محاور النضال الشعبي لتجاوز الازمة الوطنية الشاملة

 

بســــــــم الله الرحمن الرحيــــــــم

 

حزب البعث العربي الاشتراكي

     قيادة قطــر الســـودان

 

 

محـــــاور النضــــــال الشـــعبي

لتوظحدث الوطنية الشاملة

يونيو 1999

 

 

 

يا جماهيـــر شــعبنا المناضــلة ..

وما ماذاتنا نحن عند يقينه ، من أزمة الطول والعودة في كلتا الحالتين؟ طيلة الفترة الماضية يسلط الضوء على قوى دفعها وأطرافها والعقبات التي تظهر في طريقها مع تقديره من انحرافات العلاقات الاجتماعية أكثر من غيرها لدخول المصالحة ، والدوائر الاحاائل مصالحة 1977 إبان الدكتاتورية المايوية، منبها الى حقيقة كونها واحدا من الحلول والبدائل الزائفة التي تعمل أطرافها، وقوى دفعها على التأقلم والتعايش مع النظام باطالة أمده وتوسيع قاعدة مشاركته السياسية. كمحاولة قطع الطريق أمام القوى العاملة

لقد قام حزبنا ومنذ بدايات نشأته بتحليل واقع وإمكانات وإتجاهات مختلف التكوينات السياسية والاجتماعية والعسكرية السودانية ، مثلما دأب على ذلك في مختلف منعطفـات النضال الوطني والقومي والمراحل التي مرت بها ، منطلقاً من منهجـه القومي الثوري المتكامل الأبعاد ، ابتداءاً من تحليل مارس 1962 وما تلاه حتى الآن .

فلقد أشارت مجلة الحزب – وعي الجماهير – في يناير 1976 إلى أنه من الخطأ اعتبار التناقض بين القوى التقليدية وبين قوى اليمين الحديث تناقضاً رئيسيا ، يمكن الاعتماد عليه بمغازلة أحد طرفيه . معتبرة أن مغازلة النظام لن تؤدي إلاَّ الى إعطائه صك براءة وغفران عما ارتكبه في حق الجماهير ، وتضليل وإرباك لنضالها المتصاعد بخطى واسعة وحثيثه . بينما مغازلة القوى التقليدية ، لن تكون إلا استجابة وخدمة مجانية لتكتيكاتها المستهدفة – وما زالت – الاتفاق مع النظام أو إسقاطه لمصلحتها .

وخلصت ، وعي الجماهير ، إلى أن اليمين بقسميه – القديم والحديث – هو في المحصلة النهائية التناقض الرئيسي أمام جماهير شعبنا بنفس مستوى العدو الأساس ، لهذه الجماهير ، الصهيونية والعنصرية والامبريالية العالمية . وجاءت التطورات السياسية اللاحقة مصدقة لما بين يدي ذلك التحليل ، حيث انخرط الأخوان المسلمون والصادق المهدي مع نظام نميري ، فيما عرف بالمصالحة الوطنية 77 -1978 ، بينما رفض حزب البعث العربي الاشتراكي وتصدى بمسؤولية لمواجهتها معتبراً اياها محاولة لانقاذ النظام المايوي من السقوط من خلال تجديد دماءه بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية ، ومن أجل قطع الطريق أمام البديل الوطني الديمقراطي المستقل . ولبلوغ ذلك الهدف لعبت أمريكا وأطرافاً عربية دوراً كبيراً من خلال ممارسة الضغط على كل الأطراف ، من أجل الوصول الى تلك المصالحة التي اجتمعت تحت سقفها قوى التبعية والارتباط بالأجنبي وطريق التطور الرأسمالي ومعاداة التطور الديمقراطي المستقل .

بعيد المصالحة وفي مايو 1978 أصدر حزبنا بياناً بعنوان (نحو مخرج ديمقراطي تقدمي لأزمة التطور الوطني ) أكد فيه (( أن الصراع السياسي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي حقيقة موضوعية ، وله أفقه التاريخي الذي يتجه نحوه .. صراع بين الجماهير الواسعة التي تريد حرية وطنها وتقدمه انطلاقاً من تطور حركتها المستقل عن القوى المعادية للثورة الوطنية التقدمية بأفقها الاشتراكي ، وبين فئة اجتماعية محددة تريد احتكار السلطة لمصلحتها الطبقية الضيقة ولمصلحة أسيادها الامبرياليين ، وهو ما طبع ساحة الصراع السياسي داخل السودان منذ أن نال استقلاله وحتى الآن . وأن ما يجري هذه الأيام هو جزء هام من هذه العملية رغم محاولات التغبيش والتعتيم التي تصاحبه )) ، وإعتبر ذلك البيان أن التطورات السياسية ستؤدي الى انشاء تحالف معارض صحيح سيعيد خارطة الصراع السياسي في البلاد الى صورة الاستقطاب الاستراتيجي بين القوى الرجعية بكافة أطرافها والقوى الوطنية التقدمية ، الأمر الذي يهيئ ظرفاً موضوعياً لتنامي وتجذر حركة الصراع السياسي والاجتماعي ، كما يفرض على القوى الوطنية التقدمية أعباء كبيرة باتجاه توفير الشروط اللازمة لاستنهاض الحركة الجماهيرية على قاعدة الوضوح السياسي الذي شلَّ غيابه خلال الفترة الماضية مبادرات الجماهير وإندفاعاتها الديمقراطية الثورية .

