البَعْث مَشْرُوعُ الأُمَّة -ج2- خُصُوصِيَّة البَعْث و دَوْر المُنَاضِلِين البَعْثِيِّين

د .علي قائد الجابري- اليمن

أهداف البعث والترابط الجدلي بينها

برز حزب البعث العربي الاشتراكي بعد تأسيسه كحركة نضالية تكافح المشروع الصuهيوني ومشاريع الهيمنة الأجنبية وتناضل من أجل تحقيق وحدة الأمة وتحررها وتقدمها. ومدافعاً عن الديمقراطية والحريات العامة والفردية. فكان له دور رئيسي في إسقاط الحكومات العسكرية في سورية. ولقد تبنى قضايا العمال والفلاحين وصغار الكسبة ودافع عنها وعمل على رفع شأنها وصيانة حقوقها فكانت مبادِئُه منارة في نضاله وكان التزامه بها قوته في نشر مبادئه.
اختار العمل من أجل نهوض الشعب وتقدمه ومن أجل التحرر ومحاربة الظلم والاستغلال فكسب ثقة الشعب فأصبح وهو خارج السلطة أقوى من أصحابها
وخلال تلك السنوات كان الحزب قوة جذب للشباب العربي فأتسع انتشاره في سورية والعراق وفلس-طين والأردن ولبنان واليمن وفي مناطق الخليج والمغرب العربي.

لقد تميز حزب البعث العربي الاشتراكي بقدرته على الاستمرار والتطور فبينما تراجع دور الأحزاب والتنظيمات الأخرى التي ظهرت على ساحة الوطن العربي منذ مطلع القرن العشرين، استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي مواجهة التحديات التي تطرحها المراحل وتخطي العوائق والصعاب وتطوير ذاته باستمرار. ومع كل ذلك ومن البديهي فإن البعث العربي الاشتراكي لم يدّعي في يوم من الأيام أنه يمتلك الحقيقة المطلقة. كما لم يزعم أبدًا بأن الإيديولوجية العربية الثورية قد وصلت إلى الكمال النظري وأمسكت بكافة خيوط قوانين التاريخ ومحركاته وأغلقت بما وصلت إليه وأمسكت به باب الاجتهاد والتطوير والتكيف والتلاؤم مع خصوصيات المراحل التاريخية المختلفة. إضافة إلى ذلك فإن البعث العربي لم يضع نفسه في زاوية مغلقة تحكمها القوالب الجامدة والأحكام المعزولة عن سياقها التاريخي ومعطيات الواقع المعاش. لأن من شأن مثل ذلك التوجه أن يجعل من الحركة التاريخية مجرّد صنم أو هيكل عظمي مفتقد إلى الروح وعبارة عن فلسفة لا علاقة لها بالواقع وتفاصيله وتناقضاته.
لقد عبرت أهداف البعث الرئيسية عن طموحات الجماهير العربية وعن تطلعاتها كما أن الترابط بين هذه الأهداف يستجيب لمتطلبات نهج التعامل الصائب مع الواقع كما كانت وستبقي ممارسته النضالية المستمرة التي تمثل طليعة النضال الجماهيري منذ نشوئه وعلى مدى مسيرة تطوره.
وبقدر ما عبرت أهداف البعث الرئيسية عن طموحات الجماهير العربية، فقد تميز البعث الخلاق بأنه واضح الرؤية والهوية والإرادة والاستراتيجية النضالية، فهو حزب العروبة والجماهير وحزب القضايا المصيرية كما ورد في دستور الحزب (أن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر : الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ويعتبر الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي، كما يعتبر الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته).

فمنذ ولادته في السابع من نيسان 1947 عبر البعث عن طموحات الجماهير العربية في مشروعه الوحدوي التحرري الاشتراكي الذي طرحه للأمة للتخلص من التجزئة والتخلف والاستعمار. وكان الحزب ولا يزال دائماً في قلب حركة الجماهير في مطالبها المشروعة سواء بوجه الاستعمار والصهuيونية أو في وجه الأنظمة القطرية المستبدة. وقدم من أجل ذلك أغلى التضحيات في مختلف الساحات العربية، ابتداءً من فلس-طين التي احتلت مركز الصدارة في نضال الحزب، ووصولاً إلى ما يقدمه في ساحة العراق، حيث يقود الحزب أشرف معركة عربية ضد الاحتلال وعملائه وناهبي ثرواته، وحماية لمشروع الأمة الكبير وطموحات أبنائها التواقون للوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية.

