الملف الإقتصادي في تقرير مؤتمر القطر السادس 2013

الملف الاقتصادي في تقرير مؤتمر القطر السادس

2013

الأزمَة الإقتصادية صُنو الأزمة السياسية:

(1) و إذا كانت مسألة الحرب و السلام في السودان هي الملمح الأساسي الأول للأزمة الوطنية الشاملة، فإن مسألة التردي الإقتصادي المريع و تدني مستوى الخدمات العامة هو الملمح البارز الثاني في الأزمة الراهنة، و تكتسب الأزمة بعدها الدراماتيكي، حين نرقب حالة عدم الأستقرار في السياسات الإقتصادية، بل تناقضها البين، و سيادة مبدأ الإرتجال، التي تفتقر للأسس العلمية، و التنسيق، مما أصبحت معها المؤسسات المالية الحكومية جذر معزولة عن بعضها البعض. و حين إفتقد الإقتصاد الوطني البوصلة، أصبح المسئولون الحكوميون يطلقون الوعود، مثل ذلك، حين وعد الرئيس بأن سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني سينزل إلى أدنى مستوى له في يناير 2013 ليكون ثلاثة جنيهات مقابل الدولار الواحد، أو غيرها، مثل التي أطلقتها وزارة المالية حول (بُشرى القرض الصيني)، أو تصريحات وزارة المعادن بأن (الذهب الأمل المُنقذ للاقتصاد)، وأحياناً حين تطلق الحكومة وعودها بصورة مركزية بحل الأزمة من خلال ما أطلقت عليه الـ(برنامج الاقتصادي الثلاثي الإسعافي).

(2) إن الأزمة تتضح بصورة جلية حين ندرك العقلية التي تدير بها السلطة القائمة الإقتصاد الوطني، فمن الصعوبة على كبار المسئوليين في وزارة المالية، أوقيادات الهيئآت العليا المعنية بالتخطيط الإقتصادي، أن يدركوا الآلية المتبعة في تحديد القروض الدولية (و التمويلات الدولية)، و مصادرها، و حجمها، و طريقة/ آلية سدادها. مثلما من الصعوبة بمكان على وزير المالية بنفسه أن يحدد أولويات التنمية المؤشرة بصورة مركزية لدى الحكومة المركزية، و العجيب أن الأولويات الإقتصادية التي حددها الخبراء في الإستراتيجية القومية الشاملة، لم تعد حتى تحظى بشرف اعادة التقييم و الرصد الدوري. من الناحية التطبيقية، أصبح الإقتصاد الوطني رهن سياسات، مؤقتة غير علمية، تقوم بإنتاجها المؤسسات الطفيلية التابعة للحزب الحاكم، الذي يسيطر على الإقتصاد الوطني من خلال آليات تنظيمية، ليست من بينها وزارة المالية أو غير ذلك من مؤسسات الدولة.

(3)  فأصبحت المؤسسات الإقتصادية الوطنية تباع، دون إعلان و بدون علم الجهات ذات الإختصاص، فضلاً على عدم إعلان سعر البيع، أو عدم إظهار ذلك في الموازنة العامة، و أصبحت تلك السياسات (عرفاً إقتصادياً) لتعبيد الطريق للفساد الإقتصادي، و في ذات الإتجاه تنشأ المؤسسات و اللجان، لتضم ممثلي و عناصر المؤسسات المفسدة، و ذلك لضمان عدم تسريب المعلومات و ضمان الإفلات من الرقابة. 

تدابير إقتصادية خاصة لفترة ما بعد إنفصال جنوب السودان:

(4) و كانت واقعة إنفصال الجنوب حدثاً، له أثره الكبير على الإقتصاد الوطني – لا جدال في ذلك – فقد غادرت موازنة الدولة نفقات حوالي ربع سكان الدولة، كما غادرت خزانة الدولة مدخلات و إيرادات ذلك القدر من سكان السودان. و تلك مسألة أثبتت الأيام أن النظام، لم يحمل بخصوصها أي رؤية أو معالجة إسترتيجية.

