هيثم قنتي يأتلق في “حرب نفسية “

عبد الله رزق، أبوسيمازة

خلافًا لما هو طاغ في الأغاني السودانية، من شكوى من معاناة الشوق والعذاب والبكاء وسهر الليالي، وغير ذلك من مفردات حب خائب أو مستحيل، فإن أغنية ” حرب نفسية ” ، لفنان الطمبور، هيثم قنتي، كما يفصح عنوانها، ابتداء، تنحو نحو تحطيم تلك الثيمات المستهلكة، لتنعتق من إطار التقليد، بالاحتفاء بثيمة جديدة كليا، أو غير معهودة، على الأقل. مثلما يحتفى بالزواج، اقتران عاشقين، فإنها تعطي الطلاق، التحرر من الزوجية، كقيد محتمل، بالمقابل، حقه من الحفاوة، أيضا:
حلاني الله واتفكيت
من النقة الصباح وعشيه
ياخي كل ما تمسي أبوك جاييني
عامل لي حرب نفسيه.
وإذا كان الزواج يتقدم الترتيب ضمن ما هو حلال، عند المولى عز وجل، فإن الطلاق حلال، أيضا، لكنه يقع في المنزلة الأخيرة.
وكانت قد راجت، منذ حين من الوقت، حكايات عن قيام بعض المطلقات بتنظيم حفلات، ابتهاجا بحصولهن على الطلاق، عن طريق المحكمة، غالبا.لكن الغناء للطلاق، يظل واحدًا من الأحداث النادرة، في الفن السوداني. هناك ما يماثله في الندرة، مثل أغنية “إنساني، وأنا أنساك “، التي يغنيها عثمان الشفيع، من ألحان برعي محمد دفع الله، وشعر عبدالمنعم عبدالحي، لم تكتف بطلب فك الارتباط النفسي العميق، بين اثنين، ربما كانا على حافة الطلاق، بدعوتهما للنسيان المتبادل، غير أنها توغل لحد ما يمكن وصفه بالافتراق الأبدي، لحد الموت، كما تفعل بعض الأغنيات الصوفية، وهي تقتفي الوعظ الديني السائد، في التذكير بالموت، واليوم الآخر… :
حبيبي الدنيا ما بتدوم….
لابدوم فرح لا لوم. ….!
ونحن اليوم ورود بتفوح…
وغدا نصبح حطام أشباح ..!
تذرونا الرياح في الدوح…!؟
أغنية ” حرب نفسية ” ، التي صاغها الشاعر عمر الأعسر، لا تأسى لواقعة الطلاق، ولا تشمت، بالضرورة، لكنها، مع ذلك، تحتفي بها، كأي واقعة مشروعة. تحتشد بفرح غامر، باللحن الجميل والبسيط في آن ، وبالأداء المتميز للفنان هيثم قنتي، بصوته الجميل الذي يزدان بنبرة الشوايقة،( في إمالة التاء المربوطة نحو الياء : فنفسية وأذية والنية تلفظ نفسيي، وأذيي والنيي، تواليا، وهكذا، على الطريقة الشامية والحمصية، التي استخدمها المرحوم محمد طه القدال، في رائعته ( مسدار أبو السرة لليانكي ) :
صابرا تحت الدورية
صابرا فوق الدورية
( وتلفظ : الدوريي ).
تلك النبرة التي تغلف الأغنية، كما يغلفها تحنان الطمبور ، وحنينه.
غطيت القدح جازاني
كشف الحال وأذاني أذيه ..!
ريدك في العيون ضاريتو
بوبة في أم لهيب كرعيه ..!..
اتجرتقت شوق وأحلام على
عش الحياه الزوجية …!
واضيعة رجاي تاريكي
كنتي مبيتالي النية..!؟
ومع ذلك، فإن القصيدة، التي تمزج الفصيح والعامي، في سياق لايخلو من الطرافة، لم تقف عند حدود التعريض بالمطلقة، حسب، وإنما تتعدى، باللوم ، السيدة، إلى والديها. إلى ذلك، ازدانت القصيدة بمفردات وعبارات حديثة وذائعة، من قبيل : ” رأس القايدة ” ، ” مبيتالي النية ” ، ” تحت التبن مخفية” ، “الايد ،لظروف، ملوية ” ، ” شيعت الأماني صبية “، “أصلو النار مصير النية “، ” قيم وهمية..”.الخ ،وهي تكشف براعة واقتدار الشاعر في الإبداع في التعبير ، وفي ابتكار الصور المبهرة، وحشدها في حرب نفسية مضادة ، لكن في قالب طروب، يعزز ذلك اللحن والأداء الجميل للفنان هاشم قنتي، بما يجعلها أغنية تنبض بالروعة، وإن كرست كل ذلك الجمال، وكل تلك الروعة لمجد ماهو بغيض من الحلال، أو أبغضه، على وجه الدقة، أو ربما حببته، دون قصد .فهي لحظة من لحظات ترتقي فيها ما يعرف بأغنية الطمبور، وإن لم تخرج على شكلها المألوف، ليس من زاوية قدرتها على تناول مختلف شؤون الحياة وشجونها، حسب، وإنما في سياقاتها اللحنية والأدائية، المميزة، لحد إرباك مشاعر المتلقي بالدهشة الصاعقة. فبقدر ما هي محزنة، الواقعة موضوع القصيدة، فإن الأغنية، لا تشيع الأسى لدى السامع، بقدر ما تشحنه بنشوة الطرب، وربما الفرح.