حول قرارات ولاة غرب وجنوب كردفان في إعفاء جملة من الإدارات الأهلية

بعد أيام، تدخل الحرب العبثية، التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023م، عامها الثالث، ولا يزال القتال سجال بين طرفيها رغم كل الانتهاكات والتداعيات التي خلفتها، وعمليات الهرج والمرج المصاحبة لها، حتى أصبح (القاتل لماذا يقتل، والقتيل لماذا قتل)، أي غياب أي مشروع ينهي هذه المأساة. والأدهى والأمر، هو في تحول هذه الحرب إلى مزادات، وشعارات زائفة للاستقطاب الحاد وسط الحواضن الاجتماعية والاستقطاب المضاد، والانحدار بذلك إلى مستوى تنفيذ نظرية (الضرب أسفل الجدار) لتفتيت المجتمع وتشطير البلاد، مع وضع المواطن بين فكي الرحى بالتخندق لأي من طرفيها، أو عدّه خائنًا أو متعاونًا وتلاحقه لعنات السباب والبلاغات الكيدية والزج في المعتقلات، التي فاق ما يحدث فيها جرائم أمريكا في أبو غريب، وجرائم المتأسلمين في بيوت الأشباح.
وفي إطار هذا الصراع المحموم، بدأت سلطة الأمر الواقع في بورسودان، باتخاذ سلسلة من الإجراءات والقرارات كمحاولة لإثبات شرعيتها المفقودة، بدأتها باتهام القوى السياسية والاجتماعية التي رفضت الحرب واستمرارها وقياداتها بالعمالة والخيانة الوطنية عبر المنشور الصادر من النيابة العامة، بالقبض على المتهمين المشار إليهم، والقانون المعيب سيئ الاسم، الأوجه الغريبة، وليس انتهاءً بقرار وزير التعليم العالي بإلزام الجامعات بالعودة للسودان؛ الآن نفاجأ بقرارات جديدة، طالت هذه المرة الإدارة الأهلية، فقد صدر من ولاة جنوب وغرب كردفان، قرارات إعفاء بالجملة لقيادات من الإدارة الأهلية، فقد سبق للوزير الاتحادي المهندس كرتكيلا، أن أصدر قرارات مشابهة، اعتبرت كسابقة خطيرة، ليس في عدم شرعيتها فحسب؛ وإنما في كونها خرجت كرد فعل سياسي فاقد للسياق الموضوعي والمهني والإداري.
فمنذ عهد الاستعمار، ظلت الإدارة الأهلية قاعدة للحكم المحلي، وتتوفر على صلاحيات تتعلق بجمع وتحصيل الجبايات، وفض النزاعات، وحفظ الأمن. إلا أن هذه الظاهرة بدلًا من تحجيم دورها وتقليص هيكلها الإداري، لتحل محلها تدريجيًا سلطة القانون وتوسيع المشاركة الشعبية المجتمعية؛ إلا أننا نجدها قد تمددت وانتشرت حتى في المناطق التي لم تكن بها إدارات أهلية، فعندما حاول (ملنر) الإنجليزي، وضع قانون للإدارة الأهلية وتعميمه على السودان، ذكر مأمور كسلا بأنه لا توجد مثل هذه التشكلات الأهلية، كما هو الحال في غرب السودان.
ومع ذلك فقد حاولت الأنظمة العسكرية استخدامها كقاعدة أو حاضنة لها بعد حل الأحزاب، إلا أن المشير جعفر نميري، حاول تصفيتها عبر حلها في عام 1970م، لكن ثبت بالتجربة استحالة تنفيذ ذلك بقرار فوقي، لأنها تستمد شرعيتها من القبيلة أو المجموعات السكانية التي تنبثق منها في مستوياتها المختلفة، حيث تتداول السلطة بالوراثة غالبًا. فقد ظلت حاضرة خلف الدوائر الانتخابية لمنح المشروعية الانتخابية، وقد مثلت في كل الهيئات، والجمعيات التشريعية، مرورًا بالبرلمانات الثلاثة، بعد الاستقلال السياسي، وحتى مجالس الشعب الخمسة في عهد نميري، والبرلمان الأخير المنتخب بعد الانتفاضة.