(5) و تظل حالات خداع الشعب تُدبج من خلال خطط تسطرها المؤسسات الإقتصادية، و أحياناً، لأغراض عرضها على المؤسسات الدولية المانحة، و جهات العون الإقتصادي في الأمم المتحدة، و لكنها تظل مثل غيرها من سياسات التموِيه و التضليل. فبالعودة إلى العامين الماضيين (2011 و 2012 )، نستذكر التصريحات الحكومية لمواجهة التخبط الإقتصادي، و مواجهة تداعيات إنفصال الجنوب على الإقتصاد، تأتينا سياسات وزير المالية والاقتصاد الوطني، و الذي حاول أن يعكس (هميمية) الحكومة في الإستجابة لمتطلبات المرحلة بإطلاق سياسات أطلق عليها الـ”برنامج الاسعافى” للفترة  2012/2014م، و البرنامج المذكور  تمَّ إعداده – بصورة أساسية – وقتها لمُواجهة تحدِّيات و تداعيات انفصال الجنوب، من خلال حماية المواطنين من إنعكاسات الانفصال بالتركيز على النمو الإقتصادي للقطاعات الشعبية، من خلال تبني سياسات تضمن الإستقرار المرحلي للإقتصاد، و تدعيم تلك التوجهات بدعم حقيقي الخدمات العامة ( صحة – تعليم – مياه شرب – الكهرباء  .. الخ) و زيادة الطاقة المالية الموجهة لذلك الغرض، والتوجيه نحو زيادة الإنتاج والإنتاجية، مع التركيز على إعادة الهيكلة التامة لأجهزة الدولة وترشيد الإنفاق وزيادة الإيرادات. و للإحاطة بجوانب ذلك البرنامج الأسعافي، و التي تبدو للوهلة الأولى، للمواطن العادي ( غير المتخصص) بأن السلطات تبذل جهداً لبناء سياسات تضمن لعموم الشعب الرفاه، و لكن النتائج المعاشة اليوم تصدق المقولة الشعبية ” كلام الطير في الباقير”.

(6) قام ذلك البرنامج الإسعافي للإقتصاد على أربعة جوانب رئيسية، الأوَّل خاص بالسياسات المالية للدولة و من ضمنها تخفيض الصرف الحكومي لنحو 20% سنوياً، وإعادة هيكلة بعض أجهزة الدولة، و الإستغناء على الوظائف السيادية التي جاءت من باب التسويات السياسية، زيادة الإيرادات وتصفية الشركات الحكومية. والثاني كان بخصوص السيطرة على التضخُّم في حدود 15% بنهاية عام 2012م! والتحكُّم في السعر الموازي للدولار و المحافظة سعر الصرف في حدود 3.25 جنيه للدولار الأمريكي في عام 2012. واختصَّ الجانب الثالث من البرنامج الإسعافي بسياسات إحلال الواردات وزيادة الإنتاج لأربعة سلع رئيسية و هي (الأدوية و القمح والسُكَّر وزيوت الطعام)، بالإضافة إلى زيادة صادرات السودان في عددٍ من السلع كالمعادن و الثروة الحيوانية والقطن والصمغ العربي. واهتمَّ الجانب الأخير من البرنامج الإسعافي بالتنمية الإجتماعية بصورتها الواسعة، لا سيما السياسات الخاصة بتفعيل التمويل الأصغر والتمويل ذو البعد الاجتماعي وإدخال خدمات الضمان من شركات التأمين إضافة لباقي الضمانات الأخرى، وتحديد خارطة الفقر والاستفادة من البيانات الأساسية الواردة في مسح ميزانية الأسرة للعام 2009م، بالإضافة إلى دعم قيام مُؤسَّسات التمويل الأصغر وتخفيض مُعدَّلات البطالة لأقل من20% وخفض مصروفات الحكومة لتقليل الضغوط.

