
المستشار أبوبكر عبدالله ادم المحامى
(ا—2)
الهدف من هذه المساهمة هو تناول الموضوع من مقترب قانوني محض من أجل المساهمة في تمديد الفهم القانوني لماهيتها لمساحات معرفية أوسع مع كشف طبيعتها والإشكالات القانونية المتعلقة بها مع محاولة للتنبوء بمآلاتها.
بسبب المقاربة القانونية لهذا الموضوع، سوف يتم ذكر أطراف القضية المباشرين وغير المباشرين بالنعوت والأسماء التي يطلقها أي منهم لنفسه، رغم كل التحفظات المبدئية والسياسية، المبررة وغير المبررة لأسباب ذاتية أو موضوعية.
سيتم تناول الموضوع في جزئين… أولهما هو مدخل لمعاينة السياق العام للقضية وماهيتها أما الثاني يتعلق بالقراءة القانونية لإشكالات دعوى حكومة السودان ودفاع دولة الإمارات المتحدة وأهمية القضايا التي أثارتها الدعوى في نقاشات المختصين في القانون الجنائي والمهتمين به من فاعلين سياسين وإعلاميين وغيرهم.
أولا : طبيعة الدعوى التي رفعتها حكومة بورتسودان ضد دولة الإمارات المتحدة*
دعوى حكومة بورتسودان، التي قدمتها لمحكمة العدل الدولية، ضد دولة الإمارات يوم 5 مارس 2025 وفقا للمواد 36 و40 من ميثاق المحكمة المتعلقة باختصاص المحكمة في
النظر في كل القضايا المتصلة بالمعاهدة ونزاعات الموقعين عليها. بالإضافة لطلب حكومة بورتسودان للمحكمة باتخاذ قرارت معينة سيتم ذكرها لاحقا، تضمنت الدعوى أيضا مطالب للمحكمة باتخاذ إجراءات مؤقتة وفقا للمادة 41 من ميثاق المحكمة والمواد 73،74 75 من القواعد الإجرائية للمحكمة. وهي مطالب، من وجهة نظر حكومة السودان ملحة ويجب الإيفاء بها بشكل عاجل قبل النظر في متن القضية لمنع استمرار الإب-ادة الجماعية.
تستند الدعوى على ادعاء السودان allegations (بمفهومه القانوني الدقيق) بأن دولة الإمارات المتحدة أخلت بالتزاماتها القانونية المضمنة في معاهدة منع وقمع الإب-ادة الجماعية لعام 1948 التي صادقت عليها الدولتين عام 2003.
اتهمت حكومة بورتسودان دولة الإمارات المتحدة بدعم ومساندة قوات الد.عم الس.ويع، ماليا وسياسيا وعسكريا وإعلاميا ولوجستيا، لارتكاب إب-ادة جماعية ضد مكون المساليت السودانية، منذ عام 2003 علي الأقل، وما زالت مستمرة في دعمها لقوات الد.عم الس.ريع مما مكن الأخيرة من الاستمرار في ارتكاب الإب-ادة الجماعية لقبيلة المساليت. وبسبب هذه المساعدة والدعم خلصت حكومة بورتسودان إلى أن الإمارات مشاركة في ج-ريمة الإب-ادة الجماعية التي ترتكبها قوات ألد.عم الس.ريع ولذلك عليها تحمل المسؤولية القانونية نتيجة شراكها الجنائي (complicity) في الج-ريمة وتحمل تبعات فعلها المناقض لالتزامها القانوني وفقا لمعاهدة منع وقمع الإب-ادة الجماعية.
برفعها دعوى ضد دولة الإمارات على أرضية شراكها الجنائي في الإب-ادة الجماعية طالبت حكومة السودان المحكمة اتخاذ قرار حول موضوعات محددة وردت في دعواها ويمكن تلخيصها في الآتي :
1. الطلب من كل الدولتين(السودان والإمارات) الإيفاء بالتزاماتهما تحت طائل كل الاتفاقات الدولية، بما فيها معاهدة منع الإب-ادة الجماعية
2. إعلانها بأن دولة الإمارات انته-كت وما زالت تقوم بانت-هاك التزاماتها في معاهدة الإب-ادة الجماعية
3. إعلانها بأن دولة الإمارات قامت بالإخلال بالتزاماتها تحت طائل المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين وضرورة حفظ العلاقات الودية بين الدول.
4. الطلب من دولة الإمارات الالتزام بالامتناع الفوري بالقيام أو عدم القيام بأعمال (act or omission) تؤدي إلى انت-هاك ميثاق الأمم المتحدة، معاهدة الإب-ادة الجماعية وأي معاهدة أو اتفافية مصادقة عليها.
