سكان ود مدني الذين ما زال الألف منهم بين نازح داخل السودان ولاجئ خارجه، رغم سيطرة الجيش على الولاية.
وتقول أم حسن، وهي إحدى اللائي كن يقطن بأحد أحياء “الدرجة” ولجأت إلى مصر عقب الح.رب، إنها سارعت بالعودة فور سيطرة الجيش عليها لتفقد منزلها والاستقرار به، بعد أن عانت كثيراً من توفير قيمة الإيجار بمنطقة فيصل بالجيزة.
لكنها أوضحت أنها لم تستطع التأقلم والبقاء لأكثر من شهر، فقد وجدت منزلها منهوبًا بالكامل، والحياة بلا ممتلكات أو خدمات كالمياه والكهرباء ومقومات الحياة الأخرى قاسية للغاية، فقررت العودة مرة أخرى مع أطفالها إلى مصر، ريثما تستقر الأوضاع تماماً وتتوفر الخدمات.