(7)  و إذا كانت تلك، ما أطلق عليها النظام “سياسيات إسعافية” لمواجهة تحدي الإنفصال، فقد تم تدعيمها أيضاً بتصريحات، ووعود منبرية جوفاء، بأن التداعيات الاقتصادية للإنفصال “ستؤدي إلى تدمير دولة الجنوب الوليدة و ستودي إلى زوال الدولة العاجزة” و إن “السودان لديه من البدائل ما يجعله غير متأثراً إقتصادياً بالانفصال”. فإنبرى الرئيس، ووزير المالية و كُتاب الأعمدة الصحفية، يُبشرون بالإنتقالة الكبيرة التي سيؤشرها الاقتصاد السوداني من خلال البرنامج الإسعافي. فأصبحت الحكومة، و على رأسها رئيسها، يطلقون الأرقام الدُولارية التي ستحققها خطتهم الإسعافية. العجيب أن مُستوى النمو الذي أشرته تلك الأرقام، تفوق معدلات النمو التي كانت سائدة قبل إنفصال الجنوب. إذ أشرت الخطة عدد من الإجراءات و التدابير و السياسات المقترحة لعام 2012، وتحديد الإجراءات و الاجهزة التنفيذية الآزمة. و أصبحت الأرقام تتنزل عبر وسائل الإعلام، مُعلنةً : بالمُخطَّط من الصادرات غير البترولية للعام 2012 بالنسبة لقطاع الثروة الحيوانية تصدير نحو 3.9 مليون بقيمة 421 مليون دولار ونحو 25 ألف طن لحوم بقيمة 115 مليون دولار ونحو 4.3 مليون قطعة للجلود بقيمة 13 مليون دولار. وبالنسبة للقطاع الزراعي، فقد كان المُستهدف تصدير نحو 164 ألف طن من السمسم بقيمة 170 مليون دولار، ونحو 35 ألف بالة قطن بقيمة 150 مليون ونحو 60 ألف طن من الصمغ العربي بقيمة 110 مليون دولار. فيما كان المتوقع لقطاع المعادن تصدير نحو 50 طن متري من الذهب بقيمة 2.5 مليار دولار ونحو 70 ألف طن كروم بقيمة 17 مليون دولار.

(8)  إنقضت فترة عامان من تاريخ بدء سريان ذلك البرنامج، و من تلك الوعود التي أطلقها النظام، ولم يبقى لنفاذ أجل الخطة سوى عامٌ واحد، ولم يرى الشعب السوداني أي “طحيناً” لتلك الوعود المَحبُوكة، التي لم تَكِلُ ألسنة السلطويون من ترديدها. فلم يشهد الشعب السوداني أي مظاهر تؤشر/ تعكس تنفيذ ذلك (البرنامج الإسعافي) تجاه تلك (الوعود)، فلم يشهد تقلص في الأجهزة السيادية المترهلة، و لا محاربة للصرف الحكومي البذخي ، كما لم يشهد دعم للسلع الأساسية، أو تخفيض لسعر الدولار، أو غيرها مما نادى به البرنامج الإسعافي. بل ظل يعاقب الشعب بسياسات إقتصادية أخرى، مثل زيادة تعريفة سعر الكهرباء، منع صرف الدولارات للمسافرين خارج السودانيين، رفع تعريفة الجمارك لبعض السلع . و رفض زيادة أجور العاملين في القطاع الحكومي، ووضع إتفاقات و سياسات لتهجير الكفاءات السودانية بعيداً عن أسرهم ووطنهم .. الخ

(9)  إن الأزمة الإقتصادية الراهنة، ما هي إلا وجه من أوجه ازمة الحكم و الإدارة، كما هي أيضاً تعكس عدم المسئولية و الإستهتار. فبعد كل تلك الخطط، لم تقم الحكومة بأي خُطوة علمية ، أو إجراءات مُؤسَّسية مثل تلك المتوقع إنشائها في مثل هذه الحالة، كوضع قيودات زمنية لمُراجعة تنفيذ البرنامج وتقييم ما تمَّ تنفيذه ،إنْ كان هناك جُزء مُنفَّذ فعلاً، وما هي أوجُه القصور أو نقاط القوة والضعف وأسبابها ومُبرِّراتها وكيفية مُعالجتها وتلافيها في الفترة الـمُتبقِّية من عُمر الـبرنامج الإسعافي، وغيرها. بالمقابل بدأت لهجة (العويل) و (إبراز الأهوال) تلوح في الخطاب الحكومي، يتمثَّل في عكس حجم الديوان الخارجية و تكثيفها، و إظهار العجز في ميزان المدفوعات. و بدأت من جديد سسياسة تحريك السماسرة / الطفيليين المحليين و الإقليميين، لتقديم طلبات التسليف بآجال طويلة، بفوائد و بأرقام فلكية تفوق معايير البنك الدولي ، بحجة أن السودان يواجه عزلة دولية، أو عرض بعض الموارد و المرافق و الخدمات الحكومية لبيعها لمستثمرين أجانب، بمبالغ لا تساوي قيمتها الحقيقية، و هكذا منذ السنة الأولى لبدء البرنامج الإسعافي، هجرت الحكومة أضابير البرنامج – الذي لم تكن تنتوي في الأساس الذهاب كثيراً في تنفيذه – و بدأت في تفعيل أُطُر وأساليب الاقتراض وتجميلها ووصفها بمُسمِّيات أُخرى أكثر جاذبية، و بذلك بدأت آثار إنفصال الجنوب تتداعى، شيئاً فشيئاً، تشد الخناق على صِغار الكسبة، و الموظفين، و قوي قطاع الإنتاج التقليدي، و صغار التجار، و عطلت حركة الإنتاجات الكبيرة و المتوسطة ( على مَحدُوديتها).  

(10)  اليوم، و نحن نتطلع على الواقع الإقتصادي السوداني، من خلال محاور البرنامج الإسعافي (2012 – 2014)، نلحظ دون كبير عناء، التدحرج الكبير في مستوى النمو الإقتصادي منذ تاريخ تبني البرنامج الاسعافي، ليس لعيوب إسترتيجية في البرنامج نفسه، و إنما بسبب المنهج الطفيلي الرأسمالي الذي لا ينظر للإقتصاد الوطني، إلا من زاوية مكاسب و خسائر المؤسسات المملوكة لفئة الرأسماليين و حلفائهم الذين هم بالاساس كبار المسئوليين في الدولة.

(11) لقد ظل حزبنا، حزب البعث العربي الإشتراكي، قلقاً بخصوص الإتجاهات الإقتصادية التي ظلت تكرسها الفئة الحاكمة، و التي ظلت تهدد المستقبل الاقتصادي للبلاد بصورة شاملة و مخيفة. و في ذلك يلحظ الحزب أن الأزمة الاقتصادية المعاشة، ليست نتاج إنفصال جنوب السودان، و إنما هي إرادة تخريبية مُمعنة، تُنفذها السلطات الحكومة لمصالح طفيلية و ذاتية خاصة بالطبقة الحاكمة. فلو عُدنا إلى البرنامج الإسعافي نجد بأنَّ أياً من أهدافه لم يتحقَّق، بل عمدت الدولة على تدمير الاتجاهات التي كان من الممكن أن تساعد في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية. فبالنسبة للجانب الأوَّل من البرنامج، و الخاص تخفيض الصرف الحكومي لنحو 20% سنوياً (سياسة التقشف)، وترشيد الصرف وزيادة الإيرادات وتصفية الشركات الحكومية، نجدها حبراً على ورق، حيث لم يتمَّ تخفيض الإنفاق الحكومي بأية درجة كانت، بل زاد الصرف بإنشاء ولايات إضافية (في دارفور و كردفان) وأجسام جديدة ضمن الجهاز الإداري للدولة. وفيما يخُص الجانب الثاني من البرنامج، و الخاص بالسياسات النقدية والسيطرة على التضخُّم بما لا يتجاوز 15% بنهاية عام 2012م، والمحافظة على استقرار سعر الصرف في حدود 3.25 جنيه للدولار الأمريكي. يكفي هذا التقرير أن يُحيل قارئه إلى سعر الصَرف الحالي والقوة الشرائية لعامة الشعب  وأسعار السلع والخدمات وغيرها. لقد أظهرت بعض البيانات الرسمية ( التي كشفت عنها وكالة رويترز وغيرها) ارتفاعاً ملحوظاً لمعدل التضخم السنوي في السودان بنحو 45.3%، والذي صحبه ارتفاعاً في الأسعار بنحو عام بما يفوق نسبة 75%. لا يُوجد في الأفق ما يُبشِّر بتغيُّر الأحوال، بل تُشير جميع التوقُّعات إلى استمرار الصعوبات الاقتصادية واتساع الفجوة والعجز الاقتصادي العام. أما الجانب الثالث من محاور البرنامج الإسعافي، والخاص بزيادة الإنتاج لا سيما القمح والسُكَّر وزيوت الطعام والأدوية، و زيادة الصادرات لعددٍ من السلع الاساسية كالثروة الحيوانية والقطن والصمغ العربي والمعادن. أيضاً ليس في وسع هذا التقرير، أن يُحيط قارئه بالأرقام و النسب المئوية ، التي ظلت تتغير بشكل متوالي عددية ( و أحياناً هندسية) نحو الأسوأ، و لكن يكفي أن نُذكر بأن وزارة المالية، في أكثر من مناسبة ظلت تعلن عن قرب وصول قرض من تلك الدولة أو تلك، بغرض سد العجز في العملة الصعبة الناتج عن إنخفاض مستوى الصادر.

(12) إن حزب البعث العربي الإشتراكي، و من خلال هذا التقرير، لا يحاول أن يؤسس لمفهوم خاص بأن الفئة الحاكمة تجهل ضروريات الإقتصاد و الإدارة، و إن كان ذلك موجوداً لدى الحاكمين بقدرٍ ما، و لكن حزب البعث يؤشر إلى المنهج و الوعي الإقتصادي للطبقة الحاكمة، و الذي لا يؤمن بالمرة بمثل الشعارات التي تم إطلاقها في البرنامج الإسعافي. وإن إستعراضنا للبرنامج الإسعافي إنما جاء في إطار دراسة لواقع

و متطلبات إقتصاد ما بعد إنفصال الجنوب، و إذا كانت الحكومة قد قدرت إن المدى الزمني لصدمة الإنفصال ستستمر من ( 2012 – 2014)، و عليه أسست للبرنامج الإسعافي، إلا أن بقاء السياسات الإقتصادية، المطبقة عملياً على أرض الواقع تُعبر عن عقلية إقتصاد الإحتكار و التهريب و الثراء غير المبرر، و الإتجار في الأسلحة و التعاقد مع المجموعات المتمردة، و بيع مؤسسات القطاع الإقتصادي العام، و تهريب العملات الصعبة خارج النظام البنكي. إنه إقتصاد جماعة الإسلام السياسي، التي إستشرت منذ إعتلائهم للسلطة مع الطاغية نميري في عام 1983. وأكبر دليل هو عدم التطرُّق لهذا البرنامج من قريب أو بعيد من قبل الجهة المناط بها تنفيذه ورعايته وتقييمه وتقويمه، وهي وزارة المالية، التي صارت منصرفة بالتمام لإجراء السمسرات الخارجية، بغرض الاقتراض المالي الخارجي، و الزهو الكبير الذي يلازم نجاحها في الحصول على تلك القروض، بدلاً من وضع البرامج الإسعافية الرصينة المُستندة لمُعطيات ومُؤشِّرات اقتصادية واقعية وسليمة، والإعراض عن القطاعات غير المضمونة والاهتمام بالقطاعات الإنتاجية الفعلية وهي بنحوٍ خاص القطاع الزراعي (بشقيه النباتي والحيواني) بالإضافة إلى القطاع الصناعي.

تداعيات إنفصال الجنوب على الإقتصاد الوطني:

