
كلمة العدد
في حضرة نيسان، ينفتح الوجدان العربي والسوداني على مرافئ الحنين والتأمل والمساءلة. إنه ليس شهراً عابراً في رزنامة الزمن، بل مفصلٌ تاريخي تتقاطع فيه جذور الحلم ومآلات الخيبة، ويعلو فيه صوت الثورة حين يهمد صخب السياسة. في نيسان ولد حزب البعث العربي الاشتراكي، معلناً ميلاد فكرةٍ أرادت أن تكون ناراً على الاستعمار وفساد الأنظمة، وشعلةً تهدي طريق الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية. وفي ذات الشهر، وعلى ضفاف النيل، كتب الشعب السوداني صفحات من نور: انتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بالديكتاتورية، ثم ثورة ديسمبر المجيدة التي توجت ذروتها في أبريل 2019، حين اجتمع ماضٍ متوهج بحاضرٍ متفجر بالتوق إلى الكرامة.
لكن، أليس من المدهش أن تتوالى الثورات ويتجدد الحلم، بينما يظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي يراوح في مكانه، بل يتقهقر أحياناً إلى حضيض أكثر قسوة؟ هذه المفارقة المريرة بين عظمة الوعي الشعبي وركود البنية الاقتصادية والاجتماعية تكشف أن التغيير السياسي، رغم أهميته، يبقى قاصراً إذا لم يتكئ على مشروع نهضوي حقيقي يحرر الإنسان من فقره، ويمنحه أدوات العيش الكريم والإنتاج الخلاق.
لقد انطلق البعث، في أصوله النظرية، كمشروع حضاري يريد للإنسان العربي أن يتحرر لا من الاستعمار السياسي فحسب، بل من التبعية الاقتصادية والتهميش البنيوي. دعا إلى مجتمع ينهض على قاعدة الاشتراكية المعرفية، والتنمية المستقلة، والعدالة التوزيعية، في مواجهة الأنظمة الريعية والانغلاق القومي. أما السودان، فكانت تجربته مع أبريل مزدوجة: في 1985 انتزع حريته من فم الاستبداد، وفي 2019 أعلن جيل جديد أن الثورة ليست إرثاً ماضوياً بل إمكاناً متجدداً. ومع ذلك، فإن اقتصاد السودان لا يزال يئن تحت وطأة الريع، والح-رب، وتآكل البنية الإنتاجية.
الاحتفاء بهذه المحطات لا يكون بترديد شعاراتها فحسب، بل بمساءلة عميقة: هل تحررنا فعلاً؟ وهل أصبحنا أقرب إلى بناء اقتصاد منتج ومجتمع متماسك؟ الواقع يشير إلى أننا، كأمة، لا نزال أسارى نموذجٍ اقتصادي هش، قائم على تصدير المواد الخام، وانتظار المعونات، والعيش على هوامش الأسواق العالمية. لم ننجح بعد في تحويل الثورات السياسية إلى نهضة اقتصادية، ولم نستطع استثمار الوعي الشعبي الهائل في بناء منظومات إنتاج مستدامة.
ولعل السودان، بما يحمله من رمزية تاريخية وعبء جغرافي واستراتيجي، يقف اليوم أمام منعطف وجودي. بين الح-رب المشتعلة في أطرافه، والانسداد السياسي في مركزه، والانهيار المعيشي الذي يحاصر إنسانه، يتطلب الأمر مقاربة جذرية تخرج من ثنائية الريع والقمع، وتدخل في أفق جديد يقوم على العدالة الاقتصادية، وتمكين الشباب، وتحرير الطاقات الإنتاجية. إنه نداء التاريخ أن نبني الدولة على أساس الكفاءة لا الولاء، وعلى رؤية تنموية وطنية لا على حسابات المحاور الإقليمية والدولية.
لم يكن ميلاد حزب البعث في نيسان مجرد تأسيس لحزب سياسي، بل انبثاقاً لفكرة شمولية حاولت أن تجمع بين وحدة الأمة ونهضتها الاقتصادية والاجتماعية، وقدمت تصوراً متقدماً — وإن كان مثقلاً بالتحديات — حول كيفية الخروج من أسر التبعية إلى فضاء الاستقلال الحقيقي. لقد بشّر البعث باقتصاد منتج قائم على الاشتراكية العلمية، واستنهاض الطاقات المحلية، وربط مفاهيم العدالة بالكرامة الوطنية. وفي هذا المعنى، فإن ربط نيسان البعثي بأبريل السوداني ليس مجرد صدفة زمنية، بل تقاطع موضوعي بين حلمين، لم يكتمل أي منهما بعد، ولكنهما لا يزالان يشعّان كإمكانية قابلة للتجدد.
وإذا كان حزب البعث قد وُلد حاملاً مشعل “أمة عربية واحدة”، وإذا كانت ثورات أبريل في السودان قد كسرت قيود الاستبداد، فإن اللحظة الراهنة تفرض علينا أن نعيد تأويل هذه اللحظات لا بوصفها ذكريات، بل كنداء مستمر: نداء إلى بعث اقتصادي يعيد الإنسان إلى مركز المعادلة، ويجعل من الثروة أداة للتحرر، لا للهيمنة.
إن الأمة العربية، والسودان في قلبها، لا تحتاج فقط إلى استذكار تضحياتها، بل إلى إعادة إنتاج مشروعها الحضاري، وفق مقاربات جديدة تأخذ في اعتبارها أن الحرية بدون اقتصاد منتج تظل ناقصة، وأن السيادة بدون تنمية شاملة ليست سوى وهم. علينا أن نعيد الاعتبار لقيمة العمل، وقدسية الإنتاج، وضرورة الإصلاح الجذري لمؤسسات الدولة، حتى لا تصبح ثوراتنا مجرد حلقات متكررة من الأمل المجهض.
نعم، أبريل هو شهر الانبعاث. ولكن لا انبعاث بلا مشروع. ولا مشروع بلا وعي. ولا وعي بلا نقدٍ صادق لتجاربنا، واستعدادٍ للتجاوز، وانفتاحٍ على الممكن. ففي ضوء هذا الوعي وحده، يمكن أن نكون جديرين بذلك التاريخ النبيل، وأن نكتب لأجيالنا القادمة فصلاً جديداً من النهضة والكرامة والعقلانية.