كيف يواجه العرب الصهيونية

كيف يواجه العرب الصهيونية

 

نشرة قومية

ايلول / 1996

 

أيها الرفاق الاعزاء مناضلي حزبنا المجاهد :

ما تزال القيادة القومية لحزبنا المناضل توالي اجتماعاتها لتنفيذ قرارات المؤتمر القومي الثاني عشر وتوصياته ، ومناقشة القضايا الفكرية والسياسية التي كان للمؤتمر توصيات بدراستها .

وقد جرت في هذه الاجتماعات حوارات معمقة بشأن هذه القضايا ، ومنها (الديمقراطية والتعددية) و (التسوية وافاق المستقبل) و (الاستعمار الجديد) واساليبه والشعارات التي يتستر بها بعد ان رثت شعاراته القديمة وانكشفت .

واصدرت القيادة القومية نشرات قومية متتابعة بشأن هذه الموضوعات تنطوي على خلاصات للافكار التي نوقشت في اجتماعاتها .

وتضم هذه النشرة الجديدة خلاصة للافكار التي طرحت في الاجتماعات المخصصة لمناقشة (الصهيونية وكيفية مواجهتها) . وهذه النشرة ليست سوى جهد اولي ستتبعه جهود اخرى في هذا الموضوع .

كيف نفهم الصهيونية ؟

أيها الرفاق الاعزاء :

لكي نواجه الحركة الصهيونية مواجهة صحيحة وفعالة وطويلة النفس ، لابد لنا ، قبل كل شيء ، من ان نتعرف على جذور هذه الحركة ، ومنابعها الفكرية الاولى وتاريخها ، واساليبها ووسائلها في العمل ، واتجاهات نشاطاتها ، والكيفية التي عملت بها من اجل اغتصاب فلسطين وتحقيق اطماعها في الوطن العربي .

ولكي نفهم الحركة الصهيونية فهما” علميا” صحيحا” يمكن الامة العربية من مواجهتها المواجهة الفعالة المنشودة ، لابد لنا من ان نفهمها في العمق ، ولكي نفهمها في العمق ، ينبغي الا نكتفي بمعرفة الحركة الصهيونية التي نشأت في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين في رحم الظاهرة الاستعمارية ، بل الذهاب بعيدا” الى اعماق التاريخ ، والبحث عن منابعها الاولى عن جذورها واصولها ، ومتابعة تطوراتها الاساسية ، حتى تبلورت في حركة منظمة ذات اهداف محددة ، واساليب ووسائل خاصة تستخدم لتحقيق هذه الاهداف ، في المؤتمر الصهيوني الاول المنعقد في مدينة (بازل) في (سويسرا) عام 1897 .

ان اي بحث حصيف ومدقق يذهب هذا المذهب لابد له من ان يكتشف ان بذرة الحركة الصهيونية موجودة في صلب الديانة اليهودية المعروفة اليوم ، ذلك ان عقائد هذه الديانة ، كما ثبت لدى سلسلة طويلة من المحققين والنقاد والمؤرخين واللاهوتيين ، واغلبهم من اليهود ، واشهرهم الفيلسوف اليهودي (سبينوزا) في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) ان اسفار (العهد القديم) ليست من (كلام الله) ، ليست (توراة) موسى (ع) و (صحفه) التي ورد ذكرها في القران الكريم ، بل هي مجموعة اسفار كتبها البشر ، كتبها حكماء اليهود ومؤرخوهم ، وقد بدىء بكتابتها بعد قرون طويلة من وفاة موسى (ع) . وقد كتبت الاسفار الخمسة الاولى الخاصة ، من الذاكرة اذ لم يعثر احد قط على (صحف موسى) ، وهي جميعها لم تكتب من قبل مؤلف واحد ، في عصر واحد ، لجمهور واحد ، بل كتبها مؤلفون كثيرون ، في عصور متباعدة ، لجماهير مختلفة في المزاج والتكوين حتى امتد زمن تدوينها وتقنينها الى اكثر من الفي عام ، ولهذا ضمت الكثير من التناقضات ، والكثير من الاوهام ، والكثير من الرغبات والاهواء البشرية ، فاختلط فيها الالهي في اصوله بالبشري والتاريخي بالاسطوري ، والوجداني بالوثني ، كما اختلطت فيها الوقائع بالاوهام ، والحقائق بالاكاذيب ، وكان للفكر الاسطوري السائد في عصر كتابتها ، ومنها الادبيات الاسطورية البابلية والفينقية والفرعونية ، اثر واضح ملموس فيها ، وهي لهذا كله لاتحظى بالقدسية التي تضفى عليها ولا تستحقها ، حتى لدى اوساط واسعة من المثقفين والمؤرخين اليهود .

اليهودية ديانة اقلية متزمتة :

ان من يتعمق في دراسة هذه الديانة ، كما وردت في اسفار العهد القديم ، لابد له ان يكتشف انها (ديانة قبلية) . اي ديانة (قبيلة) منغلقة على ذاتها ، لاتنفتح على غيرها ولاتقبل احدا من خارجها ، وهي قبيلة كانت تعيش في طور متأخر من اطوار ما يعرف بـ (المجتمع الامومي) الذي ينتسب فيه الابناء الى (الام) وليس الى (الاب) . وهذا هو واقع الديانة اليهودية حتى اليوم ، فاليهودي المعترف بيهوديته هو من كانت امة يهودية ، حتى لو كانت متزوجة من غير يهودي ، اما من كان من ام غير يهودية فلا يعترف بيهوديته حتى لو كان ابوه يهوديا” اصيلا”.

ومعنى ذلك ان الديانة اليهودية المعروفة اليوم ليست (رسالة مفتوحة) موجهة الى الانسانية كافة كالديانة الاسلامية والديانة المسيحية مثلا” . بل هي (ديانة اقلية) مكتفية بذاتها وترفض من يأتي اليها من خارجها ، فليس في كتاب اليهود المقدس مثلا” نصوص تنطوي على مضامين تدعوهم الى نشر دينهم خارج (قبيلتهم) كتلك الايات التي وردت في القران الكريم وحثت الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) على نشر رسالته في العالم … ليس فيها نص من قبيل الاية الكريمة التي تقول (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين) ، او الاية التي تقول (وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا” ونذيرا”) او الاية التي تقول (ياأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى ، وجعلناكم شعوبا” وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم ، ان الله عليم خبير) ، بل فيها نصوص اخرى تقيض بالكراهية وتهدد بالويل والثبور كل الاقوام المجاورة لليهود .

ولقد اقترن ذلك عند اليهود بعقيدة جامدة متعالية فحواها ان هذه القبيلة هي (شعب الله المختار) فهم المفضلون عند الله ، وغيرهم مجرد همج ودهماء يطلقون عليهم في العبرية اسم (الغوييم) ، وهذا لم يجعلهم يقصرون ديانتهم على انفسهم فحسب ، بل زرع في نفوسهم عقدة تجذرت على مر العصور هي عقدة (التفوق) ، فهم جنس فوق كل الاجناس ، ولهذا الجنس من الحقوق ما ليس لغيره ، بل ان هذا الجنس (مفوض من الله) بحكم الارض ومن عليها وقد منحه الله (العبقرية) للاضطلاع بهذه المهمة وكان هذا هو السر في قلة يهود العالم ، وعزلتهم داخل المجتمعات التي عاشوا فيها ، وانغلاقهم على انفسهم على مر التاريخ داخل (قرى) و (حصون) و (احياء في مدن تدعى الغيتوات) وحرصهم على الاحتفاظ بلغة خاصة وطقوس خاصة ، وعادات خاصة ، جميعها متوارث يربى عليها الابناء تربية صارمة متزمتة فلا يخرج عليها سوى افراد قلائل لظروف واسباب شتى ، ليست بعيدة عن مصالحهم الخاصة ، داخل المجتمعات الغريبة التي نشأوا فيها .