(13) بعد الانفصال، انخفض معدل الناتج الإجمالي لاقتصاد الشمال إلي 2.1%، وذلك لفقدانه العائدات النفطية التي ذهبت لصالح الدولة الوليدة في الجنوب، وبلغ تأثير فقدان هذه العائدات في الإيرادات ما نسبته 30% من جملة إيرادات الموازنة خلال عام 2011، وبمعدل تضخم بلغ 02.7%.  ويرجع انخفاض معدلات النمو عُموماً بعد انفصال الجنوب إلي اعتماد الدولة في العقد الأخير بشكل شِبه كامل علي إيرادات النفط، خصوصاً المستخرج من الجنوب، حيث وصلت نِسبة تصدير النفط إلي إجمالي الصَادرات في الشمال إلي 95%، الأمر الذي أدي بدوره إلي تحول الاقتصاد السوداني من اقتصاد زراعي تقليدي، والاعتماد علي تحويلات العاملين، إلي اقتصاد نفطي بتصاعد كميات الإنتاج، وبالتالي إهمال تنمية القطاعات الاقتصادية الأخري، مثل القطاع الزراعي والإنتاج الحيواني. ومن ثم، كان السودان أكثر تضرراً من هذا الوضع، حيث فقد أكثر  من 36% من إيرادات النفط (حسب تصريحات وزارة المالية السودانية) التي  كانت تقاسمها مع الجنوب، مما أثر في الموازنة العامة للدولة، وقلص تدفقات العملة الأجنبية اللازمة لشراء الواردات. و لكن ظل ضمن الحسابات المدرجة في موازنة الدولة أن السودان سيستفيد من خدمات تأجير منشآته النفطية للجنوب وفق رسوم إتفاقية. ولكن كان أيضاً من المحسوب أن تلك الرسوم لن تتعدي 10 – 15% من إجمالي الإيرادات، فلن تعوض السودان عن انخفاض إيراداته من النفط، مما يحتم ضرورة التوصل إلي اتفاق بين البلدين لتنظيم هذه الأمور.

التطور السلمي في العلاقة ما بين دولتي السودان و أثره على النمو الإقتصادي:

(14) لا شك أن تقليص مساحة الحرب، و توسيع نطاق السلام، لديه من الإنعكاسات الإقتصادية الإيجابية الكبيرة، التي لا نستطيع حصرها في هذا التقرير، و لا شك إن نجاح جهود السلام بين دولتي السودان و جنوب السودان، ستؤدي بالضرورة توفير النفقات اللوجستية التي تستدعيها تلك الحرب، و تفتح فرص التنمية و الإستثمار في تلك المناطق التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية.

(15) و كما أشرنا في موقع سابق من هذا التقرير على أنه، ليست مسألة إنفصال الجنوب و خروج موارد هامة من التخطيط الإقتصادي الوطني، مثل البترول، هي النقطة البارزة في أزمة الإقتصاد الوطني في ظل هذه الحكومة، إلا أنه تظل المشكلة الأساسية في تراجع الإقتصاد الوطني هو إرتباطة بأشخاص و مؤسسات رأسمالية طفيلية دولية ووطنية، و بالتالي هي مشكلة مرتبطة بالطبقة الحاكمة و مفاهيمها الإقتصادية، و لا شك أن تحليلنا السابق للبرنامج الاسعافي لإقتصاديات ما بعد إنفصال الجنوب خلال فترة الصدمة (2012 – 2014)هو كان لإثبات تلك الجزئية.

(16)  بجهود دولية، و ضغوط من الدول العظمى المستثمرة في قطاع النفط في السودان و جنوب السودان، نجحت المجموعتان الحاكمتان في ( السودان و جنوب السودان) في توقيع إتفاق أُطلق عليه إتفاق “التعاون المشترك” و الذي تم توقيعه في 27 سبتمبر 2012 بأديس أبابا برعاية و تنظيم من قبل الحكومة الأثيوبية، التي ظلت مُفوضَة من الإتحاد الأفريقي و الإيقاد لرعاية المفاوضات بين حكومة السودان و حكُومة جنوب السُودان. و قد إشتمل الإتفاق على حزمة كبيرة من الإتفاقات الإقتصادية الهامة.

(17) كان، في وقت سابق من عام 2012،و قبل توقيع إتفاق ” التعاون المشترك”، قد بدات تفاهمات قادتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، بخصوص معالجة معضلة ترحيل بترول جنوب السودان عبر أنابيب السودان الى الاسواق الدولية من خلال ميناء بورتسودان على البحر الأحمر. و قد تم وضع الصيغة النهائية بواسطة الإدارة الأمريكية حين كانت وزيرة الخارجية في زيارة رسمية لها الي جوبا.

