
- د. عبده شحيتلي – لبنان
شاع في أدبيات الثقافة العربية مصطلح موت الأيديولوجيا باعتباره المدخل إلى عالم الثقافة المتحررة من الحدود والقيود، وبات التزام المثقفين الحزبي محط نقد متعدد الاتجاهات يضعهم في موقف الدفاع عن خياراتهم الأيديولوجية، لأنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل “نهاية التاريخ”.
منذ تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن بدت “الصحوة الإسلامية” كبديل للفكر التنويري ذي الطابع العقلاني و”العلماني” الذي ميز الاتجاهات القومية والماركسية والليبرالية في الفكر العربي، وبعد انحسار التأثير الجماهيري للأحزاب التي تبنت هذه الاتجاهات، لصالح حركات الإسلام السياسي باتجاهاته المذهبية المختلفة، ما كان غريباً أن يلوذ المثقفون بهذا الموقف الرافض للالتزام الحزبي تحت راية موت الأيديولوجيا التي بدا لهم أنها أفلت مع تفكك الاتحاد السوفياتي، والمآلات التي انتهت إليها حركة القومية العربية بشقيها البعثي والناصري.
لكن الانتفاضات الشعبية العربية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، جاءت لتعيد الاعتبار إلى الفعل الجماهيري العربي المنطلق من الساحات حيث برزت من جديد الشعارات والأفكار التي تنتمي إلى عصر الأيديولوجيات التي عاد الشباب لاكتشافها، واتخاذها شعاراً لحراكهم المفتقد للعمل الحزبي التنظيمي المتميز بالقيادة والالتزام.
أحدث هذا الحراك تأثيراً عميقاً في الوعي السياسي عند الشباب العربي، ولكنه، بعد نجاح الانتفاضات الشعبية في إسقاط أنظمة استبدادية قوية، عجز عن توليد أحزاب جديدة، رغم سعي ما سمي بمنظمات المجتمع المدني ورموز الحراك إلى ذلك، الأمر الذي سهل لقوى “الثورة المضادة” مصادرة نتائج الحراك ومنع الانتفاضات الشعبية من الوصول إلى مآلاتها الوطنية؛ لذلك لا بد من إعادة النظر بمعزوفة الحط من قدر الأيديولجيا والالتزام الحزبي، بعد أكثر من عقدين من هذا الانسحاب الذي لا يليق بالثقافة من ساحة الفعل والتأثيرالسياسي والتنويري والنهضوي إلى ميدان الأكاديميا التي تمارس فعلها وتأثيرها الحقيقي والمفيد في الجامعات ومراكز الأبحاث والصحافة والإعلام، وتغدو غريبة عما تدعيه من عقلانية وتنور حين تناهض الالتزام الحزبي الساعي إلى الفعل الجماهيري الهادف إلى التغيير، والنهضة الاجتماعية معاً.
يحضرني في معرض هذا المقال، المتعلق بذكرى تأسيس البعث ومسألة الأيديولوجيا والالتزام الحزبي، موقف نموذجين فكريين تعايشا في فترة زمنية مفصلية في التاريخ العربي؛ هما ميشال عفلق وطه حسين للاستفادة منه في حاضرنا الثقافي والأيديولوجي المأزوم. المشتركات بينهما متعددة ومنها التخصص الأكاديمي في فرنسا، والعقلانية والعقل النقدي في الموقف من التراث وبناء المستقبل رغم الاختلافات المتعددة بينهما فيما يتعلق بالمسألتين الوطنية والقومية والموقف من الغرب. لعل ما يفصل بين عفلق وحسين، في هذا الإطار، المسار الثقافي والأكاديمي الذي حكم حياة طه حسين بعيدًا عن الالتزام الحزبي الذي كان عفلق رائدًا أساسيًا فيه على الصعيد العربي.
أسس طه حسين لنوع جديد من العقلانية المستندة إلى المنهج الديكارتي في نقده للتراث في كتابه عن الشعر الجاهلي عام 1926، واتضحت مرتكزات فكره النهضوي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر عام 1938 بعد تبوؤه أرفع المواقع الأكاديمية، قبل أن يتولى وزارة التربية في آخر حكومة سبقت الحقبة الناصرية.
بسط طه حسين أفكاره الليبرالية المتأثرة عميقاً بالمدنية الغربية بعد عودته من الدراسة في فرنسا عام 1919، من خلال توسطه للحياة الأدبية والأكاديمية في جامعتي القاهرة والاسكندرية التي امتدت على مدى خمسين عاما قبل أن يصبح وزيرًا للتربية في حكومة الوفد الأخيرة بين العامين 1950 و1952.
دعا طه حسين إلى سيطرة العقل على الطبيعة والحياة، وتجاوز الصراع بين العقل والدين للوصول إلى قيام نوع من التوازن بينهما تحتاجه الحضارة باعتبارها غاية الحياة البشرية، مستلهمًا الحضارة الأوروبية بأبعادها الإنسانية والمدنية والديمقراطية.
روّج طه حسين للقول بانتماء مصر إلى الغرب وليس إلى الشرق، ودافع عن الفكرة التي تقول بإمكانية اقتباس “المدنية الأوروبية دون اقتباس دينها”، وهذا يتطلب شرطًا واحدًا هو قبول المصريين بالفصل بين الدين والمدنية على غرار ما حدث في مدنية أوروبا الحديثة. أما طريق التغيير فلا يمر إلا من معبر واحد هو إصلاح التربية والتعليم.
وقد أعاد في المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية، بعد تصالحه مع فكرة عروبة مصر التي رسختها الناصرية بعد العام 1954، النظر في الكثير من آرائه المتعلقة بفرعونية مصر والعروبة والإسلام، وحافظ على دوره كعميد للآدب وأكاديمي ومثقف كبير يمارس فكره النقدي والتنويري في الصحافة والجامعة والأوساط الأدبية بعيداً عن أي شكل من أشكال السياسة والالتزام الحزبي.
تشبه سيرة حياة عفلق الفكرية في جوانب عدة المسار الفكري لطه حسين، من الدراسة الأكاديمية في فرنسا في الفترة من العام 1927 إلى العام 1932 حيث عاين عن قرب الحياة الثقافية ومختلف مظاهر المدنية الأوروبية، وحافظ على علاقة وثيقة بالعديد من المفكرين الفرنسيين حتى الفترة الأخيرة من حياته. كذلك في انصرافه إلى التدريس بعد التخرج في مدرسة التجهيز في دمشق، وتولي وزارة التربية في حكومة سامي الحناوي، والكتابات ذات الطابع الأدبي التي تؤكد أنه في هذه المرحلة كان يمكن أن يتجه نحو الخيار الأدبي والأكاديمي بعيدًا عن العمل الحزبي الملتزم. لكن عفلق الذي كان قد بدأ، مع صديقه صلاح الدين البيطار، هذا المسار من خلال علاقته بالطلاب العرب في فرنسا ومن بينهم الطلاب المغاربة، وفي مقدمتهم علال الفاسي، استقال من التعليم لينصرف مع البيطار إلى العمل الحزبي الملتزم ويبدأ رحلة تاسيس البعث على المستويين الفكري والتنظيمي ليتحول إلى أبرز حركة سياسية في المشرق العربي في خمسينيات القرن العشرين، وينخرط في تجربة سياسية فريدة عرف فيها الاعتقال وخاض الانتخابات النيابية، وتولى الوزارة، وحقق مع حزبه انتصاراً ديمقراطياً كبيراً في الانتخابات النيابية في سوريا عام 1954. بعد هذا العام، انتشرت أفكار البعث وتنظيمه الحزبي، الذي بات يضم عشرات الآلاف في سوريا ولبنان والأردن والعراق إضافة إلى بدايات واعدة للتنظيم في مصر وبعض أقطار المغرب العربي. وما كان غريبًا في هذا الإطار انتشار التنظيم الحزبي في مؤسسة الجيش لتصبح لعفلق وقيادة الحزب الكلمة العليا في سوريا التي قادت إلى الحدث القومي الكبير المتمثل بوحدة سوريا ومصر عام 1985.