لهذا السبب بقي عدد اليهود في العالم قليلا” ، لايزيد على (16) مليون نسمة في حين يزيد عدد المسلمين في العالم على المليار ويفوق هذا العدد عند المسيحين . ولم يكن انتشارهم في العالم من اجل نشر ديانتهم بين البشر ، بل نتيجة محن وكوارث المت بهم بسبب تعصبهم وانغلاقهم ، فاليهودية اذن ، ديانة بدأت بقلة (قبيلة) وانحصرت فيها ، ولم يحاول اصحاب هذه الديانة كسب احد من خارجهم الى ديانتهم لكي ينمو عدد الذين يدينون بها ، بل ظلوا مغلقين منعزلين مكتفين بانفسهم وبمن يولد من ارحام امهاتهم . وحينما ظهر في صفوفهم دين جديد يبشر الناس بالمحبة والسلام (المسيحية) اعلنوا عليه حربا شعواء وقتلوا المبشر به (المسيح عليه السلام) او هكذا شبه لهم . فظلوا اقلية بعد انتشار هذا الدين ، مثلما كانوا اقلية قبل ظهوره وشبيه بهذا موقفهم من الاسلام ورسوله الكريم . ولهذا ايضا” ولاسباب تاريخية اخرى دون شك ، حكمت هذه الاقلية اليهودية (عقدة الاقلية المتزمتة) بل المفرطة في تزمتها سواء في عقائدها الخاصة ام في نظرتها الى العالم الخارجي المحيط بها ، ام في اسلوب تعاملها مع هذا العالم ، فهي تنظر الى الاخرين (غير اليهود) نظرة يمتزج فيها الشك بالحسد ، والتعصب بالكراهية ، والمسكنة بالمكر ، وليس فيها اي قدر من التسامح ولا فيها اية نفحة من القاعدة الاسلامية التي نص عليها القران الكريم (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) . وقد عبرت اسفار العهد القديم عن هذه المشاعر افصح تعبير ، لذلك تعذر على اليهود التعايش مع الاقوام المحيطة بهم التي حلت قبلهم في فلسطين واطرافها . ولم يندمجوا بالشعوب حينما انتشروا في الارض ، بل ظلوا مغلقين منعزلين ، ونظموا صفوفهم على هذا الاساس وكانوا يسعون دائما” ، وهم قلة ، الى الفوز بحصة اكبر ، ودور اكبر ، من حصة القلة ودورها ، وكانت النتيجة ان رفضتهم هذه الاقوام والشعوب مثلما رفضوها ، وبادلتهم ريبة بريبة وكراهية بكراهية .

بل لقد ترتبت على ذلك نتيجة اكثر خطورة هي انهم وجدوا انفسهم لايستطيعون العيش بين الشعوب من دون التشبث بعزلتهم الخاصة ، وبعقدة التفوق المتأصلة في نفوسهم ، وبما خالط هذه العقدة من مشاعر الشك والحسد والكراهية والمكر ، واتخاذ هذا كله سلاحا” ، لا لحماية انفسهم فحسب ، بل لاستغلال الاخرين والسيطرة عليهم والتحكم بهم ، وربما كان هذا هو السر في انهم اتجهوا الى عالم (المال) منذ اقدم العصور ، فالمال هو عصب الاقتصاد ، والاقتصاد هو عصب مهم للحياة ، والتحكم به هو التحكم بها ، وكانت النتيجة انهم كلفوا انفسهم بمهمات هي ، من الوجهة العلمية ، اكبر بكثير من قدراتهم ، مهام جعلت منهمم اعداء للبشرية كلها ، ارادوا ذلك ام لم يريدوه فلم يحصدوا من ذلك الا مزيدا” من كراهية الشعوب واحتقارها ولم تتقبل البشرية منهم الا من تخلص بقدر او باخر ، من هذه العقد والمشاعر ، وسعى الى الاندماج في قليل او كثير .

هذه هي اذن جذور الصهيونية وينابيعها الفكرية الاولى ، ومن هذه الجذور استمدت الصهيونية نظرتها الى العالم واسلوبها ووسائلها في التعامل معه ، ولعل الوثائق المعروفة بأسم (بروتوكولات حكام صهيون) خير ما يعبر عن نظرتها تلك واسلوبها .

بروتوكولات حكام صهيون :

يستخدم هذا الاسم (بروتوكولات حكام صهيون) تعبيرا عن وثائق تتالف من (24) فصلا تحتوي خلاصة التفكير الصهيوني ونظرته الى العالم واسلوبه في التعامل معه ، وقد وضعت هذه الفصول من اجل ان تكون دليلا” مرشدا” للحركة الصهيونية في سعيها للسيطرة على العالم وفرض حكومة صهيونية عالمية على مقدراته . وقد عثر على هذه البروتوكولات اثناء مداهمة قام بها نفر من رجال الشرطة القيصرية الروسية للمؤتمر الصهيوني الاول الذي عقد في مدينة (بازل) في سويسرا عام 1897 كما سبق ان ذكرنا .

ان من يقرأ هذه البروتوكولات يجد انها تتكون من منطلقات فكرية عامة وستراتيجية ، ومن مناهج واساليب ومخططات لوضع هذه المنطلقات موضع التنفيذ .

فمن المنطلقات الاساسية في هذه البروتوكولات ان (الحق للقوة) و (الحرية فكرة مجردة) و (حقوق الشعب اسطورة) و (السلطة المطلقة في مملكتنا تنسجم مع حقيقة شعبنا المختار) و (الدهماء عمياء) و (سلطة رأس المال هي الاقوى) و (بلا سلطة مطلقة لا حياة للحضارة) و (الشعوب حيوانات تتعارك لتشرب الدماء) و (مدار السياسة غير مدار الاخلاق) و (الغاية تبرر الواسطة) و (الذهب هو من الدول كالمحرك من الاجهزة الالية) .

ومن المنطلقات الستراتيجية ومناهج العمل واساليبه (انشاء حكومة عالمية مركزية ضخمة) و (القبض على ازمة السلطة بواسطة الماسونية) و (تحويل الدهماء عن التمسك بالاعتزاز القومي) و (نسف الدين كله) والمقصود هنا الاديان الاخرى غير اليهودية و (مواجهة الامم بزرع الفتن وتعميق جذور النزاع فيما بينها) و (مد المكائد الخفية الى جميع الاوساط الحاكمة) و (تحريك قوى المعارضة) و (خلق الفوضى وزرع الشقاق) و (اشعال الحروب واخمادها) و (تفكيك رابطة الاسرة) بين غير اليهود و (استعمال الحقوق القانونية للتضليل) وهذه كلها نصوص مقتبسة من البروتوكولات نفسها .

ومن المخططات التي جاءت بها البروتوكولات : السيطرة على الصحافة ودور الطباعة والنشر والاذاعة ، والسيطرة على التعليم وتغيير مناهجه وتحويل الحروب من الصعد الاخرى ، السياسية والفكرية وغيرها ، الى الصعيد الاقتصادي ، وتشجيع سباق التسلح ، وتأجيج الصراعات بين الدول وايصال العالم الى التخبط والفوضى ، وخلق ازمات اقتصادية عالمية ، والهيمنة على الصناعة والتجارة واسواق المضاربات المالية ، وجعل دراسة الاقتصاد اهم مطلب لليهود … الخ .

هذه هي بوجه عام اهم المنطلقات المبدئية  والستراتيجية والمخططات التي جاءت بها بروتوكولات حكماء صهيون . وقد اوجزناها هنا في نقاط لاعطاء فكرة عامة عنها .

والواقع ان الحركة الصهيونية حاولت ان تتنصل من هذه البروتوكولات وادعت انها من صنع الشرطة القيصرية ، ولكن الحقائق التاريخية تدل على غير ذلك . فلهذه البروتوكولات اصل تاريخي ثابت ، وهي غير بعيدة عن نظرة اليهود الى العالم كما جاءت في العقائد اليهودية التي سبق ان تطرقنا اليها ، وسواء صحت نسبة هذه البرتوكولات الى الحركة الصهيونية بهذه الدرجة ام تلك ، فانها تشكل المنبع الاساسي الثاني للفكر الصهيوني ، بعد الديانة اليهودية .

وتكفي نظرة واحدة الى مناهج عمل الحركة الصهيونية وتنظيمها العالمي وقرارات مؤتمراتها السرية والعلنية ، والى اساليبها والنتائج التي حققتها منذ ان ولدت حتى اليوم ، لنرى مدى التطابق بينها وبين المناهج والاساليب التي دعت اليها البرتوكولات ، لاسيما في مجال التغلغل في اوساط الحكومات والسيطرة على اسواق المال والتجارة والمؤسسات التي تتحكم بتوجيه الراي العام ، ومنها المؤسسات الاعلامية والمنظمات والاحزاب السياسية .

ولكن من اهم ما يلاحظ من خلال البروتوكولات ان الحركة الصهيونية قد حددت لنفسها اهدافا وكلفت نفسها بمهمات تفوق قدراتها الذاتية بكثير ، بل هي تفوق قدرات كل يهود العالم ولا تتناسب مع عددهم القليل بالقياس على سكان الارض ، ويبدو ان رواد الحركة الصهيونية ادركوا هذه الحقيقة منذ البداية ، فاستعاضوا ، ولو في المدى المنظور ، عن طموح انشاء “حكومة صهيونية عالمية” بفكرة “انشاء وطن قومي لليهود” وعملوا بدأب وخبث على استخدام امكانيات الدول والشعوب التي يقيمون بين ظهرانيها وتسخيرها لتحقيق هذا الهدف وغيره من الاهداف وذلك عن طريق تنظيمهم غير المعلن الذي يعدون لاغراضه كل يهودي ويهودية مجندا” فيه ولاهدافه .

