التنمية المفترى عليها

التنمية المفترى عليها

بقلم: أ. عبدالله أبوهم

الحلقة الثانية

أشرت فى الحلقه الأولى، لخطورة استقدام الشركات الأجنبية الخاصة عبر شركات وطنية وهمية على الثروة الوطنية من المعادن التي تحبى بها أرض الوطن وما يترتب على نشاط تلك الشركات من مخاطر تصب في تدمير البيئة وتخريب الأرض، وانعدام فرص الحياة فيها للإنسان والحيوان، وأن العقود لفترة قرن تنشئ دولة بقواتها عبر سيطرة وهيمنة الأجنبي على كل خيرات البلد من معادن ومن معلومات، ولكي تصل إلى الكنوز المعدنية تمارس الكذب والنفاق وكل الأساليب الملتوية، حيث تدعي استخدام مواد تسميها صديقه في وقت لم يصل العلم إلى عنصر فعال غير السيانيد، كما أن العقد والهدف المعلن البحث عن عنصر الذهب يخفي ويؤمن على أخطر عملية سرقة ونهب لكل المعادن.
تقدم الشركات نفسها في صورة انسانية مدعية إنجاز تنمية في تلك المناطق وهي الفريه الكبرى التي تستخدمها شركات الذهب القذر في إيهام البسطاء في أنها رسول الإنسانية والمحقق الحادب على تنمية منطقتهم، وتبذر في نفوسهم وتسلب عقولهم بأنهم فئة مقدرة وأصحاب حظوة ومكانة عند الشركة، مستقطبة بهذا النهج الابتزازي مرضى الثراء والغنى السريع، فتطفو على السطح عناصر ليس لها مؤهل أو دراية أو خبرة، تدغدغها طموحات غير مشروعة ووهن أخلاقي وقيمي يتضاءل معه الإيمان بالحياة الطاهرة والنقية المستقيمة، وتسقط لديه الوطنية والإنسانية، وتقوده الأنانية والعصبية.
هذا التشويه والتدمير الممنهج بالمال والملذات، هو الوسيلة الناجعة والفتاكة التي عبرها يتم شرذمة المجتمع واختراقه ومن ثم سرقة ونهب خيرات الوطن، لحماية المستفيدين وتقوية نفوذهم وتمكينهم من مقاومة المناهضين الواعين لمخاطر تلك المافيا، ولاستقطاب مؤيدين لنشاط تلك الشركات المدمرة تتبنى تقديم خدمات أساسية تحتاجها تلك المجتمعات.
ومن الناحية الفنية والعلمية، وهي قياساً بالتطور الذي وصل إليه العلم والعصر، تعتبر خدمات تقليدية ومتخلفة لا تستوفي الحد الأدنى من المعايير العالمية للتنمية وتفتقد إلى الاستدامة التي تعني الاستجابة المستمرة والدائمة لحاجات المجتمع التي تتجدد وتتنوع بتطور المجتمع وتقدمه.
فالخدمات الطبية والعلاجية (مثلاً) التي يحتاجها المواطنين اليوم ليست ذات الخدمة المطلوبة بعد عقود من السنين من حيث الزيادة السكانية، ومواكبتها لتطور العلاج والخدمة بضوء الاكتشافات والبحوث المتجددة ونوعية ومستوى تقديمها وفرص توفيرها والحصول عليها، فالشركات تهدف إلى تحقيق أقصى ربح مع أقل تكلفة، ويتم الإنفاق على العناصر المادية مباني أو مصادر مياه وما عداها من طرق أو جسور تكون حاجتها هي الملحة.
هذا الاستغفال والاستهبال الذي تسعى لتسويقه باسم التنمية مستثمرة خيبة حكومات ما بعد الاستقلال، وخيبة وعجز سلطة الراسمالية الطفيلية، يفتقد إلى أهم عنصر وغاية ووسيلة للتنمية ألا وهو الإنسان.
فأي تنمية لا تستهدف الإنسان ولا تقوم على هدف تطويره وزيادة معارفه والنهوض به وتخليصه من عناصر التخلف والتأخر، وهو إنفاق مادي محض ليس له أي أثر أو تطور حضاري، بل هو تكريس للجهل والتخلف والقضاء على فرص التقدم والتطور وسلب ونهب للثروة التي يمكن أن توفر لأبناء الوطن مستقبلاً إمكانية الاستقلال الوطني الأمثل وبناء القاعدة المادية للتطور والنهوض على أساس من الاستقلال والاعتماد على الذات والكفاءات الوطنية.
قديماً، كان الاستعمار يتم بالحروب وبالسلاح، والتي لم تنته، بل تستخدم في مراحل وغايات محددة، فأما الآن، يجري الاستعمار بأساليب وأدوات تعتمد على السيطرة على المجتمعات بقادة وعناصر من ذات المجتمع، تتحد مصلحته مع الغريب والأجنبي، فالنهب الحديث يختلف عن حملات محمد علي باشا أو الغزو البريطاني للسودان مع بقاء الأهداف ذاتها، المعادن والموارد. وأهم تلك الآليات تكريس الجهل والتخلف ومنع أي تقدم أو تطور علمي، ومن ضمن آلياته الفتنة والانحدار بالانتماءات إلى سقف العصبية القبلية والعنصرية البغيضة، فيتوقف التلاقح والتداخل العقلي والفكري بين المواطنين، وتعمل على تغذية الصراعات باستمرار حتى يمكن النفاذ إلى الغايات وتحقيق المصالح الخاصة، وبالتالي صنع إنسان عدو لنفسه ومجتمعه ويري مصلحته بعيداً عن المجموع ومتحققة عندالغريب، فهذه الشركات الأجنبية تدخل عن طريق وسيط رأسمالي طفيلي لا يرتبط في المحيط الجغرافي بمصلحة المجتمع المحلي ولا على الصعيد الوطني بمصلحة الكادحين والفقراء، ولطمس حقيقة العداء التاريخي والحتمي بين الاجنبي وحلفائه من الراسماليين المحليين والفقراء والكادحين، توظف بعض من أبناء تلك المجتمعات في مهمة اختراق تلك المجتمعات والوصول إلى قادة المجتمع في الريف، وكسبهم إلى جانب الشركة عبر أساليب الفساد والإفساد، ولما كانت جل النخبة والمتعلمين هم كانتماء اجتماعي ووعي معاديين للنخب الطفيلية والأجنبي، ترفض وتحذر الشركات من تلك الفئات إلا من يرتضي دور الخيانة؛ لأن تعظيم دور ومكانة أصحاب الوعي الضعيف يتيح لهم فرص الوصول إلى كل أهدافهم من المعادن والمعلومات.
هذا المنهج التدميري والتخريبي للنسيج الإجتماعي يتعارض مع مصلحة الأكثرية ويسعى إلى خلق أثرياء محليين يوفروا لها الحماية القانونية ويصيروا مظلة لسرقة مقدرات وموارد الوطن. فالتنمية تهدف إلى زيادة دخل الفرد وليس إثراء أفراد بعينهم مستقلين سلطتهم ونفوذهم لتمكين الأجنبي من سرقة وتدمير الإنسان والبيئة، فالإنسان لا يشكل هدف ولا محور العملية التنموية لدى هذه المافيا بل سلعة للوصول إلى الثروة، يتطلب تدميره والقضاء على كل فرصة في التقدم والنهوض بالمنطقة وإدارة تلك المجتمعات بعناصر تتميز بالجهل والتخلف والعصبية والرغبة والسعي بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة لتحقيق الثراء، لذلك طرأ هناك تحول خطير في الريف وفي مهام الإدارة الأهلية ودور قادته المحليين، فأصبح مجتمع الريف تتهدده مخاطر الفساد والنفاق والنظرة المادية على حساب قيم الصدق والكرم والنخوة، فتمزقت وحدته وتماسكه بواسطة تلك المجموعات المدفوعة من قبل مافيا الطفيليين، فأضحت تعمل بالضد لمصلحة مجتمعها المحلي، فشعار التنمية كلمة حق أريد بها سرقة وإفقار المجتمع، فهي تنتهج عكس مفاهيم وأهداف التنمية التي تسعى إلى تطوير الإنسان وقدراته ووعيه والتحكم في البيئة المحيطة واستثمار تلك الموارد من أجل تطوير ذاته ومجتمعه وتحقيق أقصى فائدة اجتماعية واقتصادية وعلمية من تلك الموارد مع الحفاظ على البيئة والطبيعة.