وفي خطوة عملية على ضوء ذلك التقييم ، حدث تحالف هام في مسيرة التطور الوطني ومناهضة الدكتاتورية ، في يوليو 1979 بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة الشريف حسين الهندي ( عليه رحمة الله ) ، ذلك التحالف مضافاً له انتفاضة يناير 1982 ، التي انطلقت من اضراب المعلمين وإمتدت لفئات أخرى ولعب فيها الحزب دوراً كبيراً ، قد فتحا الطريق لتكوين جبهة أوسع تمثلت في (( تجمع الشعب السوداني )) ، والذي ضمَّ اضافة الى البعث والاتحادي الديمقراطي بقيادة الشريف حسين الهندي ( عليه رحمة الله )  أنصار الامام الهادي المهدي وحزب سانو ، وتضامن أبناء غرب السودان  وشخصيات وطنية وقومية مستقلة ، حيث خاض تجمع الشعب السوداني نضاله مع جماهير الشعب حتى تكلل بالظفر في انتفاضة مارس /أبريل المجيدة  ولقد أصدر عدداً من البيانات وأصدر مجلته الدورية ( التجمع ) التي صدر عددها الأول في نوفمبر 1982 ، والتي وردت فيها الفقرات الثلاث التالية :

* انجاز الاضراب السياسي طريقنا لاسقاط نظام الجوع والارهاب .

* التفوا حول فروع تجمع الشعب السوداني ، فهي أداتكم لاسقاط نظام الجوع والارهاب وبناء سودان الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والعدل الاجتماعي .

* يا جماهير العمال والطلاب والموظفين والمهنيين والزراع والجنود والمثقفين الثوريين ، إن تجمعكم ، تجمع الشعب السوداني ، يطالبكم بتصعيد التعبئة ورفع الفعالية من أجل إنجاز الاضراب السياسي العام والشامل ، فهو سلاحنا الحاسم لاسقاط نظام الجوع والارهاب .

لقد اتخذ الاصطفاف الذي أفرزته المصالحة وقواها ، طابع الاستقطاب الاستراتيجي ، كما أشار الى ذلك بيان مايو 1978 ، بين البعث والقوى الوطنية من ناحية ، وبين مراكز البديل الأمريكي الزائف وجهوده العاثرة ما بين 83-1985  باستهداف بناء جبهة موازية لتجمع الشعب السوداني من ناحية ثانية ، ومن ثم التآمر ليلة 5/6 أبريل 1985 على الانتفاضة الشعبية وإفراغها من محتواها  والتمهيد لاعادة القوى التقليدية المدنية بعد أن فشلت ، وللمرة الثانية  واجهتها العسكرية التي قاومتها وأسقطتها جماهير الشعب بسلاحها المجرب ، الاضراب السياسي والعصيان المدني ، وذلك بعزل حزب البعث عن التوقيع على ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي ، بالرغم من دوره المشهود في مقاومة النظام المايوي والتحضير للانتفاضة الشعبية منذ مارس/آذار 1985 من خلال اضراب عمال السكة حديد في عطبرة الذي تزامن مع العمل الذي تم في الخرطوم ، وبالمحاولات المستمرة لتهميش دوره داخل التجمع في الفترة الانتقالية ( أبريل 85- أبريل 86)  كما تابعت تفاصيل ذلك جماهير شعبنا ، التي أدركت بخبرتها وتجاربها أن التناقض بين القوى التقليدية والأنظمة الدكتاتورية لم يكن – في يوم من الأيام – تناقضاً أساسياً وجوهرياً ، بل يمثلان دائماً وعلى التعاقب أو بالتصالح نفس القوى الاجتماعية المتحكمة في المجتمع منذ فجر الاستقلال .

لقد كانت المحاور الأساسية للصراع السياسي والاجتماعي خلال الديمقراطية الثالثة تتركز بين قوى الانتفاضة وفي قلبها حزب البعث العربي الاشتراكي وبين قوى الردة من بقايا مايو ، صراعاً بين من يرديدون ترسيخ الديمقراطية وتطويرها وتوطينها وربطها بالانجاز لصالح الجماهير الكادحة والرفض الحقيقي للتبعية لسياسات صندوق النقد الدولي وإقتصاد السوق الرأسمالي المفتوح ومعالجة الأزمة الاقتصادية وتوفير شروط التنمية الشاملة والمتوازنة والمستقلة ، وإشاعة الحريات العامة ونبذ العنف في العمل السياسي وتصفية آثار مايو ومرتكزاتها وسياساتها وعقليتها وبقاياها ، ومن أجل ترسيخ الوحدة الوطنية والمحافظة على استقلال السودان وسيادته الوطنية وحرمة ترابه ، وكافة الحريصين على تضامنه الوثيق مع القوى الحرة في الوطن العربي ومساندته للنضال الأفريقي  والحريصين على أن تكون سياسة السودان الخارجية متحررة ومستقلة ومتوازنة .. وبين قوى الردة من بقايا مايو وإمتداداتها داخل القوى التقليدية . لقد كان ذلك الصراع معقداً ومتشابكاً  أدى تلكؤ الحكومات المنتخبة في تصفية آثار مايو ثم مهادنتها وأخيراً التخلي الكامل عن أهداف الانتفاضة باشراك بقايا مايو في الحكم الى تحول ميزان القوى لصالح قوى الردة من بقايا مايو ، ولقد اعتبر حزبنا اشراك بقايا مايو في الحكم ايذاناً بتصفية الانتفاضة نفسها ، كما جاء في بيانه الصادر في مايو 1987 ، والذي أعلن فيه أنه سيقاوم ذلك بكل الوسائل الديمقراطية وبنفس صدق وعنفوان نضال البعثيين ضد نظام مايو المباد .

وعندما أعلن عما عرف بحكومة الوفاق الوطني عام 1988 لاشراك بقايا مايو في الحكم (الجبهة القومية الاسلامية ) مرة ثانية ، عقد الحزب مؤتمراً صحفياً في 4/5/1988 ، جاء فيه : ((إن ما أعلن وما يسعون لاكماله ليس بأي حال من الأحوال وفاقاً وطنياً أو قومياً ، إنه تحالف وإئتلاف بين زعامة الجبهة الاسلامية وقيادة حزب الأمة – كعمود فقري – لائتلاف أوسع مع بعض الاتحاديين والساسة الجنوبيين ، إنه التقاء قوى المصالحة 77/1978 مع بعض الاتحاديين والجنوبيين ضد تجمع قوى الشعب السوداني وضد قوى الانتفاضة . إنه استئناف لما كان يسمى بالجبهة الوطنية . إنه البديل السلطوي الذي لا تناقض بين برنامجه وبرنامج مايو . إنه في جانب منه صراع الزعامة على السلطة لا على الأهداف أو المصالح الفئوية أو النهج في جوهره )) .

المصالحــة الجزئية كخــيار راجــح ضمـــن الظروف الراهنة :

كما سبق لحزبنا أن فصَّل في تعميم بتاريخ 1/3/1991 ، العوامل التي تدفع باتجاه ترجيح خيار المصالحة بين النظام وبعض الفصائل المؤثرة في حركة المعارضة ، وبالذات القوى التقليدية منها ، وقد تمثلت تلك العوامل في تفاقم الأزمة الوطنية العامة وعجز السلطة عن ايجاد أي مخرج لأزمتها السياسية والاقتصادية وضعف المعارضة بشكل عام ، وتأثيرات الوضع الدولي والعربي العام ، والتي تعمل باتجاه الدفع نحو مصالحة جزئية شبيهة بمصالحة 1977 . وقد جدد الحزب عام 1993 تأكيده على تلك المصالحة الجزئية كاحتمال وراد لتطور الوضع السياسي حينئذٍ . وبين التعميم الصادر عن دورة قيادة قطر السودان للحزب في أغسطس/آب من ذلك العام الأسباب المعززة لذلك الاحتمال ورجحانه ، مشيراً الى أن القوى السياسية والاجتماعية المحلية والدوائر الاقليمية والدولية صاحبة المصلحة في تحقيق مثل هذه المصالحة ، قادرة على تذليل بعض هذه العقبات كما حدث في مصالحة 1977 مع نظام نميري . وفي هذه الحالة فإن زعامتي الأمة والاتحادي الديمقراطي ، هما القوى المرشحة أكثر من غيرها للدخول في هذه المصالحة الجزئية . وذلك لثانوية التناقض بينهما وبين برنامج وتوجهات الفئة الحاكمة وحزب الجبهة . كما أن لهذا الاتجاه أساسه في القناعات الفكرية التي كثيراً ما أفصح عنها الصادق المهدي ، حول بناء الحركة الغالبة كأساس للحزب الواحد في اطار دولة دينية تعتمد الامامة والشريعة في الحكم ، وفي مساعيه اللاحقة في الفترة الأخيرة لنظام نميري لتوحيد ذات القوى في الحركة الاسلامية السودانية ، وفي تعبيراته خلال الديمقراطية الثالثة عن عدم وجود تناقض أساس بين حزبه والمعارضة ممثلة في حزب الجبهة وفي جهوده المعقدة في مواجهة المعارضة داخل حزبه وخارجه  التي أثمرت في اشراك الجبهة فيما سمي بحكومة الوفاق الوطني وفي اختياره الوفاق معها بعد خروج الاتحادي الديمقراطي من حكومة الوفاق أثر رفضهما لاتفاقية السلام في نوفمبر 1988 . وفيما أعلنه عن العلاقة الاستراتيجية بينه وبين الجبهة الاسلامية بعد خروج الأخيرة من السلطة تحت ضغط جماهير الشعب عقب انتفاضة ديسمبر 1988 ، ومذكرة القوات المسلحة في فبراير 1989 واستمراره في مغازلتها وابداء المرونة ازاء تجاوزاتها الدستورية والقانونية وغض الطرف عن نشاطها المكشوف داخل القوات المسلحة ، ومؤامراتها على النظام الديمقراطي (ثورة المصاحف ، الجهاد .. ) ، مما فتح الطريق أمامها لتنفيذ مخططها بتدبير انقلابها في 30 يونيو 1989 . بالرغم مما تعرض لـه الصادق شخصياً وحزبه من قمع وإذلال ، فقد حافظ على موقفه هذا ، مؤكداً انتفاء أي تناقض أيدولوجي بينه وبين النظام وحزب الجبهة . أما الحزب الاتحادي الديمقراطي فإلى جانب ارتهان زعامته لارادة قوى العدوان الأطلسي الصهيوني عبر عملاءه في المنطقة ، السعودية  مصر ، وبلدان الخليج ، فإن مصالح الفئات الرأسمالية من التجار والطفيليين التي يعتمد عليها تتطلب وجوده قريباً من السلطة ، إن لم يكن طرفاً فيها ، كما أنه لا يستطيع الغياب عن سلطة تشارك فيها زعامة حزب الأمة . وخلص تعميم أغسطس الى أن مثل هذه المصالحة سوف توسع قاعدة النظام السياسية ، ولكنها سوف تفقده عنصر الوحدة والانسجام ولن تمكنه من تجاوز أزمته العامة ، كما أنها سوف تؤدي الى انقسامات داخل الحزبين التقليديين وإلى بروز مراكز رفض للمصالحة من بقايا القوى الحية في قيادتيهما وقطاعات واسعة من قاعدتها داخلهما والتي ستشكل بدورها حليفاً لقوى المعارضة ذات التناقض الجذري مع النظام .

من الاستهانة بالمواثيق الى التراجع عن البرنامج الوطني الديمقراطي :

تلك هي الخلفية التاريخية والاجتماعية والفكرية المشتركة لقوى المصالحة في النظام وفي المعارضة وعوامل الدفع الأساسية نحو ما يسمى بالوفاق أو المصالحة  والذي بلغ احدى ذراه في لقاء جنيف الذي جمع بين الدكتور الترابي والسيد الصادق المهدي ، وقد عمدت على تسريعه قوى دفع ذاتية وموضوعية أهمها ما يلي :-

أولاً : فشل النظام في تحقيق برنامجه ودعاواه المتعلقة بانقاذ البلاد مما أدى لتفاقم أزماته واضطراره تحت وطأة تلك الأزمات ، للتراجع بحثاً عن خيارات بديلة تؤمن له الخروج من عزلته الداخلية والخارجية بايجاد حالة من الانفتاح والانفراج في علاقاته مع العالم الخارجي ، والقوى السياسية في تحت مسمى الوفاق .

ثانياً : فشل المعارضة الخارجية ، ممثلة في التجمع من أن تكون بديلاً للنظام بسبب افتقاره للقدرة على التحول الى قوة مؤثرة في الوضع السياسي بالداخل ، وفي تصدر النضال الشعبي ضد النظام ، وتحوله ، عوضاً عن ذلك ، إلى اطار للمناورات السياسية .

ثالثاً : التحول في استراتيجات القوى النافذة اقليمياً ودولياً في المنطقة تجاه النظام نحو القبول بالتعايش معه وإحتوائه بدلاً من اسقاطه ، ولعل أبرز معالم هذا التحول  استئناف الحوار مع أمريكا  الاتفاق الأمني مع أثيوبيا ، اتفاق الدوحة ، عودة شركة توتال الفرنسية للتنقيب عن البترول في السودان ، الموقف الأوربي المتساهل من قضايا حقوق الانسان في السودان ، تسوية قضية مصنع الشفاء ، التعديل في موقف دول مجموعة لومي ، القرار الأمريكي بإلغاء الحظر على واردات الأغذية والدواء للسودان بجانب دول أخرى ..الخ .

إن طريق قوى التصالح الى جنيف ، مع ذلك ، لم يكن ممهداً، ولم يخل من صراعات معقدة داخل النظام وفي صفوف المعارضة معاً . لذلك ، فإنه ، كنهاية مرحلة وبداية أخرى ، سيعمل على اعادة ترتيب الأوضاع والتحالفات مجدداً على صعيدي الحكم والمعارضة.

يا جماهيــر شعبنا الأبيـــة ..

لقد رصد حزبنا ومنذ وقت مبكر ، اتجاهات تطور الأوضاع داخل المعارضة  نحو التوافق مع النظام ، والتي اتخذت منذ ذلك الحين شكل التجاوزات المنهجية لميثاق التجمع وتقاليد العمل الجبهوي المتفق عليها داخله ، حيث أشار بيان الحزب الصادر في أغسطس عام 1995 تحت عنوان ( البعث والمخرج من الأزمة الوطنية الشاملة ) ، الى أن بعض الأطراف في الخارج قد ابتدعت ابتداء من عام 1990 أسلوب تغييب قيادة التجمع داخل القطر ، والجهد النضالي المشترك وراحت تتجاوز دورها حتى وصل حد تعديل ميثاق التجمع والخروج عليه دون أي سند يقرر مثل هذا السلوك الانفرادي ، اللهم إلاَّ الرغبة في عقد الصفقات السياسية المشبوهة استناداً لندوة كوهين بأمريكا ، والاستهانة بالمواثيق ، كما درجت عليه تلك الأطراف  ومن ورائها القوى الدولية ، ونشير هنا الى خطاب السكرتارية العامة للتجمع الوطني الديمقراطي بتاريخ أكتوبر 1990 ، المحرر الى سكرتاريات فروع التجمع ، حيث ورد فيــه

أولاً : نرفق لكم خطة عمل التجمع الوطني الديمقراطي المجازة من مجلسه العام ويطلب اليكم التقيد حرفياً بما جاء فيها حول عمل فروع التجمع بالخارج وعدم تجاوزه مهما كانت الظروف .

ثانياً : فيما يتعلق بالاتفاق الذي وقع مع حركة تحرير شعب السودان بالقاهرة فقد كان من الخطأ إعلانه ونشره في الصحف قبل إجازته من قبل قيادة التجمع بالداخل ( السكرتارية ومجلس التجمع) ونعلمكم أنه لم تتم إجازته بعد وسنفيدكم لاحقاً بتفاصيل ملاحظاتنا حوله ، فهو الى هذه اللحظة مشروع اتفاق .

ثالثاً : تحصلنا على وثيقة حول الاعداد لمؤتمر يناقش قضايا المؤتمر الدستوري يشرف عليه فرع التجمع بالقاهرة وإشارة الى أن ذلك يتم بتكليف من قيادة التجمع بالداخل وهو ما لم يحدث . يطلب اليكم ايقاف هذا العمل فوراً وعدم القيام بمثل هذه المبادرات التي تربك عملنا في الداخل .

رابعاً : فيما يتعلق ببيان بعض أفراد القيادة العامة السابقة للجيش بأنهم جزء من التجمع وإتصالهم بحركة تحرير شعب السودان فإننا نفيدكم بأننا لا علم لنا بذلك ولم يحدث أن وقعوا على ميثاق التجمع فيطلب اليكم ابلاغنا بحقيقة ما تم والجهة التي اتصلوا بها .

خامساً : بدأت اذاعة الحركة الشعبية تبث برامجاً لمدة ساعة بإسم التجمع الوطني الديمقراطي وهيئة القيادة العامة السابقة فيطلب اليكم إفادتنا بحقيقة البرامج ومن يشرف عليها ومع من تم الاتفاق عليها ، ونكرر أن أي عمل مثل هذا لا بد أن يتم بموافقة قيادة التجمع بالداخل وليس بمبادرة من الخارج ) ، مما يؤكد ما ظلَّ حزبنا يشير إليه من تجاوزات .