النشاط الصهيوني واتجاهاته …

ينبغي القول ان الحركة الصهيونية عملت منذ ولادتها بروح قومية مندفعة يغذيها ايمان ديني بان اليهود شعب الله المختار ، وان هذا الشعب شعب عبقري مضطهد ، وانه ينبغي ان يتوقف اضطهاده عند حد ، ومن هنا عمل الصهاينة بطريقة منظمة ، محكمة التنظيم ، وطويلة النفس ، وبخطوط واتجاهات تلتقي عند الهدف في النهاية ، على التغلغل في الاسواق المالية والتجارية ، واختراق الاحزاب السياسبة لاسيما الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والليبرالية ، والمؤسسات الصحفية والثقافية وانشاء المنظمات والشبكات السرية والعلنية وحبك المؤامرات واستغلال الظروف والمناسبات ، عمل الصهاينة كل ذلك ، لكسب العطف على اليهود وخلق قناعات جديدة بشانهم في اوساط الحكومات والشعوب ، مستفيدين في ذلك من الافكار المتنورة التي انتشرت في اوساط اوربية واسعة . ومستخدمين شتى وسائل التاثير والاقناع والضغط والابتزازعلى مستوى الافراد والجماعات ، وكانت لهم في ذلك مراكز عديدة اهمها خمسة مراكز اساسية في كل من : روسيا والمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا.

ان قضية مثل القضية المعروفة بـ (قضية درايفوس) وقضية اخرى مثل (انا فرانك) ناهيك عن قضية (بابي يار) وما يقال عن المجازر التي ارتكبت بحق اليهود خلال الحرب العمالية الثانية والتي تجمل عادة باسم (الهولوكست) اي (المحرقة) … ان هذه القضايا تكشف بوضوح عن الاساليب الدعائية المضللة التي استخدمها الصهاينة من اجل كسب العطف على اليهود ومطامعهم منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى اليوم ، كما تكشف رسائل (بن غوريون) المرسلة الى زوجته وابنته من لندن حيث استقر في عشرينينات هذا القرن ، كيف عمل على كسب بعض العناصر ، وتحييد عناصر اخرى معادية للحركة الصهيونية ولها علاقات مع العرب او متعاطفة معهم .

واية نظرة الى تاريخ النشاط الصهيوني في اوربا منذ نشوء الحركة الصهيونية حتى اليوم ، تكشف لنا ان هذا النشاط قد اتجه الى جميع مراكز التاثير ، ومضى في اتجاهين متكاملين ، فتغلغل في اوساط النخب الاجتماعية المثقفة وفي اوساط الاحزاب والمنظمات السياسية من جانب وامتد الى الحكومات ومراكزها المتقدمة من جانب اخر. واذا كان المثقفون اليهود قد اتجهوا الى العمل في الحركة الماسونية حاضنة الاحزاب الليبرالية وظهيرها من جهة اخرى ، واحرزوا في جميع هذه الاحزاب مراكز قيادية ولعبوا ادوارا” خطيرة في تاريخها وتاريخ تنظيماتها الاممية ، نقول : اذا كان المثقفون اليهود قد فعلوا ذلك ، فان الصيارفة اليهود (ونموذجهم الملموس ال روتشيلد) قد عملوا في اتجاه مكمل لهذا الاتجاه فاتجهوا الى العمل في الاوساط الحكومية ، وفي الوقت الذي كان فيه المثقفون اليهود يروجون من خلال الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والليبرالية لحق اليهود في اقامة دولة مستقلة لهم ، ويضفون على هذا المشروع طابعا” تقدميا وديمقراطيا” زائفا” ، كان الصيارفة اليهود يتغلغلون في اوساط الحكومات ، ويقدمون لها تسهيلات مالية في اوقات الحاجة ، ويؤثرون على سياساتها واتجاهاتها بما يخدم اهداف الحركة الصهيونية ، وهكذا كسبوا عطف اليمين الليبرالي ، وحظوا في نهاية المطاف بعطف المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ، فحصلوا من (بريطانيا) على (وعد بلفور) بانشاء دولة مستقلة في فلسطين ، ونالوا من (الاتحاد السوفيتي) اول اعتراف بهذه الدولة عام 1948 وذلل لهم المعسكران صعوبات الهجرة الى فلسطين .

الصهيونية حليفة للاستعمار وشريكته في الغنيمة :

وعلى الرغم من ان الحكومات الاوربية ، والكثير من الاوساط السياسية والاقتصادية والاعلامية والطبقة البرجوازية بالذات ، فضلا” عن كثير من الاوساط الشعبية ، لاسيما الاوساط الكاثوليكية والارثوذكسية لم تكن تنظر الى النشاط الصهيوني بعين الارتياح في حينه ، وجدت في فكرة ان انشاء (وطن قومي لليهود) وهجرة اليهود الى هذا الوطن فرصة للتخلص منهم ومن مؤامراتهم ومناوراتهم ودورهم السياسي والاقتصادي ، كما وجدت فيهم اداة ملائمة لتحقيق اطماعها الاستعمارية في ما وراء البحار .

في كتابه (نحو دولة يهودية) اوصى هرتزل اليهود بالتقرب من الدول القوية الاساسية ، ووضع انفسهم في خدمة أقواها ، والتحالف معها من اجل الوصول الى اهدافهم ، ولما كانت بريطانيا يؤمئذ اكبر الدول الاستعمارية واقواها ولما كان مركز الحركة الصهيونية في بريطانيا اكبر المراكز واوسعها نفوذا ، فقد وضعت الصهيونية نفسها في خدمة الاستعمار البريطاني ، واستخدم الاستعمار البريطاني الصهيونية اداة لتحقيق اهدافه واطماعه المتزايدة ، وكان من ابرز الخدمات التي قدمها اليهود لبريطانيا وحلفائها تخريب الاقتصاد الالماني اثناء الحرب العالمية الاولى ، بل ان الصهيونية وجدت لها في بريطانيا مرتعا خصبا وحققت لنفسها فيها مراكز متقدمة اكثر مما حققته في غيرها حتى غدت جزءا” من السلطة الحاكمة ، فوصل اليهودي (دزرائيلي) الى منصب (رئيس الوزراء) ووصل اليهودي (هربرت صموئيل) الى درجة (وزير) وعين اول (مندوب سام) لبريطانيا في فلسطين وكان عين الحركة الصهيونية واداتها داخل الحكومة البريطانية . وهو اول من مهد الاوضاع لتهويد فلسطين ، والى جانب ذلك غدا المتمولون اليهود (ممثلين بآل روتشيلد في الاقل) جزءا” فعالا” من الرأسمالية البريطانية وطموحاتها الاستعمارية ، وكانت بريطانيا مركز نشاط (هرتزل) عميد الحركة الصهيونية في اوائل القرن العشرين ، وقد اسس فيها شركة مالية صهيونية كبرى .

ومع ان هناك اكثر من منطقة كانت مقترحة لاقامة الكيان الصهيوني (اوغندا ، قبرص ، الارجنتين ، فلسطين) وقع الاختيار والالحاح على فلسطين لاكثر من سبب منها ، الادعاء الديني والتاريخي بالنسبة للصهاينة والسبب السياسي الستراتيجي بالنسبة للاستعمار البريطاني ، ففي حين سعت الصهيونية الى تجميع يهود العالم في ارض الميعاد (فلسطين) وتحقيق الحلم اليهودي التاريخي ، كانت الامبراطورية البريطانية قد اعدت نفسها منذ ثلاثة قرون في الاقل لوراثة الدولة العثمانية والسيطرة على المشرق العربي وثرواته الطائلة وسوقه الواسعة .

وهكذا تحالف الطرفان في نهاية المطاف ، وهكذا حصل الصهاينة من بريطانيا على (وعد بلفور) وتآمروا معها على العرب لتحويل هذا الوعد الى واقع ملموس هو ما يسمى اليوم بـ (دولة اسرائيل) .

لقد كان الاستعمار البريطاني يريد تجزئة الامة العربية الى دويلات يتقاسمها مع الاستعمار الفرنسي بدلا من تلبية مطلب العرب في اقامة دولة عربية موحدة في المشرق العربي (وهذا ما ظهر جليا في معاهدة سايكس – بيكو) وكانت به حاجة الى اداة موضعية تتحرك بدافع قوي لتحقيق هذا الهدف . ولم يكن ثمة اداة بهذه المواصفات افضل من الحركة الصهيونية .

ولكن ينبغي القول هنا ان الصهاينة لم يتحالفوا مع بريطانيا الاستعمارية ويقطعوا خطوطهم مع الحكومات الاوربية الاخرى ، لاسيما الحكومة الفرنسية بل ابقوا هذه الخطوط مفتوحة واستفادوا منها في جميع الظروف . وقد مكنتهم هذه الخطوط المفتوحة من الحصول على تسهيلات لتهجير اليهود الى فلسطين ، وعلى الاعتراف بكيانهم الذي اقاموه على ارضها ، فضلا عن السلاح الذي حاربوا به العرب واخيرا مكنتهم من اعادة ترتيب اولويات تحالفاتهم مع الدول الاستعمارية في الوقت المناسب .

فما ان ضعف النفوذ البريطاني في المشرق العربي ، حتى التفت الصهاينة الى فرنسا ووثقوا علاقاتهم بها وجعلوا منها مصدرهم الاول في الحصول على الاسلحة المتطورة . وما ان تجلت الاطماع الامريكية في الوطن العربي . وباشرت الولايات المتحدة مساعيها الحثيثة لوراثة الاستعمارين البريطاني والفرنسي فيه ، حتى جعل منها الصهاينة الحليف الاول في قائمة تحالفاتهم  ..

