
في قلب الأسئلة المصيرية التي تواجه السودان اليوم، يبرز سؤال يتجاوز الأزمات الآنية نحو عمق التحدي الهيكلي: هل نحن مستعدون للتحوّل من عقلية ريعية استهلاكية إلى اقتصاد منتج قادر على توليد الثروة والاستدامة؟ هذا السؤال ليس مجرد ترف فكري، بل هو صرخة في وجه واقع اقتصادي هش يقوم في جوهره على التوزيع لا الإنتاج، وعلى انتظار العوائد لا صناعتها، وعلى استهلاك ما لا ننتج واستيراد ما نستهلك، في وقت تتراجع فيه كل مقومات الصمود.
العقلية الريعية التي ترسّخت لعقود في السودان لم تكن فقط نتيجة لعوائد النفط التي أُهدرت قبل انفصال الجنوب، بل كانت متمكنة في عمق الإدارة والسياسات منذ الاستقلال، حين أُعطي الأولوية للسلطة على التنمية، وللجباية على الإنتاج، وللصفقات السياسية على الرؤية الاقتصادية. فبدلاً من بناء قاعدة إنتاجية متنوعة قوامها الزراعة والصناعة والتعدين والمعرفة، تم تكريس نموذج يعتمد على بيع الموارد الخام، وانتظار المساعدات، واستيراد كل شيء من الخارج. وللأسف، هذا النموذج لا يُنتج دولًا قوية، بل يكرّس التبعية ويعزز هشاشة الدولة والمجتمع.
التحوّل إلى اقتصاد منتج لا يعني مجرد إقامة مصانع أو زيادة الإنتاج الزراعي، بل يتطلب أولاً تغييرًا في الذهنية العامة لدى الدولة والمجتمع، بحيث تصبح القيمة المضافة والعمل المنتج هما معيار النجاح، لا القرب من مراكز القرار أو الوصول إلى الريع السياسي والاقتصادي. كما يتطلب الأمر إعادة هيكلة الدولة نفسها، لتنتقل من عقلية توزيع الغنائم إلى عقلية إدارة الموارد والتخطيط للمستقبل. الاقتصاد المنتج لا يُبنى في ظل الح-روب، ولا في ظل تهميش الريف، ولا في ظل سيطرة نخب تبحث عن الربح السريع لا التنمية المستدامة.
هل السودان جاهز لهذا التغيير؟ من حيث الإمكانيات، نعم. فالسودان يمتلك موارد طبيعية هائلة من أراضٍ خصبة، ومياه، وذهب، ونفط، ومعادن نادرة، وموقع استراتيجي يجعله صلة وصل بين أفريقيا والعالم العربي. لكن ما ينقصنا هو الرؤية والإرادة السياسية، والاتفاق على مشروع وطني يضع الاقتصاد المنتج في صلب إعادة بناء الدولة. وما لم يتم كسر الحلقة المفرغة التي تجعل من الصراع على الموارد بديلاً عن إنتاجها، ومن الفساد أداة للتوزيع بدل المحاسبة، فإن الأمل سيظل معلقًا.
ولعل الح-رب الجارية اليوم رغم مآسيها، تفرض علينا التفكير بجدية: ما الذي جنيناه من استمرار العقلية الريعية؟ كيف يمكننا تجاوز الخراب نحو اقتصاد يعيد للسودان كرامته وسيادته؟ هل نواصل الاتكاء على الخارج أو نخاطر ببناء الداخل؟ الإجابة تبدأ من إيماننا بأن التغيير الحقيقي يبدأ حين نكف عن تبرير الفشل، ونقرر الاستثمار في الإنسان السوداني، باعتباره المورد الأغلى والأكثر ديمومة.
اللحظة السودانية اليوم هي لحظة مفصلية، تتطلب شجاعة فكرية ومؤسسية للتخلي عن المسكنات والسياسات الترقيعية، والشروع في بناء اقتصاد لا يُخضع الإنسان، بل يُمكّنه. وإن لم نغتنم هذه الفرصة التاريخية في ظل هذا الانهيار الشامل، فسنجد أنفسنا بعد سنوات نعيد طرح نفس السؤال، ولكن في ظروف أكثر قسوة وضيقًا. والرهان الحقيقي ليس فقط في أن يكون السودان جاهزًا للتغيير، بل في أن يكون السودانيون أنفسهم هم صُنّاعه.