
طهران تعود إلى دائرة الأضواء في المشهد السوداني بعد تداول تقارير حول دعم عسكري وتواجد ملموس في الح*رب السودانية التي ضربت الأرض بقسوة منذ أبريل 2023، وتحول السودان إلى ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية المتنافسة، إذ لم تعد المعركة محصورة بين الفصائل السودانية وحدها، بل امتدت لتصير معركة وجود لأجندات إقليمية كبرى تتوق للتمدد والنفوذ. من بين هذه الأجندات التي ألقت بظلالها بقوة على المشهد، التحالف الإيراني–السوداني الذي أعاد تشكيل ملامح المشهد العسكري والاستراتيجي في السودان بمنظور جديد، فغدت الخرطوم نقطة محورية في مواجهة ضروب النفوذ الإقليمي والدولي المختلفة. “الهدف” سعت لاستجلاء هذا الوجود والدعم الايراني
عودة العلاقات.. صفحة تُفتح بعد سنوات الصمت
بعد قطيعة دبلوماسية امتدت لنحو ثماني سنوات (منذ 2016)، شهد ديسمبر 2023 توقيع اتفاقية أعادت فتح صفحة العلاقات بين طهران والخرطوم. لم تكن هذه العودة مجرد إجراء دبلوماسي بحت أو مجرد إعادة سفارة وموظفين، بل جاءت كترجمة لتغيرات استراتيجية سياسية وعسكرية عميقة ألقت بظلالها على موازين القوى في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث وجدت الخرطوم في الجانب الإيراني شريكاً استراتيجياً يُعتقد أنه قادر على مد يد الدعم لها في مواجهة أزماتها الداخلية المسلحة.
وجاءت القطيعة بين الطرفين عام 2016 تحت وطأة ضغوط إقليمية، خاصة من السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي دفعت الخرطوم لإغلاق سفارة طهران، بهدف الضغط على إيران وعزلها وإبعاد السودان عن دائرة نفوذها الإقليمي.
وطبقاً لمتابعات “الهدف”، فإنه عقب الانقلاب العسكري في السودان في 25 أكتوبر 2021، وما تبع ذلك من حالة حصار جماهيري للانقلاب وعدم اعتراف دولي واسع به، فضلاً عن التدهور المتسارع في الوضع الأمني داخلياً، تولدت حاجة ملحة لدعم خارجي يتجاوز دائرة النفوذ الخليجي التقليدي. وهنا برزت طهران كخيار استراتيجي ممكن، خاصة مع ما يُعرف عن خبرة الح*رس الثو*ري الإيراني في الح*رب غير التقليدية وأساليب القت*ال غير النظامية. لتنطلق بذلك صفحة ربما بدأت سرية في التعامل بين عسكر السودان والإيرانيين، سرعان ما اتخذت طابعاً أكثر علانية مع اندلاع الح*رب الراهنة في السودان.
الدعم العسكري.. شحنات ترسم مسار الميدان
تواترت التقارير والمعلومات بكثافة وهي تتطرق لملف التعاون العسكري بين الخرطوم وطهران عقب اشتعال المواجهة بين الجيش وقوات الد*عم السر*يع. بيد أن الح*رب الإعلامية بين أطراف الصراع خلقت نوعاً من المحاذير في التعامل مع المعلومات المتاحة، خصوصاً وأن لكل طرف أجندته في توريط الطرف الأخر وتسخين الملفات المرتبطة بالتدخلات الخارجية.
بحسب متابعات “الهدف” نقلاً عن تقارير إعلامية استندت إلى مصادر استخباراتية وتقارير متعددة، نفذت شركة “قشم فارس إير”، وهي شركة مرتبطة بالح*رس الثو*ري الإيراني وتخضع لعقوبات أمريكية، عدة رحلات شحن جوي بين ديسمبر 2023 ويوليو 2024 متجهة إلى بورتسودان. وأفادت هذه التقارير برصد ما لا يقل عن سبع رحلات نفذتها هذه الشركة في النصف الأول من عام 2024 وحدها، مما يشير إلى وتيرة منتظمة لنقل الإمدادات.
شملت هذه الشحنات أنواعاً متعددة من الأسلحة والمعدات العسكرية، كان من أبرزها طائرات مسيّرة من طرازات “مهاجر-4″، “مهاجر-6″، و”أبابيل”، التي يُصنع منها السودان نسخة محلية باسم “زاجل-3”. تتمتع هذه الطائرات بإمكانيات قتالية متقدمة في الاستطلاع وجمع المعلومات، بالإضافة إلى قدرتها على القصف الدقيق للأهداف.