اذن فالصهيونية لم تعتمد على امكانياتها الذاتية فقط في تحقيق اهدافها الخاصة بل اعتمدت ايضا على تحالفاتها مع الدول الاستعمارية ، وقد بادلت هذه الدول مصلحة بمصلحة . فوضعت نفسها اليوم من خلال الكيان الغاصب الذي اقامته على ارض فلسطين ، ولاغرابة في ذلك فقد نشأت الحركة الصهيونية في رحم الظاهرة الاستعمارية وكانت لها اهداف قريبة من اهدافها . فكلا الظاهرتين تقومان على قهر الغير واغتصاب حقوقه ، فكان طبيعيا” ان يحصل هذا التحالف بين الطرفين وان يكون لكل طرف منهما اهدافه الخاصة منه ، وكان طبيعيا” ايضا” ان يستمر هذا التحالف حتى اليوم ، وان يتغير وجه الحليف الاول في قائمة التحالفات . والكيان الصهيوني الذي كان اداة العدوان البريطاني – الفرنسي على مصر 1956 ، هو اليوم القاعدة الاولى للامبريالية الامريكية في الوطن العربي واداتها في تنفيذ خططها السياسية والاقتصادية ، وقد ظهر هذا بجلاء في العدوان الثلاثيني على العراق .

وينبغي ان لايفوتنا هنا ان نذكر ان الحركة الصهيونية نجحت بعد الحرب العالمية الثانية نجاحا” ملموسا” في الخروج باليهود (الغيتو) التقليدي والتغلغل في النسيج الاجتماعي في اوربا وامريكا ، وافلحت في انجاز عملية غسل دماغ كبرى ، لاسيما في الاوساط الانكلوسكسونية والولايات المتحدة ، وفي اوساط الكنيسة البروتستانتية بوجه عام ، وحققت مكاسب كبيرة لليهود على مستوى علمانية التعليم ، واستصدار قوانين ضد معاداة السامية (اي ضد معاداة اليهود) مما اتاح لهم العمل بمزيد من الحرية حتى صار شعار (معاداة السامية) اي (معاداة اليهود) سلاحا فعالا لهم يشهرونه في وجه كل من لايتجاوب معهم من الساسة والمفكرين والمثقفين وغيرهم كما حدث مؤخرا للمفكر الفرنسي (روجيه غارودي) وهذا مما يزيد في صعوبات المواجهة مع الحركة الصهيونية ويجعلها اكثر تعقيدا ويدفع بالكثير من المتعاطفين مع العرب الى التردد والاحجام والصمت ، ان لن نقل الانحياز للصهيونية لاتقاء شرورها والانتفاع منها

كيف نواجه الصهيونية

قد يبدو هذا السؤال لبعضنا متأخرا” ، ولكنه ليس كذلك في الواقع ، فما دامت الصهيونية حركة قائمة ومادامت المواجهة بينها وبين العرب ماتزال مفتوحة ، فانه يظل سؤال اليوم وكل يوم حتى يتم للعرب النصر .

وقد قلنا في البداية ان مواجهة الصهيونية مواجهة صحيحة وفعالة وطويلة النفس يجب ان تبدأ بفهم الحركة الصهيونية وذلك بالتعرف على جذورها ومنابعها الفكرية الاولى ، وتاريخها واساليب عملها واتجاهات نشاطاتها ، والكيفية التي عملت بها من اجل اغتصاب فلسطين وتحقيق اطماعها في الوطن العربي .

غير ان هذا وحده لايكفي للمواجهة بل لابد من متابعة النشاط الصهيوني متابعة مستمرة ، والتعرف على اتجاهاته واهدافه واساليبه ووسائله الجديدة في كل مرحلة من مراحل الصراع ، لكي لانتخلف عنه ولايفوتنا شيء من متغيراته ومستجداته .

المبالغة في قوة الصهيونية والكيان الصهيوني خطأ جسيم :

ولكن علينا ونحن نتعرف على الحركة الصهيونية واهدافها ومخططاتها واساليبها ان نعطيها حجمها الحقيقي من غير زيادة او نقصان ، ومن دون مبالغة او استخفاف . ذلك ان من الاخطاء الجسيمة المضرة بالنضال ، والمثبطة للهمم ، في مواجهة الحركة الصهيونية ان نبالغ في حجمها ونهول في وصف قدراتها ونغفل عن مواطن ضعفها القاتلة .

فكثيرا ما صور اليهود بانهم (شعب من العباقرة) قادر على ان يفعل المستحيلات . وكثيرا ما صورت الصهيونية العالمية وظهيرها الحركة الماسونية وكأنها اخطبوط كلي المعرفة وكلي القدرة يمد اذرعه الى كل مكان ويستطيع ان يحقق كل مايريد ويقهر كل من يريد ، وقد عملت الصهيونية نفسها على نشر هذا التصور والايحاء به الى الاخرين ، وكأنه حقيقة ثابتة ، وقد لايقهر ، وكان هدفها من ذلك تاكيد مقولة (شعب الله المختار) العنصرية من جهة ، وارهاب الخصم وتحطيم ارادته وتجريده من عناصر القوة في معنوياته من جهة اخرى ، وقد سقط في هذا الخطأ كثيرون من العرب وغير العرب ، ومن الساسة وغير الساسة ، ومنهم بعض الحكام العرب الضعفاء ، وبعض الكتاب والمؤرخين والمثقفين المستلبين ، ارادوا ذلك ام لم يريدوه ، وراحوا يسوغون به ضعفهم وتخاذلهم ، ويضفون على الحركة الصهيونية قدرا اسطورية ، ويصور منها وكأنها حاكم مطلق يحكم العالم ويسير اموره كلها من وراء ستار ويصورون الكيان الصهيوني وكأنه قوة لاتقهر ، وقدر مقدر على العرب لاسبيل الى الخلاص منه .

وبقدر مايتسم به هذا التصور من سطحية ، ولا علمية ، ولا منطقية ، فانه يتعارض تعارضا” كليا” مع حقائق الواقع ، فالعبقرية ليست حكرا على اليهود وحدهم ، بل سمة انسانية تشترك فيها كل الشعوب ، مهما كان انتماؤها العرقي او الديني ، واي تصور خلاف ذلك هو تصور عنصري مقيت ، وصهيوني – نازي ، يخالف العلم ، والمنطق ، وحقائق التاريخ ، ووقائعه القريبة والبعيدة .

فلقد قدمت كل الشعوب عبقرياتها الخاصة للعالم ، ومنها الامة  أأالعربية ، في الماضي وفي الحاضر ، فتاريخ الحضارة العربية زاخر بالعبقريات ، وواقع الامة العربية يزخر بعبقريات اخرى في جميع الحقول والميادين .

ومهما بلغت قوة الحركة الصهيونية ، ومهما بلغ تغلغلها بين الحكومات ، ونفوذها في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاعلامية وغيرها ، فانها ذات قدرة محدودة في نهاية المطاف ، وهي مكروهة حتى لدى من يسمحون لها بالتغلغل ولدى من تستخدمهم ويستخدمونها ، وان القدرات التي تستخدمها او تحركها هي ليست قدراتها الذاتية وحدها بل قدرات الحكومات والشعوب الاخرى .

فيهود العالم ليسوا سوى اقلية ضئيلة بين شعوب العالم ، والحركة الصهيونية التي تعتمد عليهم ، بالدرجة الاولى ، تستمد قدراتها المحدودة من قدراتهم التي لاتساوي شيئا” بالقياس الى قدرات الشعوب الاخرى وامكانياتها ، ومنها قدرات العرب المادية والبشرية ، واذا كان ثمة شيء تتميز به الحركة الصهيونية فهو قوة تنظيمها وتماسكه ودقته ومثابرته ، وهذا امر يمكن ان يحققه اي شعب من الشعوب ، ومنها الامة العربية .

