
بقلم خالد ضياء الدين
حكى لي ذات يوم صديقي وابن عمي “محمود جمال الدين” قصة حدثت لهم في أمريكا وهم (3) سودانيين على طريق سفري من ولاية لأخرى على سيارة خاصة، وقد وجدوا في منتصف الطريق رجل أمريكي أبيض كبير في السن تعطلت سيارته.
قال: (استضفناه معنا حتى يصل لأقرب نقطة فيها خدمات سيارات، الرجل بعد مسافة سألنا هل أنتم من ولاية(…) وهي ولاية أغلب سكانها من الزنوج الأمريكان .
رد عليه ابن عمي بأنهم من السودان، فما كان من الرجل إلا أن اتسعت عيونه وفتح فمه قائلا: أنتم من أغنى دول العالم، يفترض أن نذهب نحن للعمل عندكم وليس العكس.. هل تعلموا بأن كل الذي أعطاه الله لأمريكا منحكم مثله وأكثر )؟
(طنطن أحدهم قائلا نحن عندنا شنو غير الشقاء والتعب)؟
واصل الأمريكي حديثه معرفا نفسه: (أنا (فلان الفلاني) كنت أعمل في وكالة ناسا ثم واصل حديثه عن كميات النحاس والذهب في دارفور واليورانيوم في جبال النوبة وعن الثروة الحيوانية ولم يترك مكان في السودان إلا وذكر فيه معدنا أو بترولا، حتى الرمال في شمال ووسط السودان تحدث عن قيمتها العالية..).
نعم الرمل الذي يشتكي منه أهل الشمال والوسط ويسمونه الزحف الصحراوي يحتوي على مادة تستخدم في حقن السيدات لزيادة جمالهن.
ماقاله ذلك الأمريكي كان بمثابة درس لهم عن أهمية السودان “أرضا وشعباً” وهي معلومات وإن علمها البعض إلا أنها لاتشكل في وعيهم السياسي والاقتصادي أكثر من فدادين صالحة للزراعة ومناطق الرعي الطبيعي، أما الثروات التي يستهدف السودان لأجلها، فهي خارج الوعي الجمعي للشعب الذي تهدي حكوماته ثرواته للغرب الاستعماري لأجل السماح باستمرار طغيانهم والبقاء في السلطة.
هذه الرواية على لسان أبوجمال “عليه الرحمة” قفزت لذهني وأنا أقرأ حديث نقلته الصحافة الأمريكية على لسان الرئيس الأسبق “جيمي كارتر” ل “دونالد ترامب” أثناء حديثهما عن “الصين” أرسله لي الأستاذ عثمان إدريس أبو راس وذيله بتعليق منه سأقوم بعرضه ضمن المقال.
كارتر: (هل أنت قلق من أن تسبقنا الصين.. لقد طبعت العلاقات الدبلوماسية مع بكين رسميا منذ العام (1979) ومنذ ذلك الحين لم تدخل الصين أي حرب مع أي جهة، بينما نحن في حالة حرب دائمة.. إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأكثر ميلا للحرب، لفرض توافق معها وللسيطرة على الشركات التي تملك موارد الطاقة في العالم، بينما تعمل الصين بصمت وتستثمر مواردها في مشاريع السكك الحديدية والبنية التحتية وقطارات الرصاصة العابرة للقارات والمحيطات وتطوير الجيل السادس من التكنلوجيا والذكاء الاصطناعي و..و…)
ثم راح كارتر يفصل أكثر : (لقد أهدرنا 3 ترليون دولار في الإنفاق العسكري لإخضاع دول سعت إلى التحرر من هيمنتنا، بينما لم تبدد الصين فلساً واحداً على الحرب، ولو أنفقت الولايات المتحدة هذه ال 3 ترليون دولار في البنية التحتية والصحة العامة لكانت لدينا قطارات فائقة السرعة، عابرة للمحيطات، ورعاية مجانية للأمريكيين، ولم يمرض الآلاف بفيروس كوفيد -(19) أكثر من أي دولة في العالم، ولكان نظامنا التعليمي جيدا مثل نظام كوريا أو شنقهاي.)
حديث كارتر هذا قرأته مع تعليق مختصر لكنه قمة في العمق، وقد بنيت عليه مقالي هذا الذي حاولت فية عمل مقارنة بين حديث كارتر الخاص بأمريكا ومايحدث عندنا في السودان وقد سبقني في ذلك الأستاذ أبو راس معلقاً: ( ماتحدث عنه وأشار إليه كارتر ينطبق علينا تماما، خاصة إذا نظرنا لاضاعة موارد السودان في حروب داخلية ممتدة منذ ماقبل إعلان الاستقلال إلى يومنا هذا.