فضلاً عن الطائرات المسيّرة، تضمنت الشحنات أيضاً أنظمة إلكترونية متقدمة كأنظمة مراقبة واستطلاع تتيح التتبع المكثف والتحكم الميداني، وكذلك صواريخ تتضمن صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى تسمح بتوجيه ضربات خاطفة ومباغتة على مواقع العدو. وبحسب معلومات متداولة في بعض التقارير، يُعتقد أنه تم نقل بعض الصواريخ إلى مجمّع أنفاق تحت الأرض يقع بالقرب من الخرطوم، كان قد شارك الإيرانيون في تشييده سابقاً.
وشمل الدعم العسكري الإيراني أيضاً معدات التشويش والرادار لتعطيل الاتصالات والرصد المعادي، مما يُعتقد أنه منح الجيش السوداني أفضلية تكتيكية في معاركه ضد قوات الد*عم السر*يع. وطبقاً لمتابعات “الهدف”، تم الحصول على نظام الإنذار المبكر المعروف بـ”مطلع الفجر-1” ضمن هذه المعدات.
إيران، بعد رحلة القطيعة الطويلة والممتدة، لم تبخل على عسكر السودان في هذا الفصل من الح*رب. فقد تضمن دعمها كذلك أنظمة دفاع جوي خفيفة تهدف إلى حماية المواقع الحيوية من القصف الجوي والطائرات المسيّرة المعادية.
بيد أن آخر ما ورد عن الدعم العسكري الإيراني للخرطوم بحسب التقارير هو استمرار استخدام الجيش السوداني لدبابات من طراز T-72Z الإيرانية الصنع أو المُرخّصة إيرانياً (المعروفة محلياً باسم “الزبير-1”)، والتي حصل عليها السودان منذ عام 2006 وتم تحديثها بمساعدة إيرانية، مما يشير إلى أن الدعم شمل أيضاً تحديث وتأهيل معدات قديمة.
من التسليح إلى التدريب.. نقل الخبرة في أتون المعركة
لم يكن الدعم الإيراني مقتصراً على توريد الأسلحة والمعدات فحسب، بل امتد ليشمل إرسال خبراء من الح*رس الثو*ري الإيراني إلى السودان، يُعتقد أن مهمتهم الأساسية هي تدريب القوات السودانية على استخدام التكنولوجيا والتكتيكات الح*ربية الجديدة التي تتطلب خبرة متخصصة، خاصة في مجال الطائرات المسيّرة.
ونقلت العديد من التقارير معلومات منسوبة إلى مصادر تشير إلى وجود أكثر من 117 عنصراً عسكرياً وفنياً إيرانياً في بورتسودان والخرطوم، انتشروا في مواقع استراتيجية فيهما وخارجهما بعد اندلاع الح*رب. وأمتد دورهم، بحسب هذه التقارير، من التدريب على استخدام الطائرات المسيّرة والمعدات المتقدمة إلى الارتباط الميداني وتقديم الدعم المباشر للعمليات القت*الية في ميدان المعركة.
يُعتقد أن هؤلاء الخبراء نقلوا خبرات نوعية في مجالات حيوية مثل التشويش الإلكتروني، وإدارة المعارك الحديثة التي تعتمد على التكنولوجيا، فضلاً عن صيانة المعدات المتقدمة وإعادة تأهيلها لجعلها أكثر ملاءمة للبيئة القت*الية القاسية في السودان.
مسيرات في الح*رب.. عامل يغير قواعد الاشتباك
ظهرت الطائرات المسيّرة الإيرانية كعنصر فاعل ومغير لقواعد الاشتباك في النزاع السوداني. تم استخدامها على نطاق واسع من قبل الجيش السوداني، مما مكنه من تنفيذ عمليات استطلاع دقيقة وفعالة للحصول على معلومات عن تحركات قوات الد*عم السر*يع وتمركزاتها. كما سمحت له بتنفيذ هجمات مركزة ومضادة على مواقع هذه القوات، خصوصاً في المناطق الحساسة داخل العااصمة المثلثة (أم درمان، الخرطوم، بحري).
وساعدت الطائرات المسيّرة الجيش السوداني في السيطرة جزئياً، أو على الأقل في السيطرة الاستراتيجية المؤثرة، على مواقع رئيسية، مما خفف من وتيرة تقدم قوات الد*عم السر*يع في بعض المحاور. كما أسهمت في استعادة مناطق كان قد خسرها الجيش في أم درمان والخرطوم، وكان من أبرزها استعادة مقر هيئة البث القومي، والذي شكل انتصاراً معنوياً وعسكرياً هاماً.
وساهمت هذه الطائرات كذلك في عمليات القصف الدقيقة التي يُعتقد أنها قللت بشكل كبير من قدرة قوات الد*عم السر*يع على التحرك والتموضع بحرية في المناطق الشمالية والشرقية للخرطوم، التي كانت تمثل عمقاً عملياتياً لهذه القوات.
لعبة نفوذ.. أبعاد تتجاوز حدود السودان
لا ينبغي النظر إلى التحالف الإيراني-السوداني على أنه مجرد اتفاق عسكري ثنائي يهدف إلى حسم الصراع الداخلي فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من لعبة نفوذ إقليمية ودولية أوسع نطاقاً، تحمل في طياتها أبعاداً استراتيجية تتجاوز حدود السودان.
