قراءة لمآلات ما بعد وقف إطلاق النّار: الإرتدادات والتّحديات والمخاوف المُحتملة كتب: أ. أحمد مختار

قراءة لمآلات ما بعد وقف إطلاق النّار:
الإرتدادات والتّحديات والمخاوف المُحتملة
كتب: أ. أحمد مختار
تقارير الأمم المتحدة بعد عام ونصف من اندلاع الحرب، تقول إنّها خلّفت “19” ألف قتيل و”33″ ألف جريح ومصاب وهذا رقم تقريبي، غير المنهوبات والممتلكات والبُنى التّحتية ومؤسسات الدولة المختلفة التي تمّ تدميرها وقدرت خسائرها ب”150″ مليار دولار، ورغم فداحة هذا الخراب والتّدمير إلّا أن وقف إطلاق النّار الذي تعمل أطراف وطنية ودولية لانجازه في أسرع وقت، لتلافي الكوارث الإنسانية المُحدقة والتّقليل من آثار المجاعة التي تحاصر “25” مليون في الداخل وتفتك بأكثر من “7” ملايين مواطن في مناطق مختلفة من السُّودان، رغم فداحة الأمر إلا أن وقف إطلاق النّار وحده ليس كافياً، لتجنّب المزيد من المآسي والكوارث وشلالات الدّم وفقد الأرواح والممتلكات. وعلى القوى السّياسية ومنظمات المجتمع المدني والإدارات الأهلية والمجتمع الدولي، أن تحتاط لموجات عنف وانتقام محتملة، بعد توقّف اطلاق النار، لأن هناك جوانب مُظلمة ومستترة في صفحات الحرب العدمية الجارية واحتقانات مجتمعية وقبلية ستنفجر بلا شك، بعد توقّف اطلاق النّار مباشرةً لأسباب كثيرة منها:
أولاً: كشفت مجريات الحرب خلال أكثر من عام ونصف أنها بلا سقف أخلاقي، ولم يلتزم طرفاها فيها بأيٍّ من قوانين الحرب ولا بآدابها وأعرافها.
ثانياً: استخدم الطّرفان تعبئة عنصرية سالبة، هيّجت روح الكراهيّة والتّحيّزات القبلية والجهوية في مجتمع تقليدي يمثّل “75%” من تعداد أهل السُّودان، وما زال يسُود فيه الجهل والأميّة والتّخلف، ويتحكّم التّعصب في انفعالاته وردود أفعاله.
ثالثاً: جرت عمليات نهب وتدمير واسعة لممتلكات مواطنين خاصةً في ولاية الخرطوم والجزيرة وبعض المدن الأخرى بعضها بأيدي مجموعات مسلحة ترتدي زي الدّ.عم السّر.يع أو لا ترتديه، والبعض بأيدي جيرانهم في السّكن أو من سُكان الأحياء القريبة لبعضها لن يسكتوا عليها دون معالجات صحيحة وجبر الضّرر الذي أصابهم.
رابعاً: انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم التي مُورست على نطاق واسع وعمليات الانتقام والتّشفي غير المألوفة في التّاريخ السُّوداني، وصور ما التّنميط والقتل على الهوية القبلية والجهوية في مناطق مُتفرّقة من جغرافية البلاد، ولّدت وستولّد لا محالة حالة غُبن عميقة في نفوس أهل الضحايا.
خامساً: خطاب الكراهية والاستعلاء والأحقاد الذي كرّسته أجهزة الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعي أحدث شروخ غائرة في وجدان المجتمع.
سادساً: الموقف العدمي لأطراف الحرب من السّلم المجتمعي، وتسعير أوار الإقتتال الأهلي، وممارسة سياسة فرّق تسد، ونفي الآخر والسُّخرية من لُغته وثقافته وزيّه.
سابعاً: استدعاء حوادث قديمة في التّاريخ، ونزعها من سياقها، ومحاكمة مجريات الواقع الراهن على ضوئها.
ثامناً: غياب القيادات الملهمة في المجتمعات المحلّية، وانحسار هيبة الدولة وسُلطان القانون من النّفوس، وفقدان الكثير من الأعراف والتقاليد والموروثات فاعليتها في المجتمع، خاصةً عند الأجيال الجديدة.
تاسعاً: حالة الفقر المُدقع والإحساس بالغُبن والظُّلم والشُّعور بالضّياع وفقدان الثّقة في الانصاف.
عاشراً: إفرازات الحروب الطّويلة في مناطق عديدة من الوطن، النّيل الأزرق جبال النّوبة، دارفور.
أفقدت شرائح واسعة من المجتمع الثّقة في القوى السِّياسية وفي أجهزة الدّولة ومؤسساتها، وألجأتها لمكوّناتها الأولية “القبيلة والعشيرة”..
لكل هذه الأسباب ولغيرها، من المؤكد أن وقف إطلاق النّار وحده، لن يوقّف الخراب والتّدمير و نزيف الحرب وتداعياتها المحتملة، ولكنه يظل هو المدخل الأوحد للمعالجة والشّروع في انهاء الكارثة الوطنية المُركّبة الجارية الآن، وعلى كل الجهات المعنية السّاعية لوحدة الوطن وأمنه واستقرار شعبه، التّفكير خارج الصّندوق والعمل بأفق أوسع من الدّعوة لوقف النّار وحدها.
صحيح إن الواقع الإنساني الماثل يفرض على الجميع أجندته ويُلزم بتأجيل الكثير من البرامج المستقبلية، وتكريس كل الجهود، لإنقاذ الضحايا المتأثرين والنّازحين والجوعى من الموت الجماعي الذي يحصدهم الآن بالجوع والمرض، بعد أن حصدت المدافع والقذائف والرّصاص والبراميل المتفجّرة الآلاف قبلهم، ولكن يجب الانتباه إلى أن زوال شبح الجُوع يعني تّفكير المتضرّرين تّلقائياً في مَنْ كان سبباً في المأساة والكارثة، ومن نهب بيوتهم وممتلكاتهم وانتهاك أعراضهم ومقدساتهم، ومن هنا ينشأ واقع جديد من ارتدادات الحرب الأهلية العمياء وانعطافاتها غير المتوقّعة، يحتاج لبرنامج عملي على الأرض، يقي المجتمع شرور الانتقام والثّأرات والتّشفي، حتى لا يأخُذ أحد القانون بيده، وتنزلق البلاد في فوضى شّاملة، ويغيب أثر المجرمين وأدلّة الجريمة، و يتكرر الإفلات من العقاب، خاصةً أن عمليات التّجسس والاتهامات بالتّخوين كانت تتم في مناطق ضيّقة في الأحياء والقرى وبين الأُسر وأماكن السّكن والعمل، ويعرف فيها الجميع بعضهم بعضاً، والكُل يحمل السٍّلاح أو يمكن أن يجده متى أراد ذلك.
فهل تتحسّب القوى الوطنية والمنظمات الأهلية، و الحقوقية والمعنيون بحقوق الانسان والعدالة وتجمعات المحامين ضمن ترتيبات تصميم العملية السّياسية القادمة لهذه المخاوف والاحتمالات وتضع لها معالجات وترتيبات أمنية في برامجها ونقاشاتها أم سيكون التّفكير بذات العقليات القديمة حتى تداهمنا كارثةً أخرى والوطن على حافة الهاوية؟..