(18) تأسيساً على المقاربات التي سطرتها الإدارة الإمريكية، تم التوقيع على إتفاق للتعاون المُشترك بين الدولتين، في يوم 27 سبتمبر 2012، بأديس أبابا، بخصُوص الموضوعات التالية: (1) الإتفاق الإطاري للتعاون حول موضوعات البنك المركزي (2) الإتفاق حول موضوعات الحُدود (3) الإتفاق بخصوص الموضُوعات الإقتصادية (4) الإتفاق بخصوص تيسير دفع فَوائد ما بعد الخِدمة (5) الإتفاق بِخصُوص التجَارة و المَوضوعات المُتصلة بها (6) الإتفاق الإطاري بِخصوص أوضاع المواطنين (7) إتفاقية البِترول و المُوضوعات الإقتصادية ذات الصلة (8) إتفاقية الترتيبات الأمنية.

(19)                  لا ريب – لدى أي مُتبصر- أن في تلك الإتفاقات منافع إقتصادية (بجانب المنافع الأخرى السياسية و الدولية)، و إنها تحمل في طياتها مدخولات إقتصادية إضافية، و بدون أي تعقيدات إنتاجية كبيرة.

(20)  إن حزبنا ، حزب البعث العربي الإشتراكي، يؤكد من جديد بأن الظروف الإقتصادية المواتية التي سيهيؤها ذلك الإتفاق، لن تكون لمصلحة جماهير الشعب الكادحة، أو تلك التي ظلت تعيش ويلات الحروب و النزاعات المسلحة، في دارفور و جنوب كردفان و ابيي و جنوب كردفان، أو أولئك الذين أرهقتهم سياسات الإحتكار و الضرائب و الرسوم و العطالة. إن حزبنا، يؤكد من خلال هذا التقرير لجماهيره، أن الطبقة الطفيلية الشرهة، التي إستولت على مفاصل الإقتصاد الوطني، ستوظف عائدات تلك الاتفاقات لمصالحها الخاصة، و سيظل الوضع الإقتصادي على ماهو عليه، يتراجع بصورة دائمة، و إن بدأ في بعض الأحوال يشهد ما يشبه الإستقرار المؤقت، و لن يتوقف هذا التهور الإقتصادي، بتوقيع إتفاقات تجارية مع الجنوب، أو تم إكتشاف بحيرات من البترول، و جبال من الذهب و الماس ، إلا بإقتلاع السلطة السياسية القائمة و مؤسساتها الإقتصادية.

الإستنتاجات النهائية:

(21)                  إن الأزمة الإقتصادية الماثلة، ما هي إلا جزء من الأزمة الشاملة التي تعاني منها الدولة السودانية، و لأنها أزمة غير مستحدثة، فهي ظلت سمة من سمات الدولة السودانية منذ تاريخ نيلها الإستقلال السياسي في يناير 1956، و هي بالتالي أزمة ظلت تتصاعد و تأخذ أشكالاً مأساوية، بحسب طبيعة النظام الحاكم، و هي بالتالي وجدت مناخاً ملائماً في ظل حكومة الجبهة القومية الإسلامية، بفضل السياسات الرأسمالية الطفيلية.

(22) لقد صممت عملية إدارة الإقتصاد الوطني في السودان  في ظل حكومة الأنقاذ لتكون مدخلاً لتمكين النظام الديكتاتوري الحاكم و عناصره و أنصاره من حركات الإسلام السياسي في المنطقة. و لما كان ذلك ينأى بالإقتصاد الوطني عن أهدافه في تنمية و رفاه الشعب السوداني، فقد أتبعت أساليب عديدة و حديثة في توظيف الموارد الوطنية  لشعب السودان بعيداً عن رقابته،  فأصبحت إدارة أهم الموارد الأساسية في إقتصاديات الدولة تتم بتكتم و بعيداً عن أي رقابة قانونية، و ظلت الأموال العامة تبدد دون أدنى مراقبة أو محاسبة قانونية، بل أن مبددي المال العام أصبحوا يحظون بحماية قانونية من أي مساءلة قانونية، فبالتالي أصبح الفساد المالي محصناً من قبل الدولة نفسها.

(23)  بالتالي أصبحت آليات إدارة الإقتصاد الوطني الراهنة تفسح المجال لسرقة مقدرات الشعب، إذ أن الموارد الأساسية في الإقتصاد الوطني الراهن، لا يتم إيرادها في الموازنة العامة (بما عرف بالتجنيب)، و أن الموازنة العامة للدولة أصبحت تُعد بشكل أساسي للمحافظة على النظام الراهن( و الذي هو سياسياً ديكتاتوري

و إقصائي ، و إقتصادياً طفيلي ) فأصبحت حوالي نسبة 90% من الموازنة مخصصة للدفاع و الأمن و المفاوضات مع المجموعات المسلحة، و لرئاسة الجمهورية و غير ذلك، بينما ظلت الموازنة العامة طيلة ربع قرن من الزمان تتجاهل بشكل تام تحديد تخصيصات مناسبة للصحة و التعليم و صحة الامومة و الطفولة و التنمية البشرية و الخدمات الإجتماعية الأخرى و  التي في مجملها و في أحسن السنوات لم تبلغ 20 % من الموازنة العامة، الأمر الذي يوضح بشكل فاضح أن الموازنة العامة للدولة لا تغطي إحتياجات الشعب، و أن موارد الشعب تصرف في موضوعات لحماية الديكتاتورية و الطبقة الطفيلية.

(24)       لا جدال أن عمليات مكافحة العصيان المدني و محاربة المجموعات السكانية، و إنشاء نظم رقابية أمنية في شتى مناحي الحياة، و السهر من أجل مراقبة الهواتف النقالة و البريد الألكتروني و المواقع الإلكترونية المعارضة، و دفع الرشاوي للمسئولين في المؤسسات الدولية و لتدبيج القرارات الدولية لصالح حكومتهم، و رشوة الدول لقبول زيارة البشير لها في المحافل الرسمية، لا جدال أن كل تلك المسائل مكلفة مالياً و مرهقة للموازنة العامة، مما يصح معه القول أن إضطهاد الشعوب و تعذيبها أكثر كلفة من كلفة العمل من أجل حماية حقوق الإنسان و كفالة الكرامة للشعوب.

(25) و لما كان النظام السياسي الحاكم، يضع الدولة و مؤسساتها ضمن منظومة النظام الطفيلي الإقليمي و آليات الراسمالية الدولية، أصبح النظام يسعى للكسب المالي السريع، و هجر العمليات الإقتصادية المعقدة، و المتصلة بالزراعة و الصناعات التحضيرية و التنمية البشرية و تنمية وتأهيل الموارد الحيوانية و الغابية، و في المقابل إعتمدت على إستخراج و بيع النفط و الذهب، بجانب الإعتماد بشكل أساسي على بيع مؤسسات القطاع العام، بيع الأراضي و المواقع الإستثمارية للمستثمرين الخليجيين، و الإستدانة من النظام المصرفي الدولي أو الإقليمي أو المؤسسات المصرفية الدولية، الدخول في عمليات تمويلية بمبالغ ضخمة.

(26)  إن آلية إدارة الإقتصاد الوطني المتبعة بواسطة الطبقة الرأسمالية الطفيلية المتحكمة، أفضت إلى أن يكون الإقتصادي برمته مرهون لمؤسسات دولية طفيلية، كما أن معظم موارد البلاد تم إحتلالها بواسطة مستثمرون خليجيون، و أسيويون.

(27) تلك السياسة أفقدت البلاد أهم الموارد المالية و أهم مؤسسات الإقتصادية الوطنية، فقد باعت الحكومة خلال العشرة سنوات الماضية فقط، معظم المحاجر و المناجم المعدنية لشركات عالمية و لآجال زمنية غير معلومة، مثلما باعت الخطوط الجوية السودانية و الخطوط البحرية و النقل النهري، مثلما باعت الأراضي بدون أي إعلان بالبيع أو طرحها للمزايدة، فتم بيع مطار الخرطوم و الموانئ النيلية و الشواطئ النيلية في مدينة الخرطوم، مثلما تم بيع مساحات زراعية شاسعة في الولاية الشمالية و الجزيرة و النيل الأزرق لمستثمرين أجانب. بالإضافة لعدد غير محصور من المؤسسات الوطنية الإقتصادية الكبرى.