قراءة أولية لقضية مشروع الجزيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

قراءه أولية لقضية مشروع الجزيرة

الاستاذ/مصطفى عبدالرحمن مسئول القطاع الزراعي

حزب البعث العربي الإشتراكي(الأصل)   

أولاً:

من خلال الإجابه على الاسئلة …متى..؟؟ وكيف …؟؟ ولماذا…؟؟ حصل الذي حصل في مشروع الجزيرة ، أي تسليط الضوء أكثر على المقدمات التي أفرزت هذه النتائج  والآثار الإقتصادية والاجتماعية المعاشه الآن وذلك لإستكمال الصورة ولرسم أفق الخروج من هذا الانهيار الكارثي ،لذلك من المهم البدء بمسألة ذات دلاله مهمه في هذا الموضوع وهي أن سياسة خصخصة مشروع الجزيرة التي مثلها قانون 2005 ، أو في الحقيقة استكملها قانون 2005 جاءت على مراحل مهدت لإعلان هذا القانون وإعتماده للتنفيذ وبصرف النظر عن الطريقة التي تمت بها إجازته وبصرف النظر أيضاً عن اللجان والسمنارات قبيل إجازة القانون وعن تمويلها وإشرافها بواسطة البنك الدولي ، بصرف النظر عن ذلك كله لنتابع القضية من بدايتها .

إن مضمون قانون 2005 كان مطروحاً من قبل البنك الدولي منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي وكما ورد في الارشيف الخاص بمشروع الجزيرة  بأن البنك الدولي ظل يمارس ضغوطه منذ ذلك الوقت لإلغاء نظام الشراكه الثلاثيه الذي كان يقوم عليه مشروع الجزيرة وإستبداله بنظام الحساب الفردي ثم زيادة مساحة الحواشه الى أربعه أضعاف حجمها الحالي أي تحويلها الى ملكية كبيرة ثم تحويل عمليات الحلج وتوفير مدخلات الانتاج لرأس المال الخاص ..،،، وهذا بإختصار هي المضمون لقانون  2005 ظل البنك الدولي يضغط في هذا الاتجاه منذ السنوات الاخيرة للحكم العسكري الاول وخلال فترة مابعد ثورة أكتوبر المجيده ،(فترة التعددية الثانية ) ولكن صمود وحركة المزارعين والحركة الجماهيرية الديمقراطية في عمومها لم تمكنه من تحقيق أغراضه ، تجددت هذه الضغوط مع الحكم المايوي الديكتاتوري الذي إستجاب وفرض الخطوة الأولى في هذا الإتجاه وهي تغير علاقات الإنتاج من خلال فرض نظام الحساب الفردي في مشروع السوكي ومشروع الرهد ثم مفي مشروع الجزيرة وبقية المشاريع الأخرى في عام 1981 وقبلها في فرض ضريبة المياه بالرغم من مقاومة حركة المزارعين لها والتي عبرت عن نفسها في إضرابهم في موسم 79/80 ،ذلك يعني ان الخطوة الأولى في إتجاه خصخصة مشروع الجزيرة تمت في عهد الديكتاتوريه المايويه 1981 بتغير علاقات الإنتاج التي كانت قائمة على أساس الحساب المشترك الى نظام الحساب الفردي

لتوضيح مسألة علاقات الإنتاج

في فترة التجربه الأولى للمشروع بمنطقة طيبه في موسمي 1912/1913 كانت علاقات الإنتاج تقوم على أساس الحساب الفردي الذي كان سائداً وقتها بالقطر المصري ثم إنتقل منها الى مشروع الزيداب ثم الى مشروع الجزيرة وفيه يقوم المزارع بكل العمليات الزراعيه مستفيداً من عائدات زراعته بعد دفع رسوم الماء والأرض والضريبه وخلال هذين الموسمين تحملت الحكومة والإدارة البريطانيه الإستعمارية وقتها خسارة بلغت 16 ألف جنيه مصري مما دفعها الى  إعادة النظر في علاقات الإنتاج وتبديلها الى نظام الحساب المشترك  هذا النظام إستلهمته الإدارة البريطانية من نظام علاقات الإنتاج الذي كان سائداً وسط الأهالي الذين كانوا يزرعون السواقي على النيل في منطة فداسي الحالية ، حيث يوزع العائد بنسب تضمن حقاً للمزارع ولصاحب الساقية وحتى (لعليقة ثور الساقية ) ، جاءت صيغة الحساب المشترك كصيغه متطورة من الإرث الشعبي السوداني حتى إستقرت عام 1970 بتوزيع عائد القطن المحصول النقدي كالآتي :_

  • 36% للحكومة
  • 47% للمزارع
  • 10% لإدارة المشروع
  • 2% إحتياطي للمزارع في حالة الحريق أو الغرق
  • 2% للمجلس المحليه في الجزيرة
  • 3% للخدمات الإجتماعية

وللحقيقه فإن نظام الحساب المشترك كان محققاً لتوازن المصلحه بين شركاء الانتاج (( الحكومة والمزارع والإدارة )) في مشروع مساحته 2,2 مليون فدان ويضم 113000 مزارعاً و8500 إداريين وعمالاً بالخدمة المستديمه ،إضافه الى أعداد كبيرة من اعمال الموسمين والحرفيين لإنجاز بعض الأعمال كجني القطن وحلج القطن وغيرها ومن ناحية أخرى كان يضمن إدارة مشروعاً بهذا الحجم ويضمن إدارته كمزرعه واحده .