لقد ارتكزت الحركة الصهيونية في الماضي على قدرات الدول الاستعمارية ، سواء في تأسيس الكيان الصهيوني ام في الدفاع عنه ، والمحافظة على وجوده ، وهي ما تزال تفعل ذلك حتى اليوم سياسيا” واقتصاديا” وعلميا” واعلاميا” ، وهذا ما لايمكن ان يستمر الى ما لانهاية ، ذلك ان تحالف الصهيونية وكيانها المصطنع في فلسطين مع الدول الاستعمارية ليس تحالفا” ابديا” ولايمكن ان يكون لابالنسبة لها ولكيانها ، ولا بالنسبة للدول الاستعمارية نفسها ، ان حقائق التاريخ القريب تؤكد لنا ان الصهيونية على استعداد تام لتغيير تحالفاتها واولويات هذه التحالفات بحسب الظروف ، وكذلك تفعل الدول الاستعمارية ، فهذه التحالفات تقوم على مصالح مشتركة بين الطرفين ، ومتى تغيرت ظروف هذه المصالح تغيرت التحالفات ، لقد كانت بريطانيا الحليف الاول للصهيونية ، ثم تراجع هذا التحالف حينما انحسر دور بريطانيا في الوطن العربي وفي العالم ، وظهر شريك ثالث هو فرنسا ، وتجلت هذه الشراكة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، ولكن لم يلبث هذا التحالف الثلاثي ان تراجع ، وتغير الموقف البريطاني نسبيا” ، وتغير الموقف الفرنسي بدرجة اكبر حتى صار اقرب للموضوعية ، في حين احتل طرف اخر موقع الحليف الاول في قائمة التحالفات الصهيونية هو الولايات المتحدة . اما الاتحاد السوفيتي الذي كان اول من اعترف بالكيان الصهيوني ، وكانت الدول الواقعة تحت نفوذه ، لاسيما جيكوسلوفاكيا ، مصدر تسليح الكيان الصهيوني الاول ، فسرعان ما تحول الى حليف للعرب ومصدر اساسي من مصادر تسليحهم في مواجهة الكيان الصهيوني .

اذن فالحركة الصهيونية التي استخدمت امكانيات الشعوب الاخرى لتحقيق اهدافها لايمكن ان تستخدم هذه الامكانيات الى الابد في عالم كثير بالمفاجات . وقد وعت حكومات كثيرة وشعوب كثيرة طفيلية الحركة الصهيونية واستغلاليتها ، كما وعتها اوساط كثيرة في داخل الدول الاستعمارية نفسها ، وصارت تتضايق منها ، ولابد من ان يأتي اليوم الذي يتضاءل فيه نفوذ الحركة الصهيونية الى الدرجات الدنيا امام وعي الشعوب المتزايد مهما بعد هذا اليوم .

تشخيص نقاط الضعف في الصهيونية وكيانها الغاصب :

وبدلا” من تهويل حجم الصهيونية ، والكيان الصهيوني وقوته ، علينا ان نتعرف على نقاط ضعفها ، ونطرق عليها حتى نبلغ منها المقتل …

ان اولى نقاط الضعف والخلل في الصهيونية تكمن في الفكر الصهيوني العنصري ، الفكر الذي يستند الى نظرية (شعب الله المختار) ويعد الشعوب الاخرى ، كما فعلت النازية ، مجرد (همج) او (حيوانات) كما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون ، فهذه النظرية نظرية قلة متعصبة متزمتة في تعصبها ، تجعل من الصهيونية عدوة لكل الشعوب ، وليس للشعب العربي وحده ، لانها تقوم على احتقار جميع الشعوب وكراهيتها ، وهذه النظرية ، وهي نظرية قلة متعصبة كما قلنا ، لايمكن ان تتحول الى نظرية كثرة ، اذ لايمكن للشعوب ان تتقبلها ، او تتسامح معها ، او تسايرها على مدى الزمن .

ثم ان هذه القلة الصهيونية ذات مطامع واسعة وكبيرة تفوق استحقاقها كقلة ، وهي تسعى الى القيام بدور عالمي اكبر بكثير من امكانياتها الذاتية ، الامر الذي يؤدي بها باستمرار الى التجاوز على الاخرين ، والاستحواذ على ادوارهم ، ويدفع بها الى الوقوع في حبائل الاوهام وشراك المغامرات ، ويخلق ضدها ، باستمرار ، ردود فعل سلبية متجددة ، لاسيما انها تقوم على اساس استغلال امكانيات الاخرين واستخدامها لصالح المؤمنين بها ، اي لصالح الصهاينة انفسهم ، وهذا يعني ان الصهيونية تحمل بذرة موتها معها في كل حين.

وعلى الرغم من انها طورت خططها واساليبها ، ولم تعد تظهر من التعصب ما تبطنه في تعاملها مع الاخرين ، فانها لاتستطيع التخلي عنه ، ذلك لان التعصب قوام وجودها بوصفها قلة منغلقة على ذاتها ، ولان الانغلاق يشكل درعها الحامي وخطها الدفاعي الاخير ، كما يشكل استغلال قدرات الاخرين وامكانياتهم اداتها ووسيلتها ، وهذا يعني ان الصهيونية لايمكن ان تكون قوة مستقبلية ، مهما جددت خططها واساليبها ، فالتجديد هنا شكلي وسطحي ، تجديد في المظهر لا في الجوهر ، تجديد في الاساليب والوسائل وليس تجديدا” في العقيدة ، فالعقيدة الصهيونية هي ضد التجديد منذ ان كانت ، وهي لاتجدد في اساليبها ووسائلها الا لتساير الظروف ، وتوفر مستلزمات بقائها وفاعليتها ، وهذا ما لا يقبله العالم منها ، ويجعلها عرضة للاصطدام بغيرها ، ويؤول بها الى الضعف والموت في نهاية المطاف .

ان حقيقة الصهيونية هذه ليست بغائبة عن هذا العالم ، فقد سبق للامم المتحدة ان ادانت الصهيونية بوصفها حركة عنصرية ، ولم تتراجع الامم المتحدة عن هذه الادانة الا في ظروف استثنائية لعبت فيها السياسات الاستسلامية التي تبنتها بعض الانظمة العربية ، بالاضافة الى الضغوط الامريكية ، دورا” اساسيا” في هذا التراجع .

اما الكيان الصهيوني فقوته الظاهرة لاتكمن في ذاته ، اي في قدراته الخاصة فحسب ، بل في ما يحصل عليه من حماية خارجية من الدول الامبريالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة ، ومتى مازالت هذه الحماية ، او ضعفت فانه لايعود قادرا على حماية نفسه في اية معركة جدية يحشد لها العرب قواهم ويصدقون فيها مع انفسهم ومع اهدافهم القومية ، وقد اثبتت (ام المعارك) ان الكيان الصهيوني كيان هش ، وان نظريته الامنية هشة هي الاخرى ، وان العرب ليسوا قادرين على خلق توازن ستراتيجي معه فحسب ، بل هم قادرون ايضا” على التفوق عليه وقهره ، فهو لايتحمل اية ضربة جدية يوجهونها الى عمقه الجغرافي الهزيل كما فعلت صواريخ الحسين التي اطلقها العراق اثناء الصفحة العسكرية لام المعارك ، ومتى ما عقد العرب النية ، ووجهوا الى هذا العمق مثل هذه الضربة او اكبر منها ، فانه سرعان ما سيتداعى وينهار .

وخلاصة القول ان الكيان الصهيوني ليس بالقوة التي لاتقهر كما يوحى للعرب ، او كما يتوهم الحكام العرب الضعفاء والساسة الاستسلاميون والمثقفون المستلبون ، بل هو قوة محدودة يمكن للعرب ان يعدوا لها عدتهم ، فيتفوقوا عليها ، ويغلبوها حتى لو اشتركت في ذلك بعض الاقطار العربية وليس كلها .

ولكن المهم والاساسي في استغلال نقاط ضعف الصهيونية هو العمل الستراتيجي الجاد والدؤوب ، العمل المخطط البعيد المدى والطويل النفس ، وبأفق علمي يفهم حقائق الاوضاع الراهنة واتجاهاتها فهما” عميقا” ، ويتجه الى المستقبل البعيد بيقظة وتفتح ، ويبتعد عن الاوهام والمغالطات بقدر ابتعاده عن التطير واليأس والاستسلام .

تشخيص مواطن القوة في الامة العربية :

وفي مقابل تشخيص نقاط الضعف في الحركة الصهيونية وكيانها الغاصب ، يتوجب علينا ان نشخص مواطن القوة في الامة العربية ، المادية منها والبشرية ، ونعمل على تنميتها وتنظيمها واستثمارها في المكان المناسب والوقت المناسب ، واول مواطن القوة في الامة العربية ، انها امة عريقة ، وذات حضارة عريقة متجددة ، وهي بعكس الصهيونية ، ذات رسالة انسانية متفتحة ، فلم تنغلق على نفسها ، وما تعالت على غيرها من الامم ، لذلك استطاعت ان تحافظ على بقائها وهويتها الحضارية ، وتعمل على تجديد رسالتها ، وتتقدم الى نفسها والى العالم من حولها بمشروع حضاري انساني متفتح ، على الرغم مما مر بها من محن وكوارث وعصور تخلف ونكوص .ولهذا نجد الصهيونية ، وحليفها الاستعمار ، يعملان على تمزيق كيانها ، وطمس هويتها ، وتعطيل دورها الرسالي ، ومنعها من تحقيق مشروعها الحضاري ، ومحاربة اية قيادة تاريخية تنهض بعبء تحقيقه ، او يكون لها دور جزئي ، او مرحلي في السعي اليه ، في حين تعمل على احتواء الحكام العرب الضعفاء ، وترويضهم ، واجتذابهم .

ولكن على الرغم من ذلك لم تنجح الصهيونية ، وكيانها الغاصب ، ولم ينجح معها حلفاؤها المستعمرون في تحقيق هذا الهدف .

