تداعيات الأزمة الوطنية ومخاطر تفكيك الشمال
على حمدان
إن التحديات المصيرية التي تجابه بلادنا لا يعالجها تشكيل ما يسمى بحكومة قاعدة عريضة ترقع النظام وتوسع قاعدته وتعيد إنتاجه بذات التوجهات الفكرية والسياسية والإقتصادية المستبدة والإقصائية وتكسبه مشروعية زائفة تؤمن له استمرار الهيمنة على أجهزة ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، لأن الأزمة الوطنية الشاملة هي عنوان فشل المؤسسات والسياسات والمواقف التي شكلت توجهاته وجعلته عقبة كؤود أمام حركة التطور الوطني، مثلما كان منذ يومه الأول في 30/6/1989م حلاً زائفاً لأزمة حقيقية وأضحى استمراره مهدداً جدياً لوحدة ومستقبل شعبنا وبلادنا وعاملاً لتمزيقه وتفتيته.
فبعد ما يقارب الربع قرن من حكم الإنقاذ عملت سياساتها على التفريط في الثوابت الوطنية، والتي توجتها بالمشاركة في جريمة إنفصال جنوب السودان وأشعال وتوسيع دائرة الحروب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ، وزادت التوتر والإحتقان في الشرق والشمال، وزرعت القنابل الموقوتة لتفتيت وحدة النسيج الإجتماعي لشعبنا، وأهدرت الموارد وعبثت بثروات البلاد، وأحلت المراهنة على دور القوى الأجنبية ( الأمريكية) محل الرهان على الإرادة الوطنية الشعبية في حل القضايا الوطنية، وبسبب ذلك تفاقمت الإختلالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، مما انعكس في تعميق الأزمة وتزايد حدة النزاعات والحروب، وأصبح بذلك خطراً محدقاً لما تبقى من وحدة بلادنا شعباً وأرضاً. وقد لعب تماهي النظام مع السياسة الأمريكية تجاه بلادنا دوراً بارزاً في رسم خريطة طريق لاستكمال تقسيم بلادنا وتفتيتها، حيث تجسد ذلك فيما عرف بالإستسلام الوقائي للسياسة الأمريكية بعد استهداف مصنع الشفاء عام 1998م ، وخضوعه لتنفيذ املاءات المبعوث الرئاسي الأمريكي جون دانفورث حول جبال النوبة، والتي فتحت الباب واسعاً أمام التدخل الأمريكي المباشر في شؤون بلادنا واختراقها وتدويل قضاياها. وتناغم سياسات النظام مع هذا التوجه لم تكن مفاجئة أو طارئة على تكوينه وخلفيته، رغم معارضته اللفظية الصاخبة في الإعلام، وقد تعزز هذا التوجه الخطير بالتعاون الوثيق مع جهاز المخابرات الأمريكية فيما يسمى بمحاربة الإرهاب، ولم تكن الهيمنة الأمريكية على الساحة السياسية واختراقها لملفات القضايا السودانية واتجاهات معالجتها لتتم بمجرد استسلام النظام للمشيئة الأمريكية فحسب، إذ كان لابد على الحركة الشعبية أن تضطلع بدور مهم وخطير آخر عبر الشراكة مع المؤتمر الوطني في ترجيح الخيارات الأمريكية حول ما عرف بسودان واحد بنظامين في مرحلة الإنتقال وفق اتفاق نيفاشا، والذي تعمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالتواطؤ مع النظام الحