الحالة التى أصابت جماعة الرأسمالية الطفيلية المتاسلمة، و سلطتهم فى السودان، جراء الفعل الثورى الذى إنتظم البلاد بطولها و عرضها خلال الشهرين الماضيين و لا يزال، هذه الحالة شكلت مفاجأة على مختلف الصعد و الميادين برغم مؤشرات السقوط البائنة منذ وقت طويل. فمع سنوات الفشل الذريع على مستوى الحكم، و الغرق و الإستغراق فى السلطة و ملذاتها، و الإعتماد على أساليب الخداع و التضليل و القهر، كان كل شئ ينبئ بإنهيار مزلزل لهذه الجماعة و منظومتها القابضة.. و لكن متى و كيف؟ هذه لم تكن فى تصور أى طرف أو جهة.. حتى توالت الضربات من كل حدب و صوب، كل واحدة منها تثير الدهشة و التعجب.
على سبيل المثال.. لم تكن ندرة السيولة و شحها بالمستوى الذى تشهده البلاد منذ شهور تخطر على بال. فمثل هذه الأزمة الفريدة لم تحدث بشكلها هذا على أى نظام فى العالم، بالمستوى الذى تلاحق فيه الحكومة مواطنيها لتستحوذ على أموالهم الخاصة محاولة إجبارهم على وضعها بالبنوك، لكيما تستطيع تصريف شئون الدولة. و لم تنجح كما شهدنا، محاولات قهر الناس فى هذا الأمر و سياسة فرض الأمر الواقع، كحادثة تاجر الأبيض الشهيرة أو حريق سوق أمدرمان الذى تدور حوله إستفهامات، و لا تمثيلية إيداع تجار سوق ليبيا أو غيرها. مثلما لم تنجح عملية طباعة المزيد من أوراق العملة فى إعادة الوضع المالى للنظام المصرفى إلى سابق عهده..
ثانيا.. أزمة الوقود و إستفحالها و غياب أى أفق لإنفراجها بآليات الحكومة و وسائلها المعهودة. فالصفوف لا تزال تتمطى داخل العاصمة ناهيك عن الأقاليم التى تجاوز سعر الوقود فيها بالسوق الأسود خمسة أمثال السعر الرسمى. و لا يوجد إلى الآن ما يؤشر بقدرة الحكومة على إيجاد أى مخرج لها من هذه الأزمة.. و التى ترافقت معها أزمة الدقيق، و صفوف الخبز الطويلة لشهور و نقصان وزنه و زيادة سعره و الحكومة مثل حمار الشيخ فى العقبة..
ثالثا.. إنعكاس أزمة السيولة و الوقود و الدقيق على أسعار السلع و المواد الأخرى، بالصورة التى نعيشها من غلاء و فوضى أسعار لم تحدث فى تاريخ السودان. ما يعنى عمليا فشل الحكومة فشلا تاما فى الإمساك بزمام الأمور، و فقدانها للسيطرة على حركة السلع و الأسعار بحيث تركتها تتدحرج هكذا بلا ضوابط و لا سياسات.
رابعا.. المفاجأة الأخرى و التى شكلت صدمة مضافة لمسلسل الصدمات المذكورة، هى فشل اللعب على تناقضات البلدان الإقليمية، فى فك الضائقة كما كان يحدث كل مرة. لقد درجت جماعة الطفيلية المتأسلمة على إدارة علاقات السودان الخارجية، بإنتهازية مهينة لكرامة البلد. و أصبح السودان على غناه و ثرائه بلدا متسولا بين الأمم. و لما فات الأمر عن حده أحجمت البلدان التى إعتادت تقديم العون عن ذلك، مثل السعودية، الإمارات، قطر، تركيا إلخ. و مع إنشغال المنظومة (الخالفة) بكنز الذهب و الفضة و الدولار لم يبق فى خزانة الدولة ما يمكن أن تجابه به هذه الورطة المستحكمة.
خامسا.. المفاجأة المزدوجة التى قدمها السودانيون للنظام و لأنفسهم فى ذات الوقت. للنظام كونهم أعلنوها فى وجهه دفعة واحدة وبوضوح لا لبس فيه (تسقط بس)، و توحدوا حولها بجرأة و جسارة مذهلة. لأنفسهم كونهم نفضوا عن أنفسهم غبار السنين و إستدعوا تاريخهم الطويل و بطولاتهم فى مواجهة الطغيان و الطغاة من أجل العيش بكرامة، مؤكدين فعلا أن الجماهير تفاجئ نفسها.. فهذه الثورة التى إنطلقت شرارتها من الدمازين و عطبرة ثم القضارف و كوستى و الخرطوم و الأبيض و الفاشر و بورتسودان هى حالة عامة يعيشها كل السودانيون، ضد عدو واحد أذلهم و سامهم سوء العذاب لثلاثين عاما عجاف، هى من أسوأ ما مر عليهم من عهود.
و لأن الجماعة قد أدمنت سكرة السلطة، فإنها لم تتخيل أنه سوف يأتى اليوم الذى ينتفض فيه كل الشعب ضدهم، وضد حكمهم المبنى على النفاق و السحت و المتاجرة بالدين. لذلك إنعكست هذه الصدمة فى ردود فعلهم المتهورة تجاه العزل الذين لا يملكون إلا أصوات حناجرهم، يواجهونهم بالقناصة و بالملثمين و بالمندسين بين التظاهرات و بكل أشكال الجريمة و أدواتها. لقد أمد الله لهم فى الضلالة ثلاث عقود و الآن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.