الهجرة العكسية من الخرطوم إلى دارفور: بين انهيار القيم وتحديات التعايش الإنساني

بقلم الأستاذ/ شمس الدين أحمد صالح

منذ عقود، كانت الهجرة من دارفور إلى الخرطوم ومشروع الجزيرة تمثّل مسارًا تقليديًا للتنقل الاجتماعي والاقتصادي في السودان، كانت تُعرف قديمًا بظاهرة “جنقو جورو”.
سافر الآلاف بحثًا عن فرص أفضل في البناء، والمزارع، ومصانع السكر، والحرف اليدوية، وكان لعائد تلك الهجرة أثر يشبه الاغتراب اليوم، إذ مكّن كثيرين من تأمين نفقات الزواج وتأسيس حياة بسيطة كريمة.
امتدت هذه الموجات لعقود، تزامنت مع فرص العمل والخدمات في مناطق الوسط، وتعمّقت مع جفاف الثمانينيات، الذي دفع الآلاف للاستقرار الدائم في الخرطوم ومدن الحزام. لم تكن العودة إلى دارفور خيارًا مطروحًا آنذاك، إذ اندمج كثيرون في الحياة الحضرية، وتوسعت الأحياء التي استقروا فيها، مثل جنوب الحزام، أمبدة، الحاج يوسف، وجبل أولياء.
لكن المشهد تبدّل بصورة درامية منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023. فمع تفاقم العنف وغياب الأمن، وما رافق الحرب من استقطاب مجتمعي وترويج لخطابات التفرقة، بدأت موجة جديدة من النزوح المعاكس، عُرفت بـ”الهجرة العكسية” — من الخرطوم والجزيرة إلى إقليم دارفور، هذه الموجة لم تكن طوعية كما كانت في الماضي، بل جاءت قسرية، مدفوعة بالاستهداف والعنف والتمييز المبني على الجغرافيا والملامح، وفق شهادات العديد من الأسر.
فبعد انسحاب قوات الدعم السريع من بعض المناطق، وحلول الجيش والمليشيات الموالية له مكانها، وجد كثير من سكان دارفور أنفسهم في واقع جديد مليء بالتوجس، والشك، وأحيانًا بالوصم. ظهرت أنماط سلوك اجتماعي تُكرّس الفجوة بين المجتمعات، وتُعيد إنتاج التمييز بطريقة مؤسفة، أسهمت في تسريع عودة الآلاف إلى مدن دارفور وقراها.
هذه العودة المفاجئة والمضطربة التي لا تشمل مدينة الفاشر الجريحة فحسب، بل تمتد إلى أغلب مدن الإقليم والبوادي — باتت تضع ضغطًا هائلًا على المجتمعات المحلية، والخدمات المحدودة أصلًا، ما ينذر بأزمة إنسانية قادمة، ومجاعة شبه مؤكدة إذا لم يتم التدخل العاجل.
المُقلق في هذا السياق ليس فقط حركة النزوح، بل ما يكمن خلفها من مؤشرات انهيار في منظومة القيم الإنسانية، التي كانت تسود بين السودانيين رغم الفقر والمعاناة. أن يشعر مواطن أنه مهدَّد في وطنه فقط لأن ملامحه أو لهجته توحي بانتماء جغرافي معيّن، فهذه كارثة أخلاقية لا تقل خطرًا عن السلاح.
إننا بحاجة إلى قراءة هذه الظاهرة بعمق، باعتبارها إنذارًا مبكرًا لانهيارات قادمة، ليس فقط على مستوى الغذاء والخدمات، بل على مستوى التماسك المجتمعي ذاته. كما أن هذه الموجة من الهجرة العكسية ينبغي أن تُقلق الدولة والمجتمع المدني والمنظمات الدولية، لأنها تكشف عن تفكك خفيّ في نسيج الوطن، قد يكون من الصعب ترميمه لاحقًا.
التحذير هنا لا يهدف إلى إثارة القلق، بل إلى لفت النظر لحقيقة مُرّة: الحرب لم تقتل فقط الناس، بل بدأت تقتل القيم.