لا يتسع المجال في هذه المقالة للتوسع بالقول فيما يتعلق بتاريخ البعث وعلاقته بالسلطة وأثر ذلك على تنظيمه الحزبي، لكن نموذج المثقف الملتزم الذي يكرس حياته لنهضة مجتمعه، هو في واقع الأمر نموذج متميز في صدقه وفرادته عبّر عنه عفلق في حياته الفكرية والسياسية والاجتماعية. تمثل هذا النموذج بالتناغم بين الفكر والسلوك من بداية حياته إلى نهايتها حيث فارق الحياة في حزيران من العام 1989، وهو يشغل موقع الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي.
هل يلغي نموذج المثقف الملتزم الذي يمثله عفلق نموذج المثقف الأكاديمي الذي يمثله طه حسين؟ وهل الانحياز لأحد النموذجين شرط للتنوير والنهضة العربية؟
لا يصح طرح الخيار بين النموذجين على طريقة : إما أو، فالنموذجان متكاملان في ميدان الحياة الفكرية للمجتمع وليسا متناقضين. لا شك بأن خيار الحياة الهادئة المنشغلة بالإبداع في الميدان الفكري بعيداً عن السياسة والحياة الحزبية وتعقيداتها هي الأكثر إغراءً على الصعيد الفردي للمثقف، ولا يمكن إدانة هذا الخيار بأي حال من الأحوال ما لم يتحول إلى إداة في خدمة سلطة تتغول على المجتمع وتمنع نموه وتقدمه. تكمن المشكلة في تجويف الثقافة من خلال الألقاب الأكاديمية التي لا تعبر عن مضمون يتناسب معها من حيث الإبداع الفكري والثقافي عامة. وتغدو أكثر تعقيدًا حين يعمد هؤلاء إلى وضع أنفسهم في موقع المترفع عن الالتزام الحزبي بحيث تحضر المعرفة ويغيب الموقف، خاصة في الأوقات الحرجة التي تحكم الحياة الاجتماعية. وليس غريبًا، في هذه الحال أن تصبح اتحادات الكتاب ومنتديات المثقفين اشبه بديكور تجميلي لأكثر السلطات قبحاً واستبداداً.
اختار طه حسين طريق الحياة الهادئة المفعمة بالثقافة والإبداع الفكري والأدبي فكان نموذجًا للمثقف الأكاديمي المتصالح مع السلطة والمكتفي بالإبداع الفردي، واختار عفلق الالتزام الحزبي المتناسب مع الحراك النضالي الهادف للتغيير من خلال المقالة الصحفية والبيان والمحاضرة والحلقات الحزبية مع ما يرافق كل ذلك من مخاطر ومعاناة وسعي لتغيير السلطة. والاقتداء بأحد النموذجين رائج بهذا القدر أو ذاك في الحياة العربية، لكن الاقتراب من إبداع طه حسين لا تكفيه الألقاب الأكاديمية التي بات يشوب توزيعها في الجامعات الكثير من الاستسهال، مثلما يشوب الاقتداء بإبداع عفلق الفكري والنضالي الكثير من الرياء والادعاء.
لميشال عفلق ورفاقه الرواد مؤسسو البعث في السابع من نيسان عام 1947 من المؤسسة الحزبية التي أرسوا ركائزها الفكرية والنضالية الأولى في دستور البعث عهد الوفاء والاقتداء بفكرهم ونضالهم الذي يتجدد كل عام ليبقى مشعل الفكر المتزم وقاداً ينير درب الأمل في بعث الأمة. وللمدعين صلة بإبداع أحدهما أو الإثنين معًا من حملة الألقاب الأكاديمية القائلين بنهاية الأيديولوجيا وأعداء العمل الحزبي نقول: ما أغنتكم ألقابكم ولا أتاحت لكم أن تطالوا عنب الإبداع أو بلح ثقافة الالتزام.