إن هذه الخطوات الغادرة بمجمل قضايا النضال الوطني السياسي وتعبئة طاقاته بديلاً عن الجنوح للمناورات الضارة المؤدية الى الوقوع في شرك الحسابات الخارجية وتوازناتها ، ومن هنا فإن دور بعض الأحزاب التقليدية في الخارج لتعديل ميثاق التجمع وضم أجنحة الحركة المسلحة في جنوب السودان  بالشكل الذي اطلع عليه شعبنا في مارس 1990 . بالرغم من أنه يمثل خطوة الى الامام ، لزج تلك الأجنحة في مسيرة النضال الوطني الموحد ، إلا أنه يمثل خطوات الى الوراء في كسب رهان المستقبل . لأن انضوائها حسب الكيفية التي تمت بها كان على حساب النظرة المبدئية للتجمع ، بالعمل على الاستقواء بتلك الأجنحة والى حين . وفي مقابل مسايرتها للدوافع التي تتناقض مع قوى التجمع ومواقفها المعلنة في اكتوبر 1989 مما حشر التجمع في زوايا ضيقة ، وقاد اقدام هذه الأطراف المعينة الى رمال السياسة الدولية المتحركة وغرسها بالفعل في معادلات العديد من الدول المجاورة ، ومن زاوية أخرى ، فإن هذا التجاوز تعبير مبطن عن نكوص القوى التقليدية عن برنامج الحد الأدنى الذي تضمنه ميثاق التجمع في أكتوبر 1989 والذي أشر الطريق الى معالجة قضايا الديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة وثوابت السياسة الخارجية للسودان والحريات العامة بما فيها حرية العقيدة .

وأكد البيان في خاتمته على فشل القوى التقليدية وبعض أطراف المعارضة المرتهنة للأجنبي وعجزها الموضوعي عن ايجاد مخرج لأزمة البلاد بعد أن أثبتت تجاربها السابقة منذ الاستقلال فشلها وإفلاسها وعدم مصداقيتها . فقد أثبتت أن تناقضاتها مع الأنظمة الدكتاتورية ذات طبيعة ثانوية جزئية تتعلق بمصالح تلك القوى وعدم اشراكها في السلطة ومن محصلة هذه التجارب ومن سياقات ممارساتها الراهنة ، فإن أطرافاً هامة منها مرشحة لاسناد وتقوية النظام القائم الآن بالتصالح معه ، سيما اذا استدعت ذلك ضرورات المخطط الامبريالي الصهيوني الرجعي .

ما بعـــد لقـــاء جنيــــف :

في ضوء هذا التحليل السياسي والاجتماعي والتاريخي ، يمكن تفهم طبيعة وأبعاد لقاء جنيف مايو / أيار 1999 ، كخطوة في طريق الوفاق والمصالحة بين القوى التي أشرها ، كما يمكن بالتالي رصد التطورات اللاحقة ، واستقراء اتجاهات التحالفات والعلاقات بين القوى السياسية على أساس الموقف من الوفاق والمصالحة بضوء ما تتمخض عنه العملية التصالحية التي بدأت من جنيف كطور جديد .

لقد أدى لقاء جنيف الى تكريس نهج التجاوز على مواثيق وتقاليد العمل الجبهوي والخروج عليها ، وقد شكل السكوت على تلك التجاوزات ، الجسر الذي انتقلت عليه ، القوى الرئيسية في معارضة التجمع ، نقلة استرتيجية ، من هدف تغيير النظام الى التصالح معه ، أو اقتسام السلطة مع حزب الجبهة ، من تكتيك المواجهة المرتبط بهدف التغيير واستراتيجيته الى تكتيك الحوار والمهادنة المرتبط باستراتيجية المصالحة والوفاق . الأمر الذي يحتم الفرز في صفوف المعارضة والذي بدأت ارهاصاته بالبيانات والمواقف الصادرة من بعض أطراف التجمع المعارضة أو المتحفظة على لقاء جنيف ونتائجه . هذه المواقف ، وغيرها من شأنها أن تؤدي الى تعميق الخلاف داخل التجمع ، وداخل كل فصيل من فصائله على حدة  كما أن هذه الخلافات والصراعات الجديدة على خلفية ، لقاء واتفاق جنيف  ستعصف بما تبقى من الوحدة الظاهرية للتجمع وتفسح المجال أمام تحالف وطني صحيح ، على أساس برنامج أكثر جذرية ووفق تقاليد نضالية ديمقراطية ، حقيقية .

