حليــــــــــوة .. حكايةُ قرية سقطتْ سهواً..
يكتب القدال عن حليوة نموذجا لقرى الجزيرة
الجناية التي لم تُدوِّنها مضابط المخافر هي معسكرات العمال الزراعيين التي حشرها الإنجليز حشراً بين القنوات و(الحواشات) حين ابتكروا مشكورين مشروع الجزيرة.. وهكذا توالد الناس هنالك وتوارثوا هذه المعسكرات المُجتزأة قسراً وأطلقوا على كل بقعة منها لفظة قرية.. وهكذا أيضاً توالت السنوات امتصت فيها خزائن المدائن رحيق القرى التي تناثرت هنا وهناك حتى تهالك المشروع وعُدّ من سقط المتاع.. نعم كل خيرات القرى المتناثرة في طول وعرض المشروع كانت تذهب للخزينة العامة ومنها لخزائن المدائن حين تأخذ من عائدات القطن والمشروع ما تنفقه في الخدمات والطرقات والمخصصات، بينما ترقد تلك القرى كطفل منغولي كبير الجسد صغير الرأس.
عشرات السنين وقرى الجزيرة تنفق بلا منٍّ ولا أذي ولا ينوبها من الثواب إلا مزيد من العقاب حين تقبع خلف (الحواشات) بلا طرق ولا خدمات.
وليست حليوة – قريتنا – وحدها التي تختبئ خلف (التُرع) تتقطع بها السبل كل حين إن لم يكن بمياه الأمطار فبمياه الري حين تتمرد على (أب عشرين).. ليست حليوة وحدها التي كابدت مشاق السنوات وما جنت غير أنها لا تزال مسجاةً هناك كقرية صغيرة سقطت سهواً حين حكم عليها المشروع بأن تبقى هكذا محض قرية صغيرة تعمل بنظام (السخرة)، تنتج ولا يعطونها من إنتاجها شروي نقير.
ليس كل المشروع خير، أتحدث عن إهمال تعانيه قري مشروع الجزيرة من أقصاها لأدناها، رغم خيرات المشروع التي ما فتئت تقطفها كل حين خزائن المدائن. حتى ودمدني عاصمة المشروع أخذت من خيراته منذ بواكير إنشاء المشروع حتى تعملقت فصارت مدينة تزدري – مثل صويحباتها المدائن – القرية كواحدة من روافد الخير العميم الذي كان يتدفق يوماً ما من هذا الشيء الضخم الذي كان اسمه مشروع الجزيرة.
مشروع الجزيرة ليس مصباح علاء الدين (شبيك لبيك) لكنه قصة كفاح طويلة لا يعرفها إلا هؤلاء الذين قبعوا بين (التقانت) و(الشلابي) يُكابدون الملاريا فيموتون أو يحيون ثم لا يلبثون تصيبهم متلازمة إنتفاخ البطن وتليف الكبد حين تُصيبهم دودة الإسكارس، فيموتون أو يحيون، ثم لا يلبثون تُصيبهم لعنة الأرض وظلم ذوي القربي الذي هو أشدُّ مضاضة من وقع الحسام المهند.
لم ينصفهم أحدٌ يوماً هؤلاء الذين أعطوا المشروع كل شيء من أهل القرى.. من حليوة إلي مهلة إلى الشايقاب إلى 33 عبد الغني إلى العمارة 2 محمود إلى معتوق إلى كاب الجداد.. وقائمة تطول وتطول من مظاليم المشروع.
يحكي جدي بشر متعه الله بالصحة والعافية إنّ المستر (جكسل) ويعني (جتسكل) المدير الإنجليزي لمشروع الجزيرة زارهم في قرية حليوة لتعزيتهم في والدهم، وبخلاف رواية جدي تلك لم يحدث أن رأيتُ بأم عيني مسئولاً كبيراً يطأ قريتنا للواجبات الاجتماعية، ولا للمهمات الرسمية، وفي خاطري وقد دارت الأيام بالمشروع هكذا أن أكتب يوماً مقالا لعلّ عنوانه يكون (بكائية للمستر جكسل).
الشاهد أنّ قرى المشروع لم تستمتع يوما بالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها مما تنفقه الحكومات وتعده من صميم دورها الإيجابي تجاه المجتمع، بل أنّ الخدمات التي توافرت للقرى علي قلتها وبؤسها عبر السنوات الطويلة للمشروع وعائداته ووفوراته المالية الضخمة أقول توافرت تلك الخدمات علي بؤسها بالعون الذاتي لأهل القرى، ومن مجهوداتهم الذاتية في تأسيس المدارس والمراكز الصحية، أما الطرقات فتلك مما يحلم به الحالمون فالأرض الطينية هنالك تُمارس نوعاً من التعذيب الموسمي القاسي على القاطنين هنالك في مواسم الخريف، أما بقية أيام السنة فلا تسلم الشوارع فيها من مياه الزراعة المتدفقة.
ولم يفتح الله يوماً على حكوماتنا السنية على تعاقبها بإنشاء شبكات طرق دائرية تربط بين القري ورئاسة المشروع في بركات وودمدني. بل أنّ ود مدني استأثرت بالمتاح من الفتات ولم تجد القرى معشار هذا الفتات.
وحليوة هذه التي احدثكم عنها ولا أعنيها لذاتها بل كنموذج لشبيهاتها من المكتوين بنيران المشروع الذي يظنه الآخرون كله خير، وبعض الشر منه والشرر تطاير على قرى المشروع حتى مسها منه الضُرُّ. حليوة هذه يا سادتي ورغم تاريخها الطويل وتوسطها لأراضي المشروع في القسم (الوسط) وتكاد تكون في قلب المشروع لم تتوفر لها مدرسة إبتدائية حتي منتصف الثمانينيات، رغم أن القرية لا تبعد عن مدني أكثر من ربع ساعة بالسيارة، ولم تكن تستمتع بأكثر من (شفخانة) متهالكة في أقصى طرفها الجنوبي. وهذا الحال ينطبق على أغلب قرى المشروع، بل إنّ بعضها لا تتوافر فيها مصادر المياه والكهرباء.. ولله في خلقه شئون.
ثم هل تُراني وددتُ أن أطرق على أبواب المسئولين أن يلتفتوا لهذه القرى التي أنهكها المشروع، حين أورثها المشروع أدواء الملاريا والبلهارسيا والفقر المزمن في الخدمات.. نعم لم نذق طعم المشروع، ولم يقدم لنا المشروع في الجزيرة ما كنا نبتغيه أو ما كان ينبغي أن يكون قياساً للمداخيل التي أسهم بها المشروع في الاقتصاد الكلي. ومشروع الجزيرة عندنا نحن أهل الجزيرة مثل (ضل الدليب).
لقد أنفق العمال الزراعيين البسطاء والمزارعون هنالك أعمارهم في خدمة المشروع، لكنهم بقوا حبيسي القمقم .. قمقم القرية التي انحصرت فيها المساحات وانحسرت عنها الخدمات.
تماماً كالذي سقط سهواً.. فقد سقطت سهواً تلك القرى التي تعاقبت عليها السنوات في خدمة مشروع الجزيرة.. المشروع الذي اختطفه العنابسة يفتقده إنسان الجزيرة (الهَدِي) (الرَضِي) الذي ينفق يومه يحلم فقط (بالسُترة) و(الصُلحَة) وصالح الأعمال.