
اتسع نطاق التصفيات الميدانية للمدنيين، دون محاكمة، أو عبر محاكم صورية لإعلان أحكام معدة سلفًا، تشمل الإعدام أو السجن المؤبد لمن يتم وصفهم ب”المتعاونين”. يحدث ذلك بالتزامن مع تقدم الجيش وحلفائه، لملء الفراغ الذي خلفته انسحابات الدعم السريع في أكثر من موقع، لاسيما في العاصمة، الخرطوم، وذلك بعد تأطير كل من يدعو لوقف الحرب ودمغه بالعمالة والخيانة والحاضنة “السياسية للتمرد”، وهو الموقف الذي تبناه إعلام الفلول منذ بداية الحرب بتركيز، حتى يخال أن الحرب في مواجهة القوى السياسية والحركة الجماهيرية، لا في مواجهة الدعم السريع الذي انشأوه من أجل حماية السلطة والجاه، ويمضي خلفها، وقع الحافر على الحافر، إعلام الجيش. وقد ظهرت هذه الجرائم والتجاوزات، التي ترقى لمستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، في الحلفايا بعد عبور الجيش ومليشيا المتأسلمين كبري الحلفايا، أولاً، ثم في مدني ومدن عديدة بالجزيرة بعد انسحاب قوات الدعم السريع وما خلفته من ورائها من انتهاكات وجرائم وخراب طال كل شيء، كما ظهرت فيما بعد في بري، وهو ما يحدث الآن، في مايو والحزام، جنوب الخرطوم وأمبدة وجبل أولياء، موثق صورة وصوت.
إن الاغتيالات والمجازر، والإعدامات الميدانية وتوزيع الاتهامات جزافًا وصكوك الوطنية، التي شهدتها هذه المناطق، وغيرها ليست تفلتات أو تجاوزات فردية، وإنما هي عمل ممنهج ومنظم، من أولويات واجبات قوى الثورة والقوى الرافضة للحرب ولاستمرارها، خاصة، التنبه له، وفضحه، لأنها المستهدفة به، قِبل من تسميهم بالتمرد، وقِبل المشتبه بانتمائهم لحواضنها. ويصبح من ضمن أولويات قوى الثورة، وهي تكافح لأجل وقف الحرب، عبر أوسع جبهة شعبية، أن تحبط مساعي الفلول وقوى الردة والتفتيت، للتستر على هذه الجرائم، وتشتيت انتباه الرأي العام، وصرفه بعيدًا عنها، بالتركيز على ممارسات الطرف الآخر، في ميدان حقوق الإنسان، التي لا تقل بشاعة عما تقوم به فصائل المتأسلمين في مناطق سيطرة الجيش وبمشاركته، موظفة بانتهازيتها التي لا مثيل لها، أجواء الحرب، لبلوغ غاياتها الشريرة.
لقد طفحت مجالس العائدين من مناطق الانسحابات وإعادة الانتشار وذويهم، ووسائط التواصل الاجتماعي، بشكاوي المواطنين، في المناطق التي استعادها الجيش، في العاصمة على سبيل المثال، من التجاوزات التي يقوم بها مسلحون، من تعديات على السكان ونهب ممتلكاتهم وتفريغ المنازل من تأسيسها، وانتهاءً باعتقال الفاعلين من شباب أحزاب المعارضة، ولجان المقاومة والطوارئ والتكايا، وحتى إعدام بعضهم ميدانياً، بلا محاكمة، تحت ادعاء التعامل مع “التمرد”. ويعني ذلك، في غالب الحالات، بقاء أولئك الضحايا في منازلهم، وعدم مغادرتها، التي أصبحت تهمة يعاقب عليها بالإعدام.
