الإسلام السياسي.. يوميات البارود والدم (6)

الإسلام السياسي.. يوميات البارود والدم (6)

الجبهة الإسلامية القومية.. تسقط بس (4)

في الحقيقة لم تفلح كل لجان الوساطة المعلنة والمستترة منها، في احتواء خلافات الإنقاذ والترابي، فقد خرجت الأمور عن السيطرة وحدث “الانشقاق الأكبر” في تاريخ تيارات الإسلام السياسي في السودان. فاختارت الإنقاذ طريق (القصر – السلطة)، وسلك شيخ الترابي طريق (المنشية – المعارضة).
شعبي ووطني:
تمسك البشير “بالابن العاق” للحركة الإسلامية – حزب المؤتمر الوطني – الذي تم تأسيسه عام 1994م، كحزب انتهازي نفعي يضم كل “النفعيين” الذين تآلفت قلوبهم مع هوى السلطة. وأنشأ حسن الترابي “حزب المؤتمر الشعبي” عام 1999م كبوابة ينفذ منها إلى مفاصل المعارضة السودانية، لكن الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أن “المؤتمر الوطني” وشقيقه “الشعبي” هما “أحمد” و”حاج أحمد”، هل تشعرون بفرق بينهما؟
المرتكزات الفكرية للحركة الإسلامية الإخوانية في السودان:
لا تختلف المنطلقات الفكرية للحركة الترابية الإنقاذية عن أخواتها من تيارات الإسلام السياسي، فهم يتفقون على أسلمة الحياة، والمجتمع، والمعرفة (اجتماع إسلامي – اقتصاد إسلامي – سياسة إسلامية). ويُبدعون في استخدام وتوظيف الدين في المتاجرة بالسياسة، ويعشقون الحلم بإحياء الخلافة الإسلامية، عن طربق استغلال العواطف الدينية لأتباعهم، وبعض من لف لفهم وجذبته مغريات السلطة وصولجانها.
لكنهم يختلفون في تفسير وفهم أدبياتهم الفكرية، فمنهم “الثوريين الإنتهازين” كإخوان مصر والسودان، ومنهم “السلفيين الجدد” و”السلفيين التقليدين” الذين تتراوح مواقفهم وتفسيراتهم بين التيارين “الانتهازي” و”السلفي المتجدد”، وبين التكفير والمعارضة، أو التعاون والتجاهل والتكيف، وهذا يعني أن رؤيتهم حول طريقة أسلمة المجتمع وقيام الدولة الإسلامية مختلفة.
لكن الواقع المؤلم هو أن الحركة الإسلامية في السودان قد فشلت تماما على مستوى الصعيد الفكري والنضالي، وعلى مستوى إدارة الدولة، لأنها لم تستطع تجاوز أفكار”شيخ الترابي” التجديدية، وتلك النصوص التي وضعها إخوان مصر الأوائل.
وبالتالي اقتصر إنتاجهم الفكري على بعض “المواعظ البلاغية” و”تفاسير واقتباسات بعض فقهاء الإسلام السياسي”.
بل أن الحركة الترابية الإسلامية في السودان لم تستطع مثلها مثل باقي الحركات الإسلامية، أن تقدم فلسفة سياسية واقعية لمفهوم الدولة الإسلامية التي يحلمون بها، ولا حتى شكل مؤسساتها، فقد اعترف الترابي صراحة بذلك، لكن بعد فوات الأوان عندما قال: “إن الحركات الإسلامية تريد إقامة دول إسلامية، وتطبيق الشريعة، ولكنها لا تعرف طريقة إقامة الدولة وشكلها. بل إن المشروع الإسلامي في الأغلب نظري لا علاقة له بالواقع، لذلك يجب أن تأتي كل الحركات الاسلامية في عالمنا بالبرامج المفصلة في كل هموم الحياة، الآن هم مواجهون بالأسئلة الصعبة حول العلاقات الدولية، وقضايا الديموقراطية، ومعاش الناس، ليت الحركات الإسلامية تخرج من الشعارات المبهمة إلى تقديم مناهج مفصلة”.
فقد فشلت الجماعة الأم في مصر في امتحان السلطة، فسقط الوهم الإخواني كله تحت أرجل حركة (30 يونيو) التصحيحية، بقيادة الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”. مثلما سقط الوهم الترابي، وما زال يسقط تحت أقدام “ثورة 19 ديسمبر 2018” المجيدة.
بالطبع سبب هذا السقوط معلوم، وهو الانغماس حد الشبع في مفهوم “التمكين الكيزاني” ذلك الغطاء الأيديولوجي الذي يسير على ساق واحدة مع “فقه الضرورة” و”فقه التحلل”. غير أن النتيجة المهمة في كل هذه “المعمعة الوهمية” تتمثل في فشل تجربة الإسلام السياسي في “السودان، ومصر، وتونس” وبالتالي سقوط كل الشعارات المصاحبة لها، كشعار “الإسلام هو الحل” وشعار “المشروع الحضاري” اللذان فشلا في ايجاد الحلول السحرية لجميع مشاكل “السودان ومصر” السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لأن اعتماد مبدأ “الفضيلة والإيمان” في الأشخاص الذين يتولون إدارة مؤسسات الدولة، وشغل الوظائف الهامة فيها لم ينجح في عملية أسلمة الحياة، ولم ينجح كذلك في خلق بيت واحد فقط “فاضل”.
كما أن الاقتصاد الإسلامي القائم على “الفضيلة والعدل” لم يستطع أن يحقق العدالة، ويشبع الفقراء، والمعدمين والمساكين والمحرومين. بل ظل اقتصادا وهميا يعود على أصحابه بالشبع والترف و”تحويشة العمر”.
لم تستطع الإنقاذ، وإن تعاونت مع جميع تيارات الوهم الإسلامي، أن تبقى في السلطة، لأن مشروعها الحضاري فشل، وما تبقى هو مسألة وقت. فلا يمكننا أن نتصور العيش في دولة تنتمي إلى القرن السابع الميلادي، بينما نحن نعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بل تظل الإنقاذ إحدى الظواهر السياسية الفاشلة في منطقتنا العربية بسبب خمولها الفكري المتدني. لأن تراث القرون العشرة الماضية، لا يستطيع أن يبني دولة في عصر التكنلوجيا المتغيرة على الدوام.
بالتأكيد سترجع الإنقاذ ومعها الحركة الترابية كما بدأت أول مرة مُهمشة، ومُضطهدة، ومُلاحقة بسبب أفعالها الإجرامية، فأنا على يقين أن نشوة امتلاك السلطة لم تستمر طويلًا.

يتبع…
أحمد موسى قريعي
Elabas1977@gmail.com