صحيح انهم نجحوا في عرقلة مسيرة الامة نحو تحقيق اهدافها وبناء مشروعها الحضاري . وصحيح انهم تمكنوا من توجيه طعنات عميقة الغور الى جسد الامة ، ولعبوا ، وما زالوا يلعبون ، دورا” ملموسا في تمزيقها وتشتيت قواها وطمس هويتها ، الا ان الانهيارات في صفوف الامة ليست قاضية ، ولا كاملة ، وما زال الكثير من خطوطها الدفاعية قويا وسليما” ، والصهاينة وحلفاؤهم لم يحققوا سوى نجاحات جزئية مؤقتة في سبيلها الى الانحسار والتراجع اذا نظرنا اليها بمنظار تاريخي صاف وبصيرة غير
مشوشة .

فعلى الرغم مما قدموا من مشاريع التسوية والاستسلام والتطبيع ، ومنها مشروع الشرق الاوسط الجديد ، لم يفلحوا في قتل روح المقاومة في الامة ، ولا قتل طاقاتها الحيوية المتجددة ، فالذين استجابوا لهذه المشاريع وتقبلوها ، مختارين او طائعين ، هم الحكام الضعفاء ، الحكام المعزولون عن الشعب ، الحكام الذين يعيشون عقدة القلة ويتعاملون مع الشعب بعقلية القلة ويعرفون انهم يملكون ما لايستحقون ، ويحكمون بغير فرصتهم المشروعة ، ويعتمدون في بقائهم في السلطة على مسايرة اعداء الامة والانحناء امام العواصف والاستسلام لها وليس التصدي لها ومقاومتها .

ان هؤلاء الحكام ، ومعهم بعض الساسة والمثقفين المستلبين ، اصبحوا لايرون في الافق سوى السواد ، سوى الصورة المظلمة للواقع من حولهم ، ولايجدون اي بصيص من النور ، او اية بارقة للامل ، فيقفون يائسين مشلولين ، او يندفعون في ركب الاستسلام ويصبحون اكثر دعاته حماسة ، وكأنهم لايجدون اية جدوى في المقاومة والعمل من اجل مواجهة الصهيونية وكيانها الغاصب .

ونحن لانريد هنا ان نرسم لواقع الامة  الراهن والظروف الحالكة المحيطة به . صورة مزوقة كاذبة ، او نتشبث بآمال واهية واوهام متلاشية ، ولكننا نبحث عن الجذوة التي يحاول الواقع الراهن ان يدفنها تحت رماده ، ونرى الضوء الذي تريد استار الظلام حجبه عنا ، وحسبنا في ذلك ، دافعا” ان نسأل انفسنا : اذا كان واقع الامة اليوم على ما هو عليه من انهيارات ، فهل ينبغي لنا ان نيأس ونستسلم ونتنازل عن حقوقنا المغتصبة ونغامر بمستقبلنا وبمستقبل اجيالنا القادمة وندفن تاريخا طويلا من النضال والتضحيات ؟ ! أينبغي لنا ان نفعل ذلك ، ام ينبغي لنا ان نراجع انفسنا ونعيد النظر في حساباتنا ونستنهض قوى الامة ونحشدها في طريق المواجهة ؟! .

ان الجواب على هذا السؤال واضح ، والواقع يشير الى ان الامة ماتزال بخير ، ماتزال ترفض مشاريع التسوية والاستسلام والتطبيع ، وتقاوم مشروع الشرق الاوسط الجديد ، وتدين الحكام المستسلمين ، ولاتترك لهم فرصة للدعة والاستقرار والاطمئنان الى ما سيأتي به الغد من احداث ومفاجآت .

ان الضوء في ظلام الواقع الراهن حقيقة واقعة ملموسة ، وليست وهما من اوهام الحالمين الرومانسيين ، انه موجود في كل مركز من مراكز الرفض والمقاومة ، سواء اكان هذا المركز قطرا” ناهضا” كعراق ام المعارك ، ام كان مقاومة مسلحة داخل فلسطين المحتلة ، ام معارضة جدية سليمة او عنيفة في هذا القطر او ذاك من الاقطار العربية . وهو بعد ذلك وقبله ، موجود في هذا الشعور العميق بالمرارة والالم والنقمة الذي يمور في صدور الجماهير العربية المقهورة .

وقد تعلمنا من تاريخنا القريب والبعيد ، ومن تاريخ العالم كله ، ان روح المقاومة في الامة وجذوة نهضتها في الظروف الحالكة ، قد لا تتجسد الا في حركة سياسية صغيرة في مكان ما من وطنها ، او في قطر ناهض او اكثر من اقطارها ، فتصبح هذه الحركة الصغيرة او هذا القطر الناهض ، نموذجا” يشد اليه الانظار وتلتقي عنده الامال ويغدو بفعل اشعاعه محركا لقوى النهضة في الامة كلها ، والامثلة على ذلك اكثر من ان تحصى .

وخلاصة القول : ان الامة العربية ليست لقمة صغيرة سائغة يسهل للصهيونية وكيانها الغاصب ابتلاعها ، او ترويضها وقتل روح المقاومة فيها ، انها كثافة بشرية ضخمة بالقياس الى عدد اليهود في العالم ، وبالقياس الى عدد اليهود داخل الكيان الصهيوني ، وتتوفر لهذه الامة اعداد كبيرة من العلماء والتقنيين والمختصين في مختلف الحقول لاتتوفر للكيان الصهيوني بعددها ، وتعيش هذه الامة في رقعة جغرافية واسعة مترامية الاطراف تمنحها عمقا ستراتيجيا هائلا” لايمتلكه الكيان الصهيوني في الشريط الجغرافي الضيق الصغير الذي يتربع عليه ، وفي باطن ارض الامة ثروات هائلة ومتنوعة لايمتلك الكيان الصهيوني عشر معشارها ، وكل ذلك عناصر قوة للامة مضافة الى ما اشرنا اليه من عناصر قوتها الروحية والاخلاقية ، وهي بمجموعها تجعل منها محيطا” عربيا” زاخرا” يستحيل على الكيان الصهيوني ابتلاعه ، او ترويضه ، ومتى خيل اليه ، انه افلح في ذلك ، او حقق بعض النجاح ، او خطأ بعض الخطوات ، جاءت الاحداث والمفاجآت لتثبت ان ذلك مجرد وهم .

أم المعارك برهان ساطع على أقتدار الامة :

اجل ايها الرفاق : ان الامة العربية المجيدة مازالت قوية ومقتدرة ومعافاة ، على الرغم مما لحق بها من اذى ، وما قدمت من تضحيات جسيمة ، وعلى الرغم من كل ما نراه من مظاهر التداعي والانهيار في صفوف بعض من حسبوا عليها ، ولم ينهزم منها سوى حكامها الخاوين الضعفاء .

لقد اعطت ام المعارك برهانا ساطعا على اقتدار الامة حين تتوفر لها قيادة تاريخية امينة ، ومخلصة ، وشجاعة ، تربط مصيرها بمصيرها ، قيادة تؤمن بحق الامة في الانبعاث والتجدد وتحقيق مشروعها الحضاري الانساني ، من طراز القائد التاريخي الشجاع الرفيق المناضل صدام حسين .

فعلى الرغم من ان العراق جزء من الامة وليس كل الامة ، وعلى الرغم من ان امكانيات العراق المادية والبشرية جزء من امكانيات الامة وليست كل امكانياتها نقول ، على الرغم من ذلك ، برهن العراق على ان في الامة طاقات جبارة قادرة على ان تفعل المعجزات ، او ما يشبهها ، اذا ما توفرت لها قيادة مؤمنة ، وصادقة ، وامينة ، وشجاعة ، وعادلة ، حتى دون ان تمتلك صفات اسطورية ، او صفات خارقة ، او استثنائية ، مما قد يتوفر في بعض القيادات التاريخية .

لقد اراد الاستعمار والصهيونية في الصفحة العسكرية من ام المعارك تدمير العراق ، ليس بوصفه بلدا ناهضا” فحسب ، بل بوصفه معبرا عن نهضة الامة ، والمبشر بمشروعها الحضاري الانساني ، ارادا ان يدمرا فيه الرمز ، والنموذج ، والدور ، والرسالة ، فاستهدفا قواعد نهضته المادية والروحية ، والقيادة التاريخية التي تحمل لواء هذه النهضة ، ولكنهما فشلا في ذلك فشلا ذريعا” ، على الرغم مما الحقاه به من أذى وما كبداه من تضحيات ، وبقاء العراق بروحه الجهادية الوثابة ، وبقاء قيادته التاريخية وتمسكها بمبادئها ورسالتها القومية ، تعبير ملموس وشاخص عن هذا الفشل .

