الهجرة إلى الخرطوم واختلال التنمية بين العاصمة والأقاليم

الهجرة إلى الخرطوم واختلال التنمية بين العاصمة والأقاليم (1)

د. معتصم الزاكي

في عطلة العيد صرح أحد المسئولين حول أزمة الخبز والغاز بقوله: (الآن يتواجد الخبز بكميات كبيرة بعد أن رجع كل سكان الولايات إلى مناطقهم الأصلية، وأصبحت العاصمة هادئة تماماً، ومتوفر بها كل شي! وهم “سكان الولايات” سبب الازدحام).
حديث هذا المسئول في أساسه صحيح، على الرغم من قصر النظر الذي تحدث به عن الموضوع، ليسلط الضوء على أزمة كبيرة تهدد مستقبل السودان الاقتصادي، ويُسأل عنها قادة النظام الحالي.
نعم تزايدت اعداد المهاجرين إلى العاصمة بكميات كبيرة، ولكن السؤال المنطقي لماذا؟
بالتأكيد هذه الهجرة من الأقاليم للعاصمة، هي نتيجة منطقية للاختلال في التنمية بين العاصمة والولايات في السنوات الأخيرة، بسبب سياسات الخصخصة التي انتهجها نظام الانقاذ منذ عام 1993 حيث تم خصخصة وبيع وتدمير كل المشاريع التي تتواجد بالأقاليم. مشروع الجزيرة، مشاريع النيل الأبيض، مشاريع القطن بجبال النوبة ومشاريع شرق السودان، وغرب السودان والنيل الأزرق …. إلخ.
وتشمل صفة المشاريع هنا المشاريع الزراعية والصناعية معاً، والتي كان يعمل بها ملايين من أبناء الشعب السوداني.
من الذي شرد هؤلاء أيها السادة المسئولين بولاية الخرطوم؟ وجعل أماكنهم طاردة لهم بعد أن فقدوا مصدر رزقهم؟ هل كانت العاصمة الخرطوم جاذبة للهجرة للجميع في السابق؟ لا أعتقد ذلك، بل الشاهد في السابق وجود هجرة عكسية من العاصمة إلى الأقاليم، إلى مشروع الجزيرة وإلى عطبرة بلد السكة حديد، وإلى مشروع سكر كنانة المتواجد بولاية النيل الأبيض، والتي وصفها القيادي بحكومة الانقاذ بأنها أكبر مصدر للمهاجرين إلى العاصمة! وإلى شرق وغرب السودان، إذا تم عمل مسح اجتماعي الآن سوف يتضح ذلك جلياً عبر وجود جماعات من الشرق تسكن الغرب ومن الشمال تسكن شرق السودان وهكذا.
السائل أعلم من المسئول، وهو يعلم كيف تم تفكيك وتدمير المؤسسات الاقتصادية الوطنية، ليتركوا أماكن انتاجهم التي تساهم بشكل كبير في الناتج المحلي وليتراجع الاقتصاد الوطني خاصة الزراعي منه، ليتحولوا إلى جيش من العطالة وأصحاب مهن هامشية في العاصمة الخرطوم.
ليتحول كل القطاع المنتج إلى قطاع مستهلك أو خامل ومهن هامشية، تجد خريجي جامعات يعملون كباعة متجولين، ومزاعين أكفاء ورعاة يبيعون الماء في الأسواق بحثاً عن الرزق! وفنيي السكة حديد المهرة، تحولوا إلى باعة مساويك وأكياس وكمسنجية في مواقف المواصلات في العاصمة! آلاف يعملون تحت وظيفة العطالة (المقنعة) لماذا لا يتراجع الاقتصاد الوطني ولا يهاجر ثلث سكان السودان إلى العاصمة الخرطوم؟
دعك من الحروب التي انتشرت في كل أقاليم السودان، ونزح بسببها إلى العاصمة الآلاف من الباحثين عن الرزق والأمان، من دارفور وجنوب كردفان ومن النيل الأزرق، وإذا تم النظر إلى هذه المناطق برؤية وطنية مستقبلية لأصبحت من أكبر المناطق السياحية والإنتاجية في العالم، ولأصبح عائدها أكبر داعم للاقتصاد الوطني.
الجرح الوطني أكبر مما تتخيل يا أيها السيد المعتمد، أكبر من مشكلة خبز وغاز بالعاصمة.

نواصل..

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.