بطبيعة الحال فإن الإدارة الأهلية تتغذّى من الواقع القبلي وانتشار الجهل والأمية في هذه الأوساط، وتغييب التنمية المتوازنة ونقص الخدمات، ولكن الشيء الأساسي لوجودها هو في وجود الصراعات المزمنة في الواقع التقليدي في مناطق الرعي والزراعة، مع وجود أعراف وتقاليد حاكمة تخضع لها هذه المجموعات.
خلال سنوات الإنقاذ الثلاثين، شغلت السلطة من يومها الأول بتنظيم مؤتمرات الصلح القبلي في مناطق النزاعات، من منطلق أنه لا يمكن تجاوز الإدارة الأهلية في تسوية تلك النزاعات، التي تتعلق بالأرض والرعي والزراعة، لكن الإنقاذ عملت بتخطيط على تسييس الإدارة الأهلية، والزج بها في صراع السلطة، ظنًا منها أن ذلك يمكنها من الهيمنة على تلك المجتمعات وتبديل الولاءات بعد ضربها لمواقع النفوذ والولاء التقليديين، وبذلك يخلو لها الجو. في حين أنه يتوجب أن تكون الإدارة الأهلية في منأى عن السياسة، وأن سلطتها تكون مستقلة، مثل الجيش والخدمة المدنية والقضائية والبنك المركزي والتعليم العالي.
وهاهي حرب قوى الردة والفلول تعيدنا مرة أخرى لموضوع الفزع كاستنفار قبلي، من قبل طرفي الحرب. سلطة الأمر الواقع تنفخ في كيره لتقوم ببعض مهام القوات المسلحة في الدولة الحديثة، من خلال إحلال البناء التقليدي محل المجتمع المدني الحديث، بما في ذلك الأحزاب والنقابات والمكونات الفئوية والأهلية ولجان المقاومة والطوارئ وغيرها. وتتنافس في ذلك مع قوات الدعم السريع ذات البنية القبلية والولاءات التقليدية.
وفي إطار هذا التنافس السلبي الخطير، يلجأ أمراء الحرب لذات الخطأ، عبر ممارسة الضغوط باللجوء للإقالات، عن طريق عدة قنوات حتى غابت عنهم حدود الاختصاص بين الوزير والولاة، وتجاوز للضوابط الإدارية والقانونية، وعدم الاستناد لأي قانون للإدارة الأهلية يجيز قرارات الفصل هذه، لاعتبارات أن هذه القيادات الأهلية جاءت عبر انتخابات كلية، ولكون أن الإدارات الأهلية لا تدخل ضمن الهيكل الراتبي، هذا مما يجعل هذه القرارات في سياق التنافس السلبي والتصعيد المتبادل، محض حبر على ورق. هذا إلى جانب أن قيادات الإدارة الأهلية غير المسيسة، وفي حدود مهامها المحدودة من قبيل تحصيل الجبايات وحفظ الأمن وفض النزاعات، وتنظيم الاستفادة من الموارد المتاحة، مثل الماء والرعي والأراضي الزراعية؛ تجد نفسها مضطرة في التعامل مع سلطة الأمر الواقع وذلك لحماية مصالح القبيلة ورعايتها.
إن أحد تحديات مرحلة ما بعد الحرب، هو في إعادة الإدارة الأهلية إلى وضعها الطبيعي، وتجريدها من السلاح، وإبعادها عن السياسة، وليس حلها كما فعل النميري، أو تحويلها لواجهة حزبية سلطوية، وإنما حصرها في مهام محدودة قانونًا، مع تحديد نطاقها الجغرافي، منعًا ومحاصرةً لجماعات المناصرة والفزع القبلي، مع إعادة النظر في الحكم المحلي وتقسيم الولايات والمحليات التي نشأت في عهد الإنقاذ لترضية بعض المكونات والنخب النفعية، التي ولّدت غبنًا بالمقابل لدى أخرى، هدرًا للموارد المحدودة على بيروقراطية متضخمة، وإذكاء أوار النزعات التفتيتية.

لا سلطة لغير الشعب ولا وصاية على الشعب

كلمة الهدف
2025/3/23