وإذا كان من السابق لأوانه اصدار أحكام نهائية على العملية التصالحية التي لم تكتمل بعد ، فصولاً وقوى ، فإن لقاء جنيف بصرف النظر عن تفاصيله التي لم يتم الافصاح عنها وكشفها حتى الآن ، قد وضع الأساس لتوالي طرف هام من المعارضة التجمعية والنظام ، وخروجه من خندق المعارضة ، وأن هذا الأساس  ممثلاً في اتفاق جنيف سيعمل كآلية أو اطار تصالحي لاستقطاب قوى المعارضة الأخرى ، لا سيما التقليدية منها واجتذابها ، للتصالح مع النظام ، قد أثبت صحة نهج حزب البعث وسلامة تحليله لعجز القوى التقليدية وإفلاسها الذي مهد الطريق أمام انقلاب 30 يونيو المشؤوم على خلفية تطابق مواقف هذه القوى المعارضة والجبهة الاسلامية في معاداتها للحركة الجماهيرية ، وسعيها لتقييد الحريات والممارسة الديمقراطية ، عبر قانون للأحزاب ، قانون للصحافة ، عقد اجتماعي يكبل الحركة النقابية .. الخ . وعلى صعيد موقفها المتطابق مع نهج النظام الاقتصادي القائم على اقتصاد السوق والانفتاح والخصخصة والتبعية للسوق الرأسمالية العالمية ، وفي تغليبها لمصالحها السياسية على حساب الحل السلمي الديمقراطي لقضية جنوب السودان ، وأزمة الحكم ، وكذا على خلفية علاقاتها وارتباطاتها الاقليمية والدولية .. الخ

لذلك فإن حزبنا ، وإنطلاقاً من مواقفه الواضحة من النظام والتجمع ، والبدائل الزائفة ووفقاً لخطه السياسي الذي لخصته وثيقة ” البعث والمخرج من الأزمة الوطنية الشاملة ” أغسطس 1995  معني في هذه الظروف والمستجدات المحيطة بها ، على تعزيز الحوار ونهج التحالف الوطني الصحيح مع كل من يلتقي معه في اطار خطه السياسي المعلن ، والعمل لبناء هذا التحالف وسط صفوف قوى المعارضة الحية ، ووسط النقابات وبين أبناء شعبناء الأوفياء ، الذين يبحثون بصدق عن الطريق الصحيح لتجاوز الأزمة الشاملة .

من الوفاق العاطفي الى الوحدة الوطنية الموضوعية :

لقد أدت سياسات النظام خلال العشرة أعوام الماضية والقائمة على التفرقة الدينية والسياسية والقبلية والاقليمية ، الى أن تصبح قضية اعادة بناء الوحدة الوطنية في صدارة الاهتمامات الوطنية  وأصبحت قضية الوحدة بجانب الديمقراطية مسألة مفتاحية لبقية قضايا البلاد ومشكلاتها الكبرى . فالنهج الطائفي واللاديمقراطي  للسلطة الحاكمة ، أفرز العديد من الصراعات ذات الصبغة القبلية والاجتماعية والثقافية ، والتي أصبحت تشكل مهدداً جديداً لوحدة البلاد ولم تعد مشكلة الجنوب  التي تم تدويلها تحت مظلة النهج المذكور ، وتحولت الى ثغرة تنفذ منها التأثيرات الأجنبية الاقليمية والدولية ، هي بؤرة الخطر الوحيدة ، وإنما هناك مشكلة غرب السودان ، وما ينطوي عليه شرقه من توترات مماثلة ، وتتضافر المطالب الاقليمية والجهوية المشروعة ، التي تنطلق من المناطق المهمشة مع الحركة المطلبية للنقابات والقوى الحديثة في المدن والمناطق الحضرية ، طلاب ، عمال ، مزارعون  نازحون ، مفصولون أو عاطلون عن العمل الخ الخ ، في الكشف عن جوهر الأزمة العامة بالبلاد ، بحيث أن الحديث العاطفي عن الوفاق والذي يقصره على التصالح بين الزعامات السياسية في الحكم والمعارضة يعجز عن ملامسة جذر المشكلات ومعالجتها .. بهذا المستوى ، فإن المصالحة أو الوفاق لا تعني أكثر من إضافة قوى جديدة للنظام القائم وتوسيع قاعدته ، بما يسمح باطالة عمره ، دون أن يؤدي ذلك الى معالجة قضايا البلاد التي يمثل النظام نفسه مصدراً لها ، وعقبة أمام حلها وتسويتها .