ويرى المراقبون أن منطقة البحر الأحمر تمثل ممرًا استراتيجياً دولياً بالغ الأهمية للتجارة العالمية وحركة سفن النفط والحاويات. وأن إيران تسعى من خلال تعزيز تواجدها وعلاقاتها في السودان إلى ترسيخ موطئ قدم استراتيجي يمكن أن يؤثر على حركة الملاحة في هذا الممر الحيوي، خصوصاً عبر ميناء بورتسودان الذي يمثل بوابة السودان البحرية.
وتذهب التحليلات إلى أنه في مقابل الدعم العسكري الذي تقدمه إيران، تسعى طهران للحصول على إذن لبناء قاعدة بحرية دائمة لها في السودان على ساحل البحر الأحمر، أو على الأقل ضمان حضور بحري ثابت في ميناء بورتسودان. وأن هذا الطموح الإيراني يُثير قلقاً عميقاً لدى قوى إقليمية ودولية رئيسية، على رأسها الولايات المتحدة، السعودية، والإمارات العربية المتحدة، التي ترى في ذلك توسعاً إيرانياً مهدداً لاستقرار منطقة الخليج وأمن الممرات المائية وحركة التجارة العالمية. فيما كشفت بعض التقارير الإعلامية أن السودان رفض طلب إيران بالحصول على قاعدة بحرية كاملة، لكن المحادثات مستمرة بشأن شكل من أشكال الوجود البحري أو التسهيلات التي يمكن منحها لإيران.
كثير من المحللين يذهبون إلى أن هذا التقارب بين طهران والخرطوم، في ظل الظرف الراهن، يضع السودان في قلب التنافس الإقليمي والدولي. في الوقت الذي تدعم فيه إيران (إلى جانب روسيا التي وردت تقارير عن دعمها أيضاً) الجيش السوداني، تُقدم دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة، وفقاً لتقارير متعددة، دعماً لقوات الد*عم السر*يع. هذا التنافس الخارجي المباشر على أرض السودان يُفاقم الصراع الداخلي ويُطيل أمده بشكل خطير.
ويشير محللون أيضاً إلى أن عودة التعاون مع إيران لها أبعاد داخلية مرتبطة بالتركيبة السياسية والعسكرية في السودان حالياً. ويُعتقد أن الإسلاميين داخل الجيش والمؤسسات السياسية هم المستفيدين الأساسيين من هذا التقارب ويسعون لترسيخه. وهو ما يُعيد إلى الأذهان حقبة التنسيق السابق بين النظام المباد في السودان الذي كان يسيطر عليه الإسلاميون وإيران في سنوات ما قبل 2016.
احتمالات العودة أو الغرق.. مستقبل على كفّ الميزان
يُظهر التحالف الإيراني–السوداني في خضم الح*رب الدائرة قصة دولة تنهار داخلياً تحت وطأة الصراع، مع تدخلات إقليمية ودولية تستغل هذا الضعف لفرض نفوذها وأجنداتها الخاصة. هذا التحالف لا يعكس فقط رهان طهران على موقع استراتيجي جديد في منطقة البحر الأحمر، ولكنه يُظهر الهشاشة السياسية والعسكرية التي يعيشها السودان في لحظة ضعف غير مسبوقة، جعلته عرضة للاستقطاب والتدخل.
فالسودان، بحسب المراقبين، يقف اليوم عند مفترق طرق خطير: إما أن يتمكن، بمساعدة دولية وإقليمية تعمل على توازن النفوذ وتهدئة الصراع ودفع الأطراف نحو حل سلمي، من العودة إلى مسار السلام واستعادة سيادته، أو أن يظل رهينة للاستقطاب بين إيران وحلفائها من جهة، وقوى إقليمية ودولية أخرى معادية لإيران من جهة أخرى. وفي هذه الحالة الأخيرة، سيظل السودان ساحة صراع بالوكالة تدفع ثمنها الباهظ جماهير الشعب السوداني، التي تعاني الأمرين من ويلات الح*رب.
ويرى المتفائلون أن مستقبل السودان يرتبط بمدى قدرة القوى المحلية على تجاوز الانقسامات وإعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ومدى إرادة المجتمع الدولي في تقديم حلول حقيقية ومساعدة شاملة ومستدامة لا تقتصر على الإغاثة، بل تضمن إنهاء الح*رب وإعادة بناء الدولة والمجتمع. ومع استمرار معاناة المدنيين وتصاعد وتيرة القت*ال التي تحكمها الطائرات المسيّرة والصواريخ الموردة، تبقى الح*رب الحسابية معلنة عن مأساة الإنسان السوداني في ظل نيران التحالفات الكبرى والتنافس على النفوذ الذي يحرق الأرض والإنسان.