ولأنه فكر واقعي حيوي فقد ربط البعث بين قضيتي وحدة الأمة العربية وتحررها من الاحتلال والأحلاف والنفوذ الأجنبي، وجعل ذلك مرتبطاً على نحو عضوي بفكرتي الاشتراكية والديمقراطية. ومنح فكرة الوحدة، التي كانت فكرة هائمة مجرّدة لدى النخب الفكرية والسياسية العربية، منحها نسغاً حيوياً جديداً وأضاف عليها بعداً واقعياً عملياً، وربط بينها وبين نضال الجماهير لتحقيق العدالة الاجتماعية، من جانب، وبنضال الأمة كلها لتحريرها من قيود الاحتلال والتبعية والنفوذ الأجنبي من جانب آخر.

إن خصوصية نضال الأمة العربية تكمن في وحدة المتناقضات التي تشقها وبصفة خاصة تناقضات التجزئة والتخلف والاستغلال والاستعباد ؛ ووحدة الأهداف التي تطمح إلى تحقيقها والمتجسدة في شعار الوحدة والحرية والاشتراكية. وهذه التناقضات والأهداف تشكل محور العلاقة الجدلية التي تقودنا إلى حقيقة تاريخية غاية في الأهمية تفسّر خصوصية المسار التاريخي للأمة العربية باعتبارها أمة مجزأة مضطهدة ومستغَلة. وهذا ما يؤدي بالضرورة الى استنتاج جملة من المنطلقات الفكرية والمرتكزات النظرية المعززة بتجربة الأمة

العربية خلال مراحل نضالها المتتالية في سبيل تحقيق أهدافها وطموحاتها القومية. ومن أهمّ تلك المنطلقات هي :
إن المرحلة التاريخية الراهنة للأمة العربية هي مرحلة ثورية عميقة وشاملة.
إن الثورة في أمة كادحة مجزأة خاضعة للاحتلال والسيطرة الاستعمارية هي ثورة قومية تحررية اشتراكية.
إن أهداف المرحلة التاريخية تتلخص في الوحدة والحرية والاشتراكية.

إن استراتيجية الثورة العربية هي بعث الأمة العربية أي تحقيق المجتمع العربي الديمقراطي الاشتراكي الموحد.
إن حلقات التداخل بين الصراع الطبقي والنضال القومي التحرري والصراع العالمي ضد الإمب-ريالية هي حلقات جدلية لا انفصام بينها.
إن أسلوب النضال الشعبي والكفاح المسلح هو الأسلوب المتكافئ مع مسيرة الثورة العربية لتحقيق أهدافها.
إن الالتزام الخلقي بقيم النضال وبالمستوى الإنساني الرفيع الذي يتطلبه العمل التاريخي هو جزء كامن في الفكرة العربية الثورية وداخل في صميم حركتها.

ومن خلال هذه المنطلقات يمكن فهم الوضعية التاريخية المميزة للأمة العربية التي وجدت نفسها مجبرة على أن تخوض نفسها معارك متعددة وعلى جبهات متنوعة في الوقت ذاته فهي في حالة صراع مع التجزئة والتخلف والاستغلال والغزو الخارجي والأمراض الداخلية؛ وهي كذلك في حالة دفاع عن الوجود القومي والحضاري والإنساني ضد محاولات الاجتثاث والإب-ادة والاستئصال بحيث أن معركة المصير العربي أصبحت في حقيقة الأمر معركة حياة أو موت ومعركة وجود وبقاء ومعركة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية شاملة وكلية.

ولا يمكن أن تتحقق هذه الأهداف والمبادئ والمثل الكريمة على أرض العروبة إلا بتحقيق وحدتها وحريتها وحرية أبنائها لكي تتمكن من إطلاق مواهبها ومزاياها وخواصها الخاصة في الانبعاث والإبداع والتجدد والبناء والتطور. إضافة إلى تحقيق الاشتراكية ( الطريق العربي نحو الاشتراكية) التي هي أحد أهداف الحزب التي تتضمن مجموعة القيم والحلول التي يؤدي تحقيقها إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة. ويزيل أسباب القهر والظلم والاستغلال، ويوفر حياة أفضل لكل مواطن في ظل تكافؤ الفرص، ويحقق التكافل الاجتماعي. كما يضمن إسهام كل مواطن في بناء الوطن وتحقيق ازدهاره وأمنه ورقيه، لأن بناء الوطن وحمايته مسؤولية وطنية في ظل التكامل بين الدولة والمجتمع وبين المجتمع والفرد وتجسيد هذه القيم بمجملها بالهوية القومية الاشتراكية للحزب .

وعلى الرغم من تجربة الحزب العظيمة والملهمة التي قدمها الحزب في العراق بعد ثورة 17-30 تموز 1973م فالحقيقة هي أنه لا يمكن لأي قطر عربي أن يحقق جزءًا من هذه الأهداف والمبادئ مهما أوتي من إمكانات منفردًا عن جهد الأمة الجماعي ومسيرتها الموحدة.