إن أي حوار أو التقاء أو وفاق أو مصالحة بين النظام والتجمع أو أحد أطرافه أو أي طرف من أطراف المعارضة ، لا يمكن أن يكون إلا على حساب الشعب ومصالحه الأساسية ، ولاطالة عمر النظام بصيغ لا تغير من طبيعته ، واقتسام هذه الأطراف من المعارضة للمصالح والنفوذ في السلطة بالقدر الذي تسمح به الجبهة والنظام . وهو في نفس الوقت من جهة أخرى ، عامل من عوامل تسريع فرز قوى التحالف الصحيح ، بين القوى الوطنية والديمقراطية الحقة في كل من أحزاب المعارضة وفي صفوف شعب السودان العظيم .

وتواصلاً في خطوات مشوار المصالحة والوفاق بين القوى التقليدية – في المعارضة وفي النظام – ، إنعقد بأسمرة في الفترة من السابع والرابع عشر من يونيو/ حزيران 1999 اجتماع هيئة قيادة التجمع الوطني . ولقد أكد هذا الاجتماع في الكلمات التي ألقيت فيه وفي مداولاته وبيانه الختامي الحقائق الآتية :

1- إن موضوع الحوار السياسي والمصالحة والوفاق بين القوى التقليدية في المعارضة والنظام ، قد أصبح البند الأول والأساسي في مهام التجمع الوطني في المرحلة المقبلة ، على الرغم مما قيل في هذا الاجتماع – للاستهلاك أو للتميز أو استرضاءاً  لكوادر وقواعد هذه الأحزاب – عن جدية التجـمع الوطني ( في اقتلاع النظـــام من جذوره ) .. أو ما قيل عن ( الكفاح المسلح ) و (الانتفاضة المحمية ) كخيارات لا زالت قائمة لمواجهة النظام .

2- لقد أكد هذا الاجتماع حقيقة سبق وأن توصلنا اليها ، وهي أن المصالحة  نتاج أزمة النظام والمعارضة التقليدية على حدٍ سواء. وأن المصالحة قد جاءت في هذا التوقيت بارادة القوى الخارجية التي تتخذ من قوى الأزمة جسوراً للتدخل في شؤون بلادنا الداخلية . وفي وقت تدعي فيه القوى التقليدية أنها جنحت للمصالحة لدرء مخاطر التدخل الخارجي عن البلاد ، نجدها حريصة على ما يسمى الدور الاقليمي والدولي في اتمام صفقة المصالحة وضمانها إذ تؤكد لنجاح المصالحة على دور هذه القوى ( في المشاركة والتسيير والمراقبة والشهادة والاستشارة ) .

3- إن القوى التقليدية التي كانت تهيمن على السلطة في بلادنا في العهد الديمقراطي الثالث ، والتي تنتمي اليها واستقوت بها الجبهة الاسلامية وفرخت تحت رعايتها انقلابها المشؤوم ، هي ذات القوى التي تهيمن على التجمع الوطني حالياً . لذلك فإن التجمع الوطني كهيكل سياسي قابل للتجميد والانفراط عند أولى خطوات التفاهم بينه أو بين بعض قواه والنظام ، وبالتالي فإن نهج قوى التجمع أو مواثيقه سوف لن يكون له أثر على مجريات الحياة العامة في بلادنا في المستقبل . نتيجة التهافت على الصفقات السياسية بديلاً عن شعارات المعارضة الجماهيرية .

4- إن النتيجة الطبيعية لهذه المناورات غير المبدئية هي المزيد من التناقض بين هذه القوى وجماهيرها وإنعكاسات هذه التناقضات على مسارها وحتى وحدتها الداخلية والتي سوف لن تنجو منها هذه القوى ومن هم في قيادة السلطة الحاكمة معاً  لأنها تدور على محاور بعيدة عن مصالح الشعب .

5- إن القوى التقليدية في المعلآة قد تكون بنت تقدير موقفها حول مستقبل الوفاق على أن جماهير شعبان لمعاناتها من جراء الفعل الوطنية الشاملة المتفاقمة يتلقف أي حل خاصًة ((عفا الله عما سلف). 1964 وخلال مصالحة الهجوم الوطنية لنظام نميري 1977 وفي ابريل 1985

6 – إن خيار الحوار السياسي والمصالحة والوفاق بين القوى العاملة والعقود والوفاق بين القوى العاملة والعقود والوفاق بين القوى العاملة والعقود والثروة بين ديمقراطي تقدمي.

 

 

 

 

 

 

الخرطــــــــــوم 21 يونيـــو / حزيران 1999 م.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.