ويستفاد من شهادات أسر الضحايا وشهود عيان، ومن الرصد الميداني، أن هذه الجرائم تقوم بها مليشيات المتأسلمين التي أحكمت تمكينها العسكري والأمني والإداري والمالي في أجواء الحرب، سواء تحت حماية الجيش أو بعلمه، لتصفية خصومهم السياسيين وغيرهم، ممثلين في قوى الثورة، لاستكمال الردة، وتأمين عودتهم للحكم، مرة أخرى. وهو ما يسلط مزيدًا من الأضواء الكاشفة للخواء والإفلاس الفكري والاخلاقي “للجماعة” وضيقها وبرمها بالتعددية والتنافس الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، أو بجملة قصيرة (الوصاية على الشعب وأحزابه)، التي تتناغم معها قيادات الجيش، التي توعد أحدهم عبر مخاطبة الشعب بتدبير انقلاب على من يختاره الشعب. في تناقض فج مع دور القوات المسلحة كمؤسسة وطنية، ووظيفتها الدستورية التي لخصتها مقولة أحد شهداء حركة 28 رمضان/ 23 أبريل المجيدة، الشهيد عميد طيار محمد عثمان كرار ( أن القوات المسلحة تحمي ولا تهدد وتصون ولا تبدد).
إن الجيش السوداني هو في الأساس مؤسسة وطنية نظامية معنية بحماية النظام الدستوري وتعزيز الأمن والاستقرار وسلامة أراضي البلاد. وبهكذا تعريف فإن إصرار قيادة هذه المؤسسة على تحويلها لغطاء سياسي وأمني واقتصادي لكتائب النظام البائد وفلول قوى الردة من أجل الانتقام والتشفي وقهر الشعب الأعزل وإذلاله والتسلط عليه، يعتبر جريمة في حق الجيش والشعب معًا.
إن الفظائع البشعة التي ترتكبها مليشيات الفلول بلافتاتها المتعددة (البرق الخاطف، الفتح المبين، العمل الخاص، البراء بن مالك…..)، في مناطق سيطرة الجيش، هي إساءة وتوريط للمؤسسة النظامية الرسمية في جرائم حرب ضد الإنسانية والدين والأخلاق. وضمن مخطط إضعاف السودان وتفتيته، المستفيد الوحيد منها هم هؤلاء الذين دمروها وأضعفوها وأفسدوا نخبها بالامتيازات والأنشطة التجارية والمالية، خلال عهدهم البائس، الذي أظهرته الحرب العبثية بالجيوش الموازية، التي يتهمون الآن خصومهم بالتعاون معها، الموالية لنظامهم الذي أسقطته الإرادة الشعبية بانتفاضتها الثورية. لقد أعلنت العديد من الدول فتح باب للمتطوعين والمجندين في حروب وطنية خاضتها، مع تقيدهم بنظم جيوشها وتقاليدها وباحترام كامل للقوانين الوطنىة والدولية في حماية المدنيين وحقوق الإنسان، ولم يكن للاستحابة في إسناد الجيوش ودعمها تدخلاً في مجريات سير العمليات أو رفض التوصل لحلول سلمية، وقبل ذلك توظيف التطوع والتجنيد لفرض أجندة سياسية أو مقابل سلطوي.
إن هذا المخطط الدموي، الذي يتمثل في حرب داخل الحرب، كفاشية جديدة، يتطلب التصدي له من عدة زوايا، بدءاً بفضح الفلول فكريًا وأخلاقيًا، وتوثيق الجرائم والانتهاكات، وتكثيف بثها إعلاميًا، والتأكيد على ضرورة وجود جيش وطني حديث بعقيدة وطنية، ومؤسسات أمنية وشرطية مهنية، لا تمارس جميعها لا السياسة ولا الاقتصاد التجاري والمالي، بجانب التأكيد على سيادة حكم القانون، وعدم الإفلات من العقاب، وعدم سقوط الجرائم بالتقادم ووقف التجاوزات الجارية، خصوصًا، القتل خارج القانون، بتهم فضفاضة، من قبيل التعاون أو التعايش مع “التمرد”، ومساءلة مرتكبي تلك التجاوزات والجرائم والمجازر.
إن المشانق والاغتيالات والاعتقالات والرصاص والإرهاب لن يثني جماهير الشعب وقواه الحية عن مواصلة النضال السلمي الديمقراطي لوقف الحرب وتحقيق تطلعاتها وترسيخ النظام الديمقراطي المستدام.
لا سلطة لغير الشعب
ولا وصاية على الشعب وأحزابه.
كلمة الهدف
حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل)
2025/4/2َ