لقد أهدرنا ثروات البلد وأمواله، وأرواح أبنائه في حروب عبثية، وصراعات غير منطقية، ولو أن حكومات مابعد الاستقلال وظفت هذه الإمكانات للبناء والتعمير وتأسيس بنية تحتية لكان السودان الآن في مصاف الدول الأكثر ثراء وأمن وقوة، فقد وهبنا الله تنوع مادي وبشري قل ما يوجد عند غيرنا، لكننا أهدرناه في الصراع والتسليح وبددناه بالفساد والإفساد).
وعودة لحديث “أبو جمال” نقلا عن الأمريكي العجوز، وعطفاً على تعليق الأستاذ “أبوراس” يتضح أن السودان يمتلك من الإمكانات والموارد ما لو استخدم لكان من دول الاغتراب لا الهجرة، فشعبنا يتلوى جوعا فوق أرض زراعية لم تطرقها (طورية) ويمشي حافياً فوق مناجم من الذهب واليورانيوم، ويستورد الوقود وتحته بحار الخام تنتظر الحفر، لكننا وبكل أسف شغلتنا خلافاتنا المفتعلة وبددت ثرواتنا حكوماتنا العسكرية المتعاقبة، بينما عجزت حكوماتنا المدنية من تجاوز عقلية الاختلاف، فانشغل الجميع بالنظر إلى أرنبة أنفهم، وتركوا الثروات نهبا لأمثال ترامب الذي أسفر عن أبشع وجه للراسمالية العالمية والاستكبار، وليتهم نجحوا في تغيير وجه أمريكا، وليت حكوماتنا هي الأخرى نجحت ولو قليلا في تمتين وحدتنا الوطنية، وحافظت على أرضنا موحدة، ولم تدخلنا في صفقات الديون طويلة الأجل التي تستنزف موارد البلاد وتفقر العباد.
إذا كانت أمريكا قد عطلتها حروبها الخارجية التي امتدت ل (242) سنة عاشت فيها (16) سنة فقط في سلام ” حسب ما جاء على لسان كارتر” ومنعتها من اللحاق بركب الصين، فقد عطلتنا نحن حروبنا الداخلية الممتدة من التفرغ لاستنهاض شعبنا وإخراج مقدراته وإمكاناته قبل استخراج موارده الظاهرة فوق الأرض أو المتدثرة تحتها.
إنها ثروات بمليارات الدولارات تحولت لبراميل متفجرة، ومسيرات انتحارية، وجيوش مقاتلة، ومليشيات مسلحة، وقنابل تهدم القليل الذي تم بناءه من مستشفيات ومدارس وجامعات وأعيان مدنية.
الحروب المستمرة، والحكومات الفاشلة المتعاقبة، هي التي أدخلت أجيال قادمة(لم تولد بعد) في ديون وجب عليها سدادها نيابة عن آباء وأجداد (فشلة) لم يتمكنوا من توجيه تلك النعم غير المحدودة وهي هبة الله لشعبنا المكلوم التي استخدمت لتعطيله وإفقاره وقتله بدلاً عن استنهاضه اقتصاديا وثقافياً.
تعمل الصين الآن على إعادة “الشيفرة” الأساسية للاقتصاد العالمي باستخدام تقنية “البلوك تشين”، وتمضي حسب مجلة “الإيكونوميست” في ربط “اليوان الرقمي” بدول جنوب شرق آسيا (أسيان) و (6) دول في الشرق الأوسط مايعني أن (38%) من حجم التجارة العالمية سيتجاوز هيمنة الدولار لصالح اليوان الرقمي وهذا الأمر يشكل قلقاً كبيراً للغرب.
إمساك الصين بزمام المبادرة هو الذي يجعل ترامب في حالة هياج يشبه السعار، وهو في ترنحه وشعوره الداخلي بالهزيمة أمام الصين أصبح يمارس القرصنة و(الشفشفة) على الدول الغنية بالموارد، الفقيرة بفعل قادتها، لإنقاذ مايمكن إنقاذه لصالح الولايات المتحدة الأمريكية المترنحة، فهل يتمكن من الاستمرار في نهب ثروات إفريقيا والوطن العربي، أم أنها أيام وإن طالت ستموت أمريكا مثلما مات الاتحاد السوفيتي، وستبرز قوة جديدة في عالم متغير لايعترف بالسكون، ولايحترم مبددين ثروات الشعوب.