الرسوم الجمركية الأميركية في مواجهة الصين: بداية تحوّل في موازين القوى الاقتصادية العالمية

طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
في منعطف حرج من عمر الاقتصاد العالمي، تعود السياسات الحمائية إلى الواجهة بقوة مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية فرض رسوم جمركية جديدة على الواردات الصينية، ضمن سلسلة إجراءات تستهدف إعادة تشكيل المشهد الصناعي والتجاري الدولي. هذه الخطوة، التي قد تبدو للوهلة الأولى امتدادًا لح-رب تجارية مألوفة، تحمل في طياتها دلالات أعمق، تُنبئ بتغيّرات جوهرية في موازين القوى الاقتصادية، واحتمال التحوّل من نظام تجاري عالمي مفتوح إلى نظام متعدد الأقطاب تحكمه التكتلات والمصالح الاستراتيجية.
الولايات المتحدة، عبر هذه السياسات، لا تسعى فقط إلى تقليص العجز التجاري مع الصين أو حماية صناعاتها المحلية، بل إلى فرض معايير جديدة للهيمنة في عالم ما بعد العولمة. إذ بات واضحًا أن الرهان لم يعد على المنافسة في السوق الحرة، بل على السيطرة على سلاسل التوريد الحيوية، وتأمين التفوق في القطاعات التقنية والمستقبلية، من أشباه الموصلات إلى الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.
الصين، من جانبها، لم تقف موقف المتفرج. فقد شرعت في تسريع استراتيجيتها للتنمية الذاتية والاكتفاء التكنولوجي، وعزّزت تحالفاتها الاقتصادية في إطار مبادرة الحزام والطريق، وعمّقت تعاونها التجاري مع الاقتصادات الصاعدة، لا سيما في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. كما دفعها الضغط الأميركي إلى تبنّي سياسات تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز استخدام عملتها المحلية في المبادلات التجارية الدولية، في خطوة تحمل أبعادًا استراتيجية تمس قلب النظام المالي العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية.
ما يضاعف أهمية هذه التطورات هو انعكاسها على خريطة التحالفات الدولية. فالاتحاد الأوروبي، رغم تحالفه التقليدي مع واشنطن، بات يُبدي ترددًا متزايدًا إزاء الانخراط الكامل في السياسات الأميركية تجاه الصين، خشية الإضرار بمصالحه التجارية والاقتصادية. كما تسعى دول أخرى كالهند وفيتنام وماليزيا إلى التموقع كمراكز بديلة للتصنيع، مستفيدة من تحول بعض الاستثمارات الغربية من الصين نحو جنوب آسيا.
وفي قلب هذه التحولات، تقف الدول النامية على مفترق طرق. فهي من جهة معرّضة للتهميش إذا لم تطوّر سياساتها الصناعية والتجارية، ومن جهة أخرى أمام فرصة تاريخية لإعادة التموقع في سلاسل القيمة العالمية، وجذب الاستثمارات المتنقلة، خاصة في ظل بحث الشركات الكبرى عن تنويع مواقع الإنتاج وتقليل الاعتماد على الصين. إلا أن اغتنام هذه الفرص يتطلب إرادة سياسية، وتخطيطًا استراتيجيًا، واستثمارًا حقيقيًا في البنية التحتية والتقنيات والتعليم.
الرسوم الجمركية الأميركية لم تعد مجرد أدوات ظرفية لإعادة التوازن التجاري، بل أضحت إحدى أدوات الصراع الجيو-اقتصادي الأوسع. وإذا استمر التصعيد بين واشنطن وبكين على هذا المنوال، فإننا قد نكون أمام مشهد اقتصادي عالمي جديد، أقل ترابطًا، وأكثر احتدامًا، وأشد تقلبًا. ومع أن التاريخ علّمنا أن الحروب التجارية نادرًا ما تُنتج رابحين صرحاء، إلا أن نتائج هذه الجولة الجديدة قد ترسم الملامح الأولية لاقتصاد عالمي مختلف، تُعاد فيه كتابة قواعد التنافس والسيطرة والريادة.
إن هذه اللحظة تتطلب من صناع القرار في الدول كافة – لا سيما في الاقتصادات الناشئة – يقظة استراتيجية وقدرة على قراءة المتغيرات الدولية بعيون غير تقليدية. فالعالم مقبل لا على مجرد دورة اقتصادية جديدة، بل على انزياح عميق في مراكز الثقل، وتحولات قد تحدد شكل الاقتصاد العالمي لعقود مقبلة. فهل نحن مستعدون؟