ليس مستغرباً أن يرفض الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، التفاوض مع نظيره، محمد حمدان حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، من أجل وقف الحرب. فقد فعل ذلك كثيراً، منذ بدء الحرب، لكن بطريقة مواربة، ومراوغة، أحياناً، من خلال اشتراطات ينتظر أن يرفضها الطرف الآخر. غير أنه في خطابه الأخير، بدا أكثر وضوحاً وصراحةً، حين أعلن رفضه للتفاوض مطلقاً، وللذهاب إلى جدة لهذا الغرض، الأمر الذي يشكل تحدياً لمسهلي تفاوض منبر جدة، الذين يمثلون العديد من الدول ذات العلاقة والتأثير والنفوذ في السودان، بجانب المنظمات الإقليمية والدولية، لجهة ما يتعين عليها عمله: منبر جدة يكون أو لا يكون، تلك هي المسألة، على قول هاملت. وعلى الرغم من إمكانية التواصل مع طرفي الحرب، بقنوات أخرى، إلا أن مصير منبر جدة قد أصبح موضوع تساؤل. خطاب البرهان، الذي جاء بعد خطاب عبد الرحيم دقلو، وبدا كأنه رد عليه، شكلاً وموضوعاً، قطع باستمرار الحرب حتى القضاء على ما أسماه المليشيا، في حين أكد عبد الرحيم، بالمقابل، على مبدأ استمرار القتال حتى تحرير الشعب السوداني من سيطرة الحركة الإسلامية، على حد قوله، وخص السودانيين في ولايات الشمالية ونهر النيل والبحر الأحمر، أي الولايات التي تقع تحت سيطرة القوات المسلحة، بوعد الخلاص. وفيما بعد أكد محمد حمدان دقلو، في خطاب لاحق، على استمرار الحرب، للعام الثالث، دون بارقة أمل في سلام، أو حتى هدنة إنسانية.
الخطابات الثلاثة، التي صدرت في مارس الجاري، على بعد شهر تقريباً، من إكمال الحرب سنتها الثانية، تجاهلت الإشارة لأي نهاية محتملة للحرب، أو لوقف إطلاق النار، والذي تزداد المطالبة الملحة به من قبل المجتمع الدولي، مثلما تزداد الحاجة إليه لأجل حماية المدنيين وغوثهم.
ولأن المدنيين، الذين لا زالوا يفتقرون للدعم الفعال والملموس، من قبل المجتمع الدولي، هم الأكثر تضرراً من الحرب، فإن تصميم طرفيها على تجاهل الدعوات ومطالب إنهاء الحرب، والاصرار على استمرارها، على عتبة عامها الثالث، يعني أن المدنيين موعودون بمعاناة إضافية، لا سيما أن نذير استمرار الحرب، ينطوي على توسع في رقعتها، في ولايات جديدة، بجانب استخدام أسلحة جديدة، ما يعني دخول اطراف خارجية، تجد في الحرب واستدامتها، ما يحقق مصالحها. فالبلدان التي تقوم بإعادة تسليح طرفي الحرب، تضفي بعداً جديداً على الصراع، والذي جرت عادة النظر إليه كصراع داخلي على السلطة. فقد ألمح عبدالرحيم دقلو إلى توجه الدعم السريع لامتلاك طائرات حربية، لأول مرة منذ بدء الحرب، للدفاع عن ما يسمى بالحكومة الموازية، التي ستنشأ في مناطق سيطرة الدعم السريع، في غرب السودان، وهو تطور جديد، من شأنه أن يحدث تغييراَ في مجرى العمليات، في وقت كثف فيه الدعم السريع من استخدام المسيرات في استهداف مرافق الكهرباء، خصوصاً، في مروي ودنقلا والدبة، في ولايتي نهر النيل والشمالية، والقضارف، بجانب محطة أم دباكر، قرب كوستي، بولاية النيل الأبيض، مقدماً بذلك ملمحاً لما ستكون عليه الحرب، في عامها الثالث. ومن جانبها، فقد كثفت القوات المسلحة غاراتها على مواقع الدعم السريع في الفاشر ونيالا، والضعين وغيرها من مدن دارفور، والتي ينتظر أن تستضيف الحكومة الموازية لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان، بينما تخوض على الأرض، ما يعتقد بأنه آخر معاركها مع ما تبقى من قوات الدعم السريع في الخرطوم، والذي يواصل القصف المدفعي لأحياء من محلية كرري، بأم درمان. وبعيداً عن ضعف تأثير القوى المدنية الرافضة للحرب، ولعسكرة الصراع على السلطة، مبدأ، فإن استمرار الحرب لعامين، ودخولها لعام ثالث، هو الوجه الآخر، لفشل الوساطات الإقليمية والدولية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي أخذت على عاتقها مهمة استعادة الانتقال الديموقراطي بإدارة مدنية، منذ انقلاب 25 اكتوبر عام 2021، والتصدي، مع حلفائها، لتنسيق عملية تفاوضية من أجل تحقيق السلام، بعد اندلاع الحرب. وفي وقت تستأثر فيه الحرب في أوكرانيا وفي غزة بكل الاهتمام الدولي، لا سيما الأمريكي، يخشى أن تكون حرب السودان من الحروب المنسية. فالتحدي الماثل أمام مسهلي تفاوض منبر جدة وتفاوض منبر جنيف، يتعلق بما إذا كانت هذه العملية أو تلك، لا زالت قادرة على اجتذاب طرفي الحرب، وعما إذا كانت المفاوضات نفسها، ذات جدوى أو جاذبية، تستدعي التمسك بها أو المراهنة عليها.