لقد كان اعداء الامة ، بمن فيهم حكامها الضعفاء والمرتبطون ، يتصورون ان العراق لن تقوم له قائمة ، فأزاء ما حشدوا ضده من قوة عسكرية هائلة ومتطورة ، وأزاء ما الحقوا ببنائه المادي من دمار كبير ، وأزاء ما فرضوا عليه من حصار شامل وطويل المدى ، توهم الاعداء انهم كتبوا بذلك نهايته ، نهاية الرمز والنموذج  والدور والرسالة والقيادة ، ولكنهم لم يحصدوا من ذلك سوى الفشل ، فقد بقي العراق ولم يمح من الخارطة ، وظل شعبه حيا ولم يمت ، وقيادته التاريخية استمرت متمسكة بالراية وبالمبادىء التي تمثلها ، وبالمشروع الذي ترمز اليه ، وخلق العراق بنفسه ، وبقواه الذاتية ، عناصر الدفاع والمقاومة والاستمرار ، فلم يقف باكيا على الاطلال ، ولم ينحن طالبا الصفح والغفران ، بل نهض ليعبر المرحلة ، فاعاد بناء مادمر باقتدار عال ، وقاوم جوع الحصار وآلامه ، وحافظ على وجوده وعلى استقلاله وارادته الصلبة وروحه الوثابة ، وظل يرعب الاعداء ، ويخزي الحكام الضعفاء المتخاذلين ، ويذكرهم في كل حين بضعفهم وهزال تفكيرهم وعدم ثقتهم بقدرة الامة وطاقاتها ، ويعطي من جانب اخر ، المثل للامة على عظمة الحق وصلابة الارادة ويذكرها بما لديها من طاقات جبارة ، وبعظمة ما يمكن ان تحققه هذه الطاقات حين تتوفر لها قيادة مؤمنة ، ومناضلة ، وشجاعة ، مثل قيادة البعث ومناضليه البواسل .

فاذا كان هذا ما يستطيع ان يفعله قطر واحد من اقطار الامة بقدراته وامكانياته الذاتية ، فكيف اذا حشدت للصراع والمواجهة امكانيات اكثرمن قطر واحد ، بل كيف اذا حشدت امكانيات الامة كلها ؟؟

ان الكيان الصهيوني بقدراته وامكانياته المادية والبشرية الذاتية ، يظل قوة صغيرة منغلقة بالقياس على الامة العربية وقدراتها وامكانياتها البشرية والمادية ، وتظل قدرات اربعة ملايين صهيوني يعولون على دعم خارجي غير مضمون الى النهاية ، دون قدرات مئتي مليون عربي يحملون مشروعا حضاريا متفتحا” ويبشرون برسالة انسانية ويعتمدون على قدراتهم الذاتية .

يدرك الكيان الصهيوني هذه الحقيقة جيدا” ، كما يدرك مكامن القوة في الامة العربية ، ويعرف ان امكانياته الذاتية لاتؤهله لابتلاع اي قطر عربي وهضمه وتمثله ، بما في ذلك اقطار صغيرة تجاوره مثل الاردن ولبنان . ولذلك تنصب خططه الاساسية (الستراتيجية) على تشتيت قوى الامة واضعافها ، ومحو هويتها الحضارية ، وتخريب كل عمل عربي مشترك عسكريا كان ام اقتصاديا” ام ثقافيا” ، واحياء نزعات التفرقة والانقسام في صفوف العرب ، وتجزئة اقطارها القائمة الى كيانات عرقية وطائفية هزيلة يسهل له التعايش معها وبسط نفوذه عليها واستغلالها ومحاربة كل قيادة مخلصة تظهر في اي قطر من
اقطارها ، لاسيما الاقطار التي تتميز بثقل تاريخي ووزن بشري ومادي كالعراق ومصر مثلا” .

ونحن ، ايضا” ، نعرف هذه الحقيقة ، ولكن المهم هو كيف تنظم الامة صفوفها ، وتستفيد من قدراتها ، وتحبط المخططات الصهيونية ، وتعد نفسها اعدادا” علميا” صحيحا” لخوض الصراع والدخول في المواجهة ، في المديين القصير والطويل ، وفي المقدمة منها طليعتها المناضلة حزب البعث العربي الاشتراكي .

خطوط عامة للمواجهة

ايها الرفاق الاعزاء …

لكي نواجه الصهيونية ومخططاتها مواجهة علمية صحيحة ، علينا قبل كل شيء . ان لاننزلق الى تبني اساليبها ووسائلها ، ذلك ان الاساليب والوسائل التي تستخدمها الصهيونية تنبثق من عقيدتها وتنسجم معها وتعبر عنها ، فهي اساليب ووسائل قلة متعصبة منغلقة ، تعمل من اجل اهداف ضيقة معادية للانسانية ، الغاية عندها تبرر الواسطة ، ويشكل المكر والتضليل والغدر والطمع والاغتصاب والقهر جزءا” من مثلها الاخلاقية ، اما نحن فأمة عريقة ، ذات رسالة حضارية انسانية ، لاينسجم التعصب والتضليل والغدر والطمع والاغتصاب وما الى ذلك من الاخلاقيات الصهيونية مع طبيعة رسالتها ، ذلك ان جوهر هذه الرسالة هو خدمة الانسانية ، والاسهام في بناء حضارتها على اسس متوازنة عادلة ، تحترم حقوق الامم الاخرى ، وتدين روح التعالي والتسلط والاستغلال ، وتطمح الى قيام عالم جديد تتعايش فيه الامم ، وتتحاور الحضارات والثقافات حوارا” ايجابيا” ، ويعم فيه العدل والسلام مهما اختلفت الانتماءات العرقية والعقائد الدينية .

ونحن اذ ندرس اليهودية ، ونتعرف على الصهيونية ومنابعها الفكرية وتاريخها واهدافها واساليبها ووسائلها ، نبغي معرفة العدو الذي يغتصب ارضنا ويكيد لامتنا معرفة عميقة ، لا لنتعلم منه او نقلده او نواجهه باساليبه ووسائله الخاصة ، بل لنفهمه فهما موضوعيا صحيحا” ، ونكون اقدر على مواجهة مخططاته ، وانتزاع حقوقنا منه ، فليس من رسالتنا ان نكون (قلة اخرى) تتحكم برقاب الكثرة البشرية ، واذا كان لنا ان نبشر برسالة ، وننشر مبادىء فبالتسامح ، وبالحوار ، وبالاقناع ، وبتقديم النموذج المشع المقنع باشعاعه ، وليس باساليب التسلط والقسر والارغام ، ولااساليب المكر والخداع والتضليل ، ولااساليب التآمر والمخاتلة والغدر . ان هذه اساليب صهيونية لاتنسجم مع مبادئنا الاخلاقية السامية ، وعقائدنا الدينية المتفتحة ، وتتنافى مع طبيعة رسالتنا وجوهرها الانساني .

أننا امة كبيرة في هذا العالم ، كبيرة بتاريخها العريق ، وتراثها الروحي والاخلاقي ، ورسالتها الانسانية المتجددة ، وكبيرة بثرواتها البشرية والمادية ، وامة كهذه هي امة كثرة ليست امة قلة ، وهي ترفض عقلية القلة وتعصبها وتجد نفسها في غنى تام عن اساليبها وخططها .

غير ان هذه الامة بها حاجة الى طليعة منظمة متماسكة معدة اعدادا” ايمانيا” خاصا” ، سواء في عقيدتها ام في خططها واساليبها وهذه الطليعة التي نعنيها هي الحزب ، ولهذا لايكفينا لمواجهة الصهيونية ان نعرف خصائص القوة والاقتدار عند امتنا ، وننظم لها اسلوب المخاطبة ، ونضع لها خطط المواجهة ، بل علينا الى جانب ذلك ، ان نعد الخطط المناسبة للطليعة المنظمة القائدة للامة ، والمعدة اعدادا” خاصا” يتناسب وامكانياتها ودورها في التاثير في الامة وقيادتها قيادة ناجحة .

هذا يعني ان نهتم بحزبنا الثوري المناضل ، حزب الامة وطليعتها ونعده من هذه الناحية ، ومن كل ناحية ، اعدادا” عقائديا وتنظيميا” صحيحا” ، ونتجاوز كل نقطة ضعف في بنائه وفي ادائه ، ونضع له الاهداف المناسبة في كل مرحلة من المراحل ، ونرسم له الخطط المناسبة لتحقيق هذه الاهداف ، بما يتناسب وامكانياته وحجم الدور الذي ينتظر ان يؤديه في محيط الامة الواسع ، وبحسابات عقلانية قيادية مؤمنة ، تجعل منه طليعة مناضلة بالفعل وليس بالقوة وحده او بالادعاء .