نظرة الحزب للإنسان والجماهير
على عكس بعض الحركات التي تقوم على إلغاء دور الإنسان والعامل الإنساني في التاريخ واعتباره مجرد أداة ووسيلة منفذة لإرادة أعلى ولقوانين لا تأثير له عليها، يتخذ البعث من الإنسان غاية عزيزة وكريمة ونبيلة. فتخصه بالعناية المركزة والرعاية الدقيقة وتخصه بالتربية الشاملة والعميقة ثم التدريب والإعداد حتى ترفع مستواه إلى ما يؤهله لحمل رسالة الأمة في مسيرة ثورتها على واقعها المر المتخلف الفاسد وفي نهوضها وتقدمها وتحقيق أهدافها في التوحد والتحرر والتقدم. فالإنسان عند البعث هدفا ساميًا عزيزًا ومقدسًا وهو في نفس الوقت وسيلة شريفة وعفيفة وطاهرة لتفجير ثورة الأمة وقيادتها ضد الاستعمار وضد الظلم والاستبداد والتعسف والتأخر والتخلف. ومن أجل التوحد والتحرر والتقدم ومن أجل تحقيق الأمن والأمان والسلام والحرية والعدل

والمساواة ومن أجل إعمار الأرض وازدهارها وتحقيق إنسانية الإنسان وسعادته عليها. فمن التعسّف جعل الإرادة الإنسانية والفكر الإنساني مجرّد انعكاس للمعطيات والعوامل المادية وتمثّل لها. لأننا بذلك نكون قد أعدمنا أي تأثير أو دور للعوامل الذاتية في التاريخ وجعلنا من هذا الأخير نتاج حتمي لجملة من القوانين الموضوعية المستقلة تماما والمنفصلة عن اّلإنسان ودور الإنسان وفاعلية الإنسان. كما أن حزب البعث حزب شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة. وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها. لذلك يعتمد الحزب في أداء رسالته على الشعب ويسعى للاتصال به اتصالا” وثيقا” ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي والاقتصادي والصحي لكي يستطيع الشعور بشخصيته وممارسة حقوقه في الحياة الفردية والقومية.
إن ما ورد في دستور الحزب يحدد مسار الحزب السياسي والاقتصادي وتنظيم العلاقة بين الشعب مصدر السلطات والسلطة المتعاقدة والخادمة.

دور المناضلين البعثيين
إن البعث يتفاعل اليوم كما كان دائماً مع مسيرة التطوير والتحديث التي تعيشها الأمة العربية. وهو الآن أصبح حزب الجهاد وحزب المقاومة ويقود أشرف مقاومة على مر التاريخ. وما زالت أمامه مهام كبيرة وكثيرة تقتضيها المرحلة الراهنة من تاريخنا الوطني والقومي. مما يتطلب جهوداً كبيرة من المناضلين البعثيين قبل غيرهم وامتلاك العزيمة والإرادة والإيمان الصادق بمبادئ البعث وقيمه.

ولأنه بعث رسالة، أو رسالة بعث، فإن هذا الوصف ومعانيه الخالدة يفرضان على البعثيين نمطا من السلوك والإصرار. وأن حالة أمة مجزأة إلى واحد وعشرين جزءاً أو أكثر، مطلوب توحيدها عملياً وروحياً، رغم مافيها من مصالح لأكبر الدول وأكثرها تأثيراً وغلظة في العالم، فإن هـذا لـوحـده ليس هدفاً سهلا. فكيف إذا ما أضفنا إليه الاشتراكية، ومضمونها في العدالة الاجتماعية والحرية

وما يتصل بها من معان وعمل، لن يكون الزمن فيها إلا زمناً دائماً تحقيقا لهذه المعاني، وما يتصل بها من مهمات عظيمة ودائمة.

ومن ذلك يظهـر بأن أي مستـوى من الأداء مطلوب القيام به من الطليعة المؤمنة الذين يجسدون الروح الانقلابية في فكرهم وسلوكهم وهم الذين نذروا أنفسهم وبتجرد مطلق من أجل مصلحة الأمة وتحقيق أهدافها في التطور والتغيير، وإعادة الدور المنشود لها لخدمة البشرية جمعاء.

وعندما يستطيع الإنسان العربي أن يتخلى عن ذاته السلبية، سوف يتمكن من تحقيق الانقلاب على الواقع الفاسد والمتخلف، والقضاء على الكسل والسبات الق-اتل الذي انتاب أمة العرب. ومن هذا وغيره يظهر أن الجانب الحزبي في رسالة ودعوة البعث ونضالة وكل أنشطته، هو جانب يتصل بحاجة إلى التنظيم وتعبئة الصفوف لتحقيق الأهداف المقررة التي أرادهـا البعث العظيم.