الخطوة التالية بعد تغير علاقات الانتاج من الحساب المشترك الى الحساب الفردي هي سياسة التحرير الإقتصادي التي إعتمدها نظام 30يونيو في عام 1992 وكان أول تطبيق لها تم في مشروع الجزيرة في المواسم 1992_1993 المتمثله في إلغاء التمويل الحكومي الذي كان يتم بواسطة بنك السودان ووزارة الماليه ليتم بواسطة البنوك الخاصه وتحويل إستيراد مدخلات الإنتاج ( الأسمده ، المبيدات ، الخيش … إلخ ) يتم بواسطة القطاع الخاص ومنذ العام الأول لسياسة التحرير الإقتصادي ، وعلى سبيل المثال عجزت محفظة البنوك التجاريه في إستكمال تمويل المشروع مما دفع الإدارة للبيع الآجل للقطن كنوع من التمويل الذاتي للقطن وبدأت تزداد وتتعمق مشاكل التمويل الى أن أصبح مطلوباً من المزارعين في عام 1998 مبلغ 60 مليار جنيه عبارة عن تكلفة رسوم الماء ورسوم الإدارة وعلى أن يقسم هذا المبلغ على كل المساحه المزروعه بالمحاصيل المختلفه ويحمل كل محصول تكلفته حتى لو تأثر بعطش أو بغرق أو بآفه ،، وي عام 1999 عجزت مؤسسة الحفريات عن العمل في الوقت المناسب مما أدى الى لتراكم الإطماء وإنسداد القنوات تماماً حتى إضطرت وزارة المالية للتدخل ،، هذه مجرد أمثله محدودة لسياسة ونهج يريد أن يخلق مشروعاً آخراً على أنقاض مشروع الجزيرة .

 

ثانياً:_

على ضوء ما تقدم فإن قانون 2005 قد سبقته خطوتان مهدتا له الطريق ليتم إقراره ثم العمل على تنفيذه بما يؤكد بأن إنهيار مشروع الجزيرة يعود للسياسات الإقتصادية ومجمل النهج الرأسمالي هذه السياسات التي بدأت منذ العهد المايوي وصولاً لصيغتها الرأسمالية الطفيليه البشعه في عهدنظام 30 يونيو ، ومن هنا فأن ماحدث في مشروع الجزيرة لايمكن النظر اليه بإعتباره إخفاقات إقتصادية بحته تتعلق بتدني الإنتاجيه أو غيرها من الإعتبارات الإقتصادية البحته بل هو عملية ممنهجه أخذت وقتاً إنتقالياً أو تمهيدياً لإستكمال الصفحه الأخيره لخصخصته الكامله،وإنطلاقاً من الحقيقه الموضوعيه المتمثله في أن الأزمة الإقتصادية لايمكن النظر إليها بمعزل عن إطارها السياسي الإجتماعي وعن الصراع السياسي والإجتماعي الدائر في بلادنا ، نجد أن أزمة مشروع الجزيرة تلخص الأزمة الوطنية بجميع أبعادها ، فإكتمال سيطرة البنك الدولي وإتجاهاته الرأسمالية على قطاع الزراعه المروية إحتاجت للديكتاتورية حتى تمت كما بينا أعلاه كما أن غياب الديمقراطية شكل عاملاً مساعداً للطغمه الرأسماليه الطفيليه في فعل مافعلته في مشروع الجزيرة لذلك أصبحت قضية مشروع الجزيرة هي قضية فقدان الديمقراطية وفي نفس الوقت هي قضية فقدان الإراده المستقله المعبره عن كافة مصالح الشعب السوداني وأيضاً هي قضية فقدان الهوية الوطنية لهذا المشروع الذي كان صماماً لوحدتها ،ومن هنا فإن قضية مشروع الجزيرة لم تعد قضية مطالب بإصلاحات أو غيرها بل هي قضية نضال ..نضال من أجل إستعادة الهوية الوطنية لمشروع الجزيرة ،الهوية التنموية التحرريه الوحدويه الديمقراطية .

نحن في حزب البعث العربي الإشتراكي نرى بأن الأزمة الوطنية الراهنه تتشكل من أربعه محاور متصله ومرتبطه مع بعضها إرتباطاً عضوياً جدلياً وبما يعني من زاوية وجهتها النضالية بأن النضال من أجل الديمقراطية لاينفصل عن النضال من أجل الوحدة الوطنية كما لاينفصل عن النضال من أجل تحقيق إرادة وطنيه حرة مستقله عن أي إرتهان لقوى المصالح الخارجيه وكما لاينفصل عن النضال من أجل تنمية مستقله شامله ومتوازنه لذلك يحق لنا أن نقول بأن مشروع الجزيرة الآن يلخص الأزمة الوطنية بكامل أبعادها ويشكل عنواناً نضالياً وطنياً ألا وهو النضال من أجل إستعادة الهوية الوطنية لمشروع الجزيرة وإستعادة هذه الهوية يستند بالضرورة على الإيمان بإعادة الإعتبار لدور القطاع العام في المجال الزراعي وإعادة الإعتبار أيضاً لعلاقات الإنتاج في القطاع المروي منه على أساس الحساب المشترك أو أي صيغه متطورة منه إستناداً على التجربه الماثله أمامنا الآن.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.