والى جانب ذلك ، علينا ان نهتم بعامة ابناء الامة ، ونعنى عناية خاصة بتثقيفها ثقافة عامة عصرية سليمة ، متحررة من الخرافة والاتكالية والقدرية المستسلمة ، ومحصنة تحصينا متينا تجاه حملات التزييف والتضليل ، وتجاه دعوات اليأس والنكوص والاستسلام ، ونفتح لها باستمرار افاق الامل بالمستقبل ، ونذكرها دائما بعناصر قوتها في ماضيها وحاضرها وبدورها في خدمة نفسها وفي خدمة الحضارة الانسانية ، ونغذي فيها عناصر الرفض والمقاومة والمطاولة في المقاومة ، ليس باثارة عواطفها واستثارة حماستها فحسب ، وانما بمخاطبة عقلها واعداده اعدادا” عقائديا” مؤمنا” يتناسب وروح العصر واساليبه ووسائله ، ونرسم لها الاهداف المناسبة ، والخطط العامة ونمكنها من فهمها واستيعابها ، لتكون على معرفة بها وعلى بصيرة بمراميها ، وتستعد للنضال في سبيلها استعدادا” روحيا ونفسيا” ، الى جانب استعدادها العقلي والمادي والعلمي . ان ذلك يتطلب قبل كل شيء ، احترام حقوق الانسان العربي ، وتامين شروط الدفاع عنها ، وتهيئة مناخ ديمقراطي ملائم يوفر له الحرية والحق في الحوار وابداء الرأي والمشاركة في القرار وذلك ليستعيد ثقته بنفسه ويكون اهلا لتقديم التضحيات التي تطلب منه ، وهو يتطلب بناء مؤسسات حديثة قوية وفعالة ، ومراكز بحوث متخصصة متطورة ووسائل تنوير واعداد وبناء على كل مستوى وصعيد .

ايها الرفاق …

ان الخطر الصهيوني اليوم هو خطر يومي مباشر ، متعدد الاتجاهات كثير التفاصيل ، وابرز ما في هذا الخطر ان الكيان الصهيوني يتوارى وراء الادعاء بالدفاع عن النفس وعن حقوق ومصالح مشروعة ، ويربط هذا الادعاء بتحطيم الامة العربية وتمزيقها الى كيانات اصغر من كياناتها الحالية ومحو هويتها الحضارية وثقافتها الخاصة وشخصيتها ، واضفاء هوية جديدة زائفة ومشوهة عليها هي الهوية الشرق اوسطية ، وتدجين حكام وفئات واوساط عربية تتقبل هذا التوجه وتسوغه ، وتنظر له تحت شعارات مضللة كشعارات (الواقعية) و(العقلانية) ومسايرة (المتغيرات الدولية) والانسجام مع حركة العصر
واتجاهاته . ان هذه الادعاءات ، وما يرافقها من نشاط اعلامي وفكري وثقافي محموم ، ليست ادعاءات فكرية مجردة ، بل هي غطاء نظري لعمل ستراتيجي ملموس على ارض الواقع ، عمل يستهدف ابقاء الامة العربية امة مجزأة مفتتة في كيانات هزيلة يسهل التغلغل فيها والسيطرة عليها ، وعمل يحول هذه الكيانات الى مزرعة تدر اللبن والعسل للكيان الصهيوني من خلال مشاريع اقتصادية مشتركة لا تتنافس فيها مع المصالح الاستعمارية ، ولاتصطدم بها ، بل تكملها ، وتشاركها ، او تتعايش معها في الاقل ، وقل مثل ذلك عن المصالح الاقتصادية العربية ، فالصهاينة لن يحاولوا استفزاز رأس المال العربي ، بل سيحاولون مشاركته بحصة هزيلة من الغنيمة ويخلقون معه مصالح مشتركة تكون قاعدة مادية للهوية الجديدة المزيفة ، الهوية الشرق اوسطية ، ومن اخطر ما يفكر به الكيان الصهيوني في هذا المجال اقامة مشاريع مشتركة حيوية ، كمشاريع الماء والكهرباء ، فمشاريع كهذه تجعل الانفصال عنه والانقلاب عليه في المستقبل باهظ الثمن على جميع المستويات ، وهذا يعني ان الكيان الصهيوني يبحث عن (شراكة) لا رجعة عنها ، ان صح ان تسمي هذا النوع من (الاستغلال) شراكة . فهي في الواقع شراكة في الشكل الظاهر في المرحلة الاولى ، ولكنها في النتيجة التي تخطط لها الصهيونية ، ليست سوى الحاق وتبعية .

والى جانب ذلك يولي الكيان الصهيوني اهمية خاصة لقطاع الثقافة ، فهو لايريد الاكتفاء بالعمل السياسي والاقتصادي ، بل يريد ان يغير الافكار والمفاهيم والغاء الوعي القومي السائد ، العربي الجديد الحالي ولدى الاجيال القادمة ، ثقافة اخرى هي نقيض الثقافة القومية التي درج عليها العرب خلال هذا القرن ، ثقافة تنفي عنه حقيقته العنصرية العدوانية وتكوينه الاغتصابي والاستغلالي ، وتضفي عليه (دورا رساليا) كاذبا ، هو دور الرائد الذي يقود العرب الى الحضارة والتنمية والرخاء والسلام .

ولهذا فان المواجهة يجب الا تكتفي بادانة الادعاءات الصهيونية الزائفة ، بل العمل المنظم والمثابر على كشفها وتعريبها ، وكشف الاخطار المترتبة على الاخذ بها ، او الاستسلام لموجتها ، او تقبلها على اساس الامر الواقع ، او حتى مهادنتها مرحيا ، وفي مقدمة ذلك ينبغي فضح عمليات (التطبيع) ومراميها ومخاطرها ، ومقاومتها بالاساليب والوسائل المناسبة في هذه المرحلة ، وتحصين الاوساط الرافضة ومساعدتها ما أمكن وبمختلف الاساليب على ما يديم رفضها ويشجعها على الاستمرار والمقاومة ، كما ينبغي تشخيص الاوساط المتضررة من التطبيع ، وتحريضها ، وتعبئتها وادخالها في حلبة الرفض والمقاومة ، الى جانب عزل الاوساط المتعاونة مع الكيان الصهيوني ، وفضحها وتعريتها وشل حركتها والحيلولة بينها وبين ان تتحول الى مخلب قط للكيان الصهيوني ولانشطته .

وينبغي ان لا يفوتنا ان الصهيونية تعمل على ايجاد جسور مصالح آنية مع كل (حالة قلة) في الوطن العربي وفي صفوف الشعب العربي ، سواء اكانت قلة قومية ام دينية ام طائفية ام غيرها ، الامر الذي يوجب اليقظة والانتباه والعمل على افشال كل محاولة خبيثة من هذا النوع ، وتنقية الصفوف من كل تعصب يتناقض مع مفاهيم البعث العظيمة للامة والشعب وكل مواطن فيهما .

ان هذا كله يتطلب مستويات مختلفة من العمل والنشاط الدؤوب الطويل النفس : سياسية ، واقتصادية ، وثقافية ، وبلوماسية ، واعلامية ، اضافة الى المستويات الاخرى ، ووضع الخطط المناسبة لكل مستوى من هذه المستويات وهو في الوقت نفسه يتطلب جهدا” فكريا” عميقا ومتخصصا” ودؤوبا” وطويل النفس ، على كل مستوى لمواجهة الثقافة المزيفة التي يعمل الكيان الصهيوني والاوساط المدجنة على نشرها ، وترسيخ الافكار والمفاهيم والمبادىء المعبرة عن حقيقة الامة ، والمنسجمة مع مصالحها ، وبناء الروح العربية المراد تخريبها بناء” صحيا” متينا” ، كما ينبغي العمل في موازاة ذلك ، على التمسك بالعمل العربي المشترك على المستويين الرسمي والجماهيري ، وتشجيعه ، وتعميق الوعي به ، لانه يشكل الاساس المادي الذي يسعى الكيان الصهيوني وحليفته الامبريالية الامريكية ، الى هدمه واستبداله بالعمل المشترك مع هذا الكيان .

وعلينا في الوقت نفسه ، ان نستغل اخطاء الكيان الصهيوني وهفواته وهي كثيرة والمتوقع منها كثير . فجشع هذا الكيان وعنصريته وعدوانيته واساليبه المتعالية المتغطرسة ، لابد من ان يوقعه في العديد من الاخطاء ، ولابد لهذه الاخطاء من ان تضعه في موضع التناقض الحاد والصدام مع مصالح وتطلعات اوساط عربية كثيرة ، بما فيها الاوساط التي تتعاون معه .

وبعد ، فأننا لانقول ان التصدي للحركة الصهيونية وكيانها الغاصب في فلسطين عمل سهل ، ولكنه ليس بالعمل المستحيل ، انه عمل ممكن ، ولدى الامة العربية من الطاقات الروحية والمادية ما تستطيع به ان تنهض بمهمات التصدي والمواجهة ، ومما يسهل النهوض بهذه المهمات ان رفض الكيان الصهيوني مايزال الظاهرة الارجح في الوعي العربي ، ومقاومة خطط التسوية والاستسلام والتطبيع موجودة وشاخصة في مظاهر عديدة ، ملموسة وغير ملموسة ، وهذا ما يجعل لمواجهة تلك الخطط ارضية تنطلق منها بجميع مستوياتها .

والاهم من ذلك كله هو الايمان بالامة ورسالتها ، والثقة بها وبقدراتها ، والتفاؤل بمستقبلها ولهذا كله اسس راسخة ، وامكانيات ملموسة ، لاتحتاج الا الى عمل صابر دؤوب طويل النفس ….

ودمتم للنضال ولرسالة امتنا الخلود …

 

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.