العصيان المدني والأضراب السياسي: رؤية مفاهيمية

العصيان المدني والأضراب السياسي: رؤية مفاهيمية

بقلم: محمد الأمين أبو زيد

العصيان المدني هو وسيلة استخدمتها الجماهير في المقاومة، في كثير من دول العالم، ضد الأنظمة الفاسدة، وهي تعني عدم الخضوع لقانون، أو لائحة، أو سلطة، تعتبر في نظر من يقاومونها بأنها سلطة فاسدة، وفي حده الأدنى يستهدف تغيير سياسات السلطة، وفي حده الأعلى رحيلها واستبدالها. ويرجع تاريخ ظهور هذا المصطلح إلى العام 1849، في بحث للأمريكي هنري ديفد عندما دعا لرفض دفع ضريبة تمويل الحرب الأمريكية ضد المكسيك، وقد استخدمته دول عديدة بعد ذلك، فاستخدمه الزعيم الهندي غاندي في نضاله ضد الاستعمار الإنجليزى، في معركة استقلال الهند، واستخدمته جنوب أفريقيا في مقاومة سياسة الفصل العنصري، واستخدمه المصريون في ثورة 1919، واستخدمته جماهير شعبنا كسلاح لاسقاط ديكتاتورية عبود في 1964 (ثورة أكتوبر)، وديكتاتورية نميري 1985 (انتفاضة أبريل).
أما الأضراب السياسي العام، فهو مرتبط بعدم خضوع العاملين في القطاعات المختلفة (عام وخاص) للسلطة، والامتناع عن ممارسة العمل، لاجبار السلطة على تغيير سياساتها، سواء كانت عامة، أو مرتبطة بالعمل والعاملين في مواجهة رب العمل (المخدم)، والذي تمثله حكومة باعتبارها أكبر مخدم..
على الدوام يترافق مفهوم العصيان المدني، مع الاضراب السياسي العام، كوسيلتين تتطابقان إزاء مقاومة السلطة الفاسدة والظالمة، وتكملان بعضهما في مواجهة سياسات الحكومات الديكتاتورية مثلما ما هو حادث الآن.
تعتمد فاعلية العصيان المدني، على فاعلية قدرة الحركة الجماهيرية في اقناع جماهير الشعب بجدوى سلاح العصيان، وتجذر الوعي به كسلاح فعال وسلمي، لاسقاط النظام، ويرتبط نجاحه بالحشد والتوعية والتراكم النضالي، والوصول للقناعة بتغيير النظام، وجدارة القوى التي تقود هذا العمل من ناحية ثقة الجماهير بها، وهذا متوفر إلى حد كبير في الحالة السودانية، وهذا ما يعرف بتلازم الظرف الذاتي والموضوعي.
أما الاضراب السياسي العام، فهو مرتبط إعدادا ونجاحا بالتنظيمات المهنية (النقابات).
ومن المعلوم بالضرورة ما حدث للحركة النقابية من استهداف كبير إبان الحقبة الانقاذية، التي استهدفت تدمير الحركة النقابية من خلال تعديل قانون 74، واستبدال نقابات العمال والموظفين والحرفيين بما سمي بنقابات المنشأة، بديلا للمهنة، وكذلك استهداف القيادات النقابية بالتشريد، والفصل للصالح العام، وإحلال مفهوم الولاء، بديلا للكفاءة في التعيين، هذه السياسات هي ما عرفت في بواكير عهد الإنقاذ، بسياسة التمكين، وهي السياسات التي دمرت الخدمة المدنية، مترافقة مع سياسات الخصخصة التي استهدفت ببع وتفكيك القطاع العام.