وكثيراً ما ينبهر الفرد الذي تتاح له فرصة زيارة دولة متحضرة من السلوك الحضاري لمواطني ذلك البلد بوضع أعقاب السجائر أو غيرها من المخلفات فى أماكنها المخصصة حفاظاً على النظافة والخضرة (البيئة) وعند المقارنة بين سلوك ومنهج الأجنبي (روسي، صيني، أمريكي) في بلده وبلدنا نكتشف التناقض في تخريب وتدمير البيئة من أجل الوصول لنهب الوطن.
فالإلهاء والاستعباط بشعار التنمية أكذوبة كبرى، فلا يوجد في تاريخ البشرية أن قامت شركات خاصة بتطوير مجتمع أو قرية، وفي التجربة الإنسانية كانت هناك محاولات فردية اشتراكية في فرنسا وغيرها من الدول الأوربية كالتجربة الفابية فشلت في تحقيق المساواة والاحتياجات للعمال.
العبرة من ذلك أن التنمية مسؤولية دولة وليست مسؤولية فرد، فهي حق للمجتمع بما فيه الرأسماليين وطنيين كانوا أو طفيليين، ويشكل الإنسان محورها وغايتها وفي ذات الوقت الوسيلة التي بها تتحقق الأهداف وتبنى بها وتنفذ الخطط، فهي حق قانوني ودستوري وإنساني لا تحققه شركات خاصة، فالمصلحة الخاصة الشريفة تتعارض وتتناقض مع المصلحة العامة، ناهيك عن شركات طفيلية مستقدمة لشركات أجنبية خاصة تفتقر إلى الكادر العلمي بالشروط والكفاءات والمقاييس العالمية، فمن الاستحالة أن تضم تلك الشركات الأجنبية علماء يتمتعون بالأمانة العلمية والضمير الحي والإنساني، إذ لا توجد دولة أمينة على علمائها وكادرها العلمي توافق لهم بالذهاب إلى مناطق ملتهبة ومع شركات مسمى فقط ليس بها كادر علمي من ملاكها، فالكوادر والعلماء هم ثروة لا تفرط فيهم الدول المتقدمة ولا يتم استقدامهم إلا عبر اتفاقات وشراكات بين دولة ودولة تضمن حمايتهم وسلامتهم.
هذا الاختراق للأمن الوطني والتهديد الجدي لثروته أوجده القانون الذي يسمح لشركة وطنية باستقدام شركة أجنبية تمتلك هي حق الإمتياز الذي لا يمنح للأجنبي، فما يجري هو سمسرة دولية لا علاقة له بالتنمية ولا الإصلاح.
فالتنمية تتم بين دولة ودولة ببروتوكول يتضمن بناء كادر وطني تؤول إليه مهمة إدارة المشروع المحدد في فترة متفق عليها على أن توفر الدولة صاحبة الامتياز فرص التعليم والتدريب والتأهيل لكل المستويات المطلوبة في نهاية الفترة، لأن التنمية غايتها الإنسان ووسيلتها في آن واحد، أما الشرط المهم للتنمية هو أن تقوم على التخطيط الذي يقوم به جهاز التخطيط بالدولة بوضع الخطط الزمنية بحسب الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التي تستوعب وتستهدف التفاوت التنموي بين مختلف الأقاليم والمناطق ويعمل على تحقيق تقدم وتطور مطرد للحاق بالعصر. هذه أولى مهام الدولة وليست شركات، أياً كانت، وإطلاقها وإدعاء تحقيقها هو تسويق وإعادة انتاج للخيبة والفشل الذي لازم التجربة الوطنية منذ الاستقلال، وتدنيس لكل القيم والشعارات العزيزة على شعبنا، التي تاجرت بها الرأسمالية الطفيلية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.