5. الطلب من دولة الإمارات المتحدة القيام بأمر أي شخص يرتكب أو يشارك في ارتكاب ج-ريمة الإب-ادة الجماعية في السودان التوقف، بشكل دائم، عن ارتكاب مثل هذه الأفعال المج-رمة قانونا.
6. إلزام دولة الأمارات العربية المتحدة بدفع تعويضات وجبر الضرر الناتج عن أفعالها الدولية غير القانونية.
كما سنلاحظ من الجزء الثاني من هذه المساهمة، تحظى هذه القضية، إذا ما تم النظر للطبيعة القانونية بمضمون أو فحوى الدعوى ومطالب حكومة السودان، بأهمية كبرى من منظور قانوني محض. وهذه الأهمية ليست نابعة من تماسك مفردات خطابها القانوني ولكن لأنها من ناحية سوف توفر فرصة للمحكمة والقانونين لإعادة النقاش حول موضوع الإشراك الجنائي كأساس للمسؤولية الجنائية لدولة لم ترتكب ج-رائم إب-ادة جماعية بشكل مباشر ولكنها متهمة بالمشاركة فيها بشكل غير مباشر عبر ادعاء بدعمها لقوات معارضة في الدولة الشاكية، قامت حسب الدعوى، بارتكاب هذه الج-رائم. كما أم موضوع الولاية القضائية (jursidiction) لمحكمة العدل الدولية ومدى اختصاصها للنظر في مضمون الدعوى، رغم تحفظ الدولة المدعي عليها على المادة التاسعة من اتفاقية الإب-ادة الجماعية، هو أيضا موضوع سوف يكون على محك جدل قانوني جدير بالاهتمام.
فعندما صادقت دولة الإمارات على معاهدة الإب-ادة الجماعية قامت بالتحفظ على المادة التاسعة من الاتفاقية مما يعني, على الأقل من ظاهر النص القانوني، عدم اختصاص المحكمة في النظر حول أي قضية تتعلق بمنازعات حول الاتفاقية. ولكن كما جاء في مذكرة حكومة بورتسودان في الفقرات 4 إلى 8 من مذكرة الدعوى وكما يقول بعض كبار القانونيين أن موضوع التحفظ Reservations) على المادة التاسعة يجب عدم النظر إليه بمنظور ضيق بل من زاوية القواعد القانونية الآمرة وواجب الدول تجاه الجميع في منع الإب-ادة الجماعية.
والهدف من المعاهدة وهي مبادئ (erga omnes_ jus cogens). هذا بالإضافة إلى أن مطالبة حكومة السودان بتعويضات مادية لجبر الضرر هو موضوع إشكالي لعدم وجود مادة قانونية في المعاهدة تسنده كما لا توجد سابقة قضائية في القضايا المتعلقة بمعاهدة الإب-ادة الجماعية التي نظرت فيها المحكمة حتى الآن. ولكن علينا الأخذ بعين الاعتبار وجود تيار في الفقه القانوني الدولي مهم وداعم لهذا الاتجاه بمبررات وتفسيرات قانونية مختلفة تصب معظمها في مجرى تطوير القانون الجنائي الدولي. سوف نعود لهذه الموضوعات وتعقيدات إثبات الركن المعنوي للإب-ادة الجماعية بالتفصيل في الجزء الثاني من هذه المساهمة.
قدمت حكومة بورتسودان شكواها في الخامس من مارس من هذا العام ولكن لم يتم بعد تحديد تاريخ انعقاد المحكمة للنظر في القضية والاستماع للمرافعات القانونية حول النقاط المشار إليها أعلاه وغيرها، ولكن استجابة لطلب حكومة بورتسودان العاجل، عقدت المحكمة جلسات يومي 10 و11 ابريل 2025 للنظر في طلبها لاتخاذ قرارات مؤقتة(temporary measures) قبل النظر في القضية في الموعد الذي تحددها المحكمة وفق جدول أعمالها وأولوياتها. وطلب السودان للجلسة العاجلة جاءت وفق للمادة 41 من ميثاق المحكمة ومبرر طلبها بضرورة اتخاذ إجراءات مؤقتة ضد دولة الإمارات العربية المتحدة هو منع الاستمرار في الإب-ادة الجماعية ضد المساليت من قبل قوات الد.عم الس.ريع قبل توصل المحكمة لقرارها الاستشاري.
طبيعة القرارات التي طالبت بها حكومة بورتسودان وفق دعواها يوم 5 مارس، التي قامت بتعديلها يوم 10 أبريل 2025، النقطة المتعلقة بالتقارير الدورية قبل حكم المحكمة، يمكن تلخيصها في الآتي :
1. التزام دولة الإمارات العربية المتحدة بتعهداتها وفقا لمعاهدة الإب-ادة الجماعية باتخاذ كل الوسائل المتاحة لمنع ارتكاب إب-ادة جماعية ضد قبيلة المساليت في السودان.