كثير من الناس ينظر لما سبق كمعوق في اتجاه تنفيذ الاضراب العام، بعد ثلاثين عاما من عمر الانقاذ، حيث تناقصت أعداد العاملين في القطاع العام، وبالمقابل تزايدت أعداد العاملين في القطاع الخاص والهامشي، وفقراء المدن والريف، والعاطلين، والمهمشين، وبالتالي فإن المعادلة البديلة لحل هذا التناقض هي في نشوء تنظيمات بديلة لنقابات السلطة المتمكنة والمسيطرة، وقد برز هذا في قطاعات عديدة، في الفترة الماضية (أطباء – معلمين – محامين – مهندسين – صيادلة -بياطرة -معاشيين… إلخ وصارت هذه التنظيمات البديلة ذات فاعلية كبيرة، ومؤثرة في حركة الثورة منذ 19/ديسمبر بتنفيذ الوقفات والاضرابات المؤثرة.
ما تزال هناك قطاعات عمالية، وفي قطاع المهن الهامشية والخدمات، بعيدة عن دائرة الفعل المؤثر، ولكن حركة الثورة المتنامية -حسب تقديرى – جديرة باجتذاب هذه القطاعات، لا سيما وإن الوعي بجدلية التغيير من جهة، وسياسات السلطة الفاشية في معادة الشعب من جهة أخرى، يمثلان عوامل جاذبة لدخول هذه القطاعات في فعل التغيير.
إن استيعاب المتغيرات المشار إليها أعلاه، تجعل من تنفيذ سلاح الاضراب السياسي، والعصيان المدني، ليس بالضرورة استنساخ كربوني لتجارب سابقة، وإنما لديه متطلبات ومداخل مختلفة، سيسهم في اهتزاز صورة السلطة، ومرمقة أنفها في الوحل، طيلة فترة التراكم الثوري السابقة، في تعزيز الثقة بنفاذه، باعتباره سلاحا حاسما لإسقاط النظام..
لقد أشرت حركة الجماهير في الفترة الماضية من مسيرة الثورة قدرات لا متناهية، واستعداد بلغ حد الاستشهاد، وتحدي وجسارة وصمود في مواجهة السلطة، والتمسك بأهداف الثورة، لم نشهد لها مثيل، ومواجهة الاعتقال والتعذيب، وغيره، بما يجعل كل خطوات الثورة وأساليبها المقاومة، رهينة بحركة ترمومتر الشارع وانفعاله، وهذا هو رافعة النجاح الختامي لنجاح الثورة في إحداث التغيير، وهزيمة مشاريع البدائل الزائفة، من داخل النظام، ومن خارجه، وهي تنشط هذه الأيام وتتحين فرص الانحسار والانتصار معا، ولكن يقينى إن وعى الثورة وقواها أكبر.
بالطبع لن يولد الاضراب السياسي، والعصيان المدني بأسنانه من أول يوم، وإنما حتما سينمو نموا طبيعيا كأحد اسلحة الثورة الحاسمة، وسيتبلور محاقا، وتربيعا، وهلالا، ومن ثم بدرا مكتمل الاستدارة، اتساعا وعمقا ووعيا، لكنس سلطة النهب والفساد، إلى مزبلة التاريخ، فليس المطلوب قفزا بالزانة، وإنما حسابات حقل وبيدر، لا سيما وان السلطة تلعب في المربع الأخير من الملعب، وقد استنفدت كل خطواتها في المواجهة، وكل كروت اللعب السياسية والأمنية..
وهل بعد الطوارئ شيء؟
إن عنصر المبادرة الآن بيد الشارع، والسلطة تعمل بردود الأفعال، وتسقط في كل يوم يمر، هذا السقوط قد لا يحس به المواطن العادي، الذى يتوق إلى التغيير وسقوط النظام، ولكن يمكن قياس ذلك في أمرين فقط، أولهما السلوك السياسي والأمني للنظام من جانب، وتساقط وانكشاف حججه وسقطة إعلامه من جانب آخر.
الخطوة التي تدخلها ثورة شعبنا من بوابة الاضراب السياسي، والعصيان المدني الشامل، ينبغي أن تؤخذ في ضوء المعطيات المذكورة، وكما يقال نعمل بأقل الإمكانيات، ولا ننسى الطموح، ولا مكان لليأس والتراجع، فكل خطوة هي مدماك في طريق الانتصار الحاسم وضمانته الجماهير.