
بقلم : طارق عبداللطيف أبوعكرمة
مقدمة : في قلب الصراعات الحديثة، لا تُخاض الحروب فقط بالأسلحة، بل بالتحكم في العقول، وصياغة وعي الجماهير، وإعادة تشكيل الحقيقة بما يخدم مصالح القوى الفاعلة. السودان، كغيره من البلدان التي تعاني من النزاعات المسلحة، شهد نمطًا واضحًا من التلاعب بالوعي الجماعي عبر إنتاج التفاهة كأداة للتوجيه، وصناعة سرديات زائفة تخلق واقعًا موازٍ يُبعد الجماهير عن القضايا الجوهرية.
هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها اليوم تبلغ أوجها بفضل ثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحةً لترويج المحتوى السطحي، وتضخيم القضايا الهامشية، وإعادة تدوير الأخبار بطريقة تشوه الفهم العميق للأحداث. فما هي العلاقة بين التفاهة المنظمة وتزييف الوعي؟ وكيف يُستخدمان كأدوات لإطالة أمد الح-رب في السودان؟
أولاً: التفاهة كمنظومة لإدارة الصراعات: التفاهة ليست مجرد انحدار في مستوى النقاش العام، بل نظام مُمنهج يُستخدم لإفراغ القضايا الكبرى من مضمونها وتحويل النقاش حولها إلى استعراضات سطحية. في السودان، نرى هذا بوضوح في:
1. شخصنة القضايا العامة: بدلاً من مناقشة الأسباب العميقة للصراع، يتم التركيز على شخصيات سياسية أو عسكرية، وتصوير النزاع على أنه صراع أفراد لا مصالح.
2. الانشغال بالتفاصيل التافهة: في خضم أزمة إنسانية كارثية، ينشغل الخطاب الإعلامي بقضايا ثانوية، مثل منشورات المشاهير، أو شائعات عن تحركات شخصيات معينة، أو معارك على وسائل التواصل الاجتماعي.
3. تطبيع الانحطاط الفكري: يتم الترويج لمحتوى إعلامي مستهلك يركز على السجالات العاطفية بدل التحليل العميق، مما يقلل قدرة الجمهور على التفكير النقدي.
4. سيطرة المنصات التجارية على الوعي العام: تتحول وسائل الإعلام إلى منصات مدفوعة تخدم أجندات معينة، بدلًا من أن تكون أدوات تنويرية تساعد على كشف الحقائق.
النتيجة)): يتحول الرأي العام إلى جمهور مشوش يفتقر إلى البوصلة الفكرية، ما يسهل التحكم به عبر موجات إعلامية مصممة بدقة لإبعاده عن القضايا الحقيقية.((
ثانياً: تزييف الوعي: صناعة الواقع البديل: تزييف الوعي لا يتم فقط بنشر الأكاذيب، بل بصياغة سرديات تجعل الوهم أكثر إقناعًا من الحقيقة. في السودان، يُمارس هذا التزييف عبر:
1. إعادة صياغة التاريخ: يتم تقديم الحرب كحتمية تاريخية، وليس كنتيجة لأخطاء سياسية واقتصادية يمكن إصلاحها.
2. تقديم الصراع كحالة ثنائية جامدة: تقسيم القوى المتحاربة إلى خير مطلق وشر مطلق، مما يمنع أي تفكير نقدي حول الحلول الوسط أو التفاوض.
3. إعادة تعريف الوطنية: يتم تصوير كل دعوة للسلام على أنها خيانة، وكل موقف وسطي على أنه ضعف، مما يؤدي إلى تعميق الانقسام المجتمعي.
4. خلق أعداء وهميين: تحميل الأزمة لأطراف خارجية أو مجموعات معينة، مما يبعد التركيز عن الأسباب الداخلية الحقيقية للأزمة.
النتيجة: ((يفقد المواطن القدرة على رؤية المشهد بشكل متكامل، حيث يتم دفعه إلى تبني وجهات نظر مشوهة تخدم مصالح القوى الفاعلة في الحرب)).
ثالثاً: الإعلام كأداة تلاعب: كيف يتم إنتاج التفاهة وتزييف الوعي؟: وسائل الإعلام، بدل أن تكون ساحةً للتنوير، تحولت إلى أداة لإعادة إنتاج نفس الأنماط الفكرية المشوهة. ويتم ذلك عبر:
1. التضخيم الموجه: التركيز على أحداث جانبية لجذب الانتباه بعيدًا عن الأسئلة الكبرى حول أسباب الحرب، وآثارها، ومسارات إنهائها.
2. ترويج الخطاب العاطفي: استخدام لغة حماسية تشحن المشاعر، لكنها لا تقدم حلولًا عملية.
3. تشتيت الانتباه: خلق أزمات إعلامية زائفة لإبعاد الجمهور عن متابعة التحولات السياسية والعسكرية الحقيقية.
4. إغراق الفضاء العام بالمعلومات المتناقضة: مما يجعل المواطن غير قادر على التمييز بين الحقيقة والتضليل، ويقوده إلى اللامبالاة والاستسلام للأمر الواقع.
النتيجة)): تتحول وسائل الإعلام إلى حقل ألغام فكري، حيث يصبح من الصعب الوصول إلى الحقيقة، مما يسهل تمرير الأجندات السياسية والاقتصادية للقوى المتحكمة في الصراع)).
رابعاً: كيف تؤثر هذه الظواهر على مستقبل السودان؟ : عندما يصبح المجتمع رهينة للتفاهة والزيف، تكون العواقب كارثية، ومنها:
1. تآكل الوعي السياسي: يفقد المواطن القدرة على فهم حقوقه، والمطالبة بحلول حقيقية، مما يطيل أمد الأزمات.
2. تراجع قيم الحوار والتفكير النقدي: يصبح الانقسام هو السمة السائدة، حيث يُستبعد أي صوت يدعو إلى التفكير العميق أو الحلول المتوازنة.
3. تعطيل جهود إنهاء الح-رب: مع وجود وعي زائف، يتم رفض أي مبادرة للسلام، ويستمر العنف كأنه واقع محتوم.
4. سيطرة القوى المهيمنة دون مقاومة شعبية: كلما كان المجتمع مفتتًا ومشوشًا، كان من السهل التحكم به من قبل النخب السياسية والعسكرية.
الخاتمة: نحو استعادة الوعي الحقيقي
لمواجهة هذه الظواهر، لا بد من مشروع وطني لاستعادة الوعي النقدي والمستقل، وذلك من خلال:
– تعزيز الإعلام البديل: دعم منصات تقدم محتوى تحليلي عميق بدلًا من التفاهة السطحية.
– تشجيع التعليم النقدي: إدراج مهارات تحليل الإعلام، والتفكير النقدي، وفهم السرديات التاريخية ضمن المناهج التعليمية.
– بناء شبكات توعية شعبية: تنظيم حلقات نقاش وورش عمل لتفكيك مفاهيم التزييف وإعادة قراءة الواقع السوداني بعيون مستقلة.
– فضح أساليب التلاعب: كشف استراتيجيات التضليل الإعلامي، وتوعية المواطنين حول كيفية التحقق من المعلومات.
الخلاصة: لا يمكن للسودان أن يخرج من أزمته الراهنة إلا باستعادة وعيه الحقيقي، وكسر حلقة التزييف التي تحول التفاهة إلى قاعدة، وتمنع المجتمع من رؤية الطريق نحو التغيير الحقيقي. فإعادة تشكيل الوعي ليست رفاهية، بل معركة ضرورية لتأسيس مستقبل أكثر عدلًا واستقرارًا.