2. الامتناع عن القيام بأي عمل يمكن اعتباره أو يشكل إشراك جنائي لج-رائم الإب-ادة الجماعية ضد المساليت من قبل أي قوى سودانية غير نظامية أو منظمات أو أشخاص.
3. الطلب من دولة الإمارات تقديم تقرير للمحكمة خلال شهر واحد من تاريخ قبول المحكمة طلب السودان المتعلق بالإجراءات المؤقتة حول كل الإجراءات التي قامت باتخاذها لتنفيذ القرار المؤقت. وبعدئذ علي دولة الإمارات العربية المتحدة تقديم تقرير دوري للمحكمة كل ستة شهور لحين نظر المحكمة للقضية واتخاذ قرارها في القضية.
إذن..المناقشات التي تمت خلال اليومين السابقين، يومي 10 و11 أبريل 2025 داخل أروقة المحكمة لم تكن مناقاشات حول متن الدعو التي رفعتها حكومة بورتسودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، بل هي مداولات حول النقاط الثلاث أعلاه ومن ثم اتخاذ قرار بقبول المطالب الثلاث لحكومة بورتسودان أو بعضها أو رفضها كلها جميعا.
للطبيعة الذاتية للإجراءات المؤقتة ومتطلباتها يمكن فهم تركيز مرافعات حكومة بورتسودان علي الوقائع بدلا عن التركيز على الأسس القانونية في هذه المرحلة من المحاكمة، رغم صعوبة فهم الضعف في البناء والمرتكزات القانونية لفحوي الدعوى المقدمة باسم وزير عدل حكومة بورتسودان يوم 5 مارس 2025. ومن هذا المنظور يمكن أيضا إدراك مقاربة دولة الإمارات بشكل كبير حول أنت-هاكات حكومة السودان واعتراضها على دعوتها ومطالبتها بشطب القضية.
التركيز على الوقائع والانت-هاكات، وجودا ونفيا، فرضته مقتضيات النظر في موضوع الإجراءات المؤقتة، وهو منحى معروف وشاهدناه، قبل شهور، في إدارة جنوب إفريقيا لموضوع الإجراءات المؤقتة في نفس المحكمة باستخدام نفس التكتيك في الهجوم علي “اسرائ.يل “في قضيتها ضدها والمتعلقة بغ-زة والدفاعات التي استخدمتها “اسرائ.يل “في جلسات المحكمة، مع وجود الفارق النوعي والظرفي.
نجاح حكومة بورتسودان في طلبها المتعلق بالإجراءات المؤقتة لا يعني بأنها قد كسبت قضيتها قانونيا ولكنه يفتح منافذ إعلامية مهمة في معركتها ضد قوات الد.عم الس.ريع ودولة الأمارات العربية المتحدة.
وفي تقديري هذا هو ما تسعى له حكومة بورتسودان من أجل التعبئة الشعبية لدعم ح.ربها ضد قوات الد.عم الس.ريع. كما أن رفض طلب حكومة بورتسودان لا يعني بالضرورة نجاح دولة الإمارات وانتهاء القضية، رغم ما لذلك من فرص إعلامية ودبلوماسية لها تدعم ما تقوم به من حملة إعلامية قائمة علي مساعداتها للسودان بمليارات الدولات خلال العشرة سنين الأخيرة فقط.
إن قرار المحكمة يتوقف على قناعة غالبة قضاتها بوجود أدلة أولية( prima facie) معقولة لقبول طلب حكومة بورتسودان المتعلق بالإجراءات المؤقتة بهدف قفل الطريق أمام أي أنت-هاكات محتمل حدوثها قبل النظر في القضية بإمعان والتوصل لقرار حولها.
ربما يتسائل البعض منكم ماهي السيناريوهات المحتملة على الأقل فيما يتعلق بقرار بالإجراءات المؤقتة.
المحكمة قد استمعت خلال يومي 10 و11 من هذا الشهر لمرافعات طرفي القضية وأعلنت بأنها سوف تصدر قرارها حول هذا الموضوع بعد مناقشته وتداوله دون تحديد أي وقت.
في تقديري سوف تصدر المحكمة قرارها خلال الأسبوع القادم أي قبل يوم 16 أبريل 2025. ومن خلال متابعة الأوراق والمرافعات أمام المحكمة وتعقيدات ج-ريمة الإب-ادة الجماعية، من المرجح أن ترفض المحكمة طلب حكومة بورتسودان ليس فقط للتعقيدات المتعلقة بصعوبة إثبات القصد الجنائي لإرتكاب أو الاستمرار في ارتكاب ج-ريمة الإب-ادة الجماعية بل أيضا،في تقديري بسبب الإعداد السيئ لملف القضية كما سوف نحاول تبيانه في الجزء الثاني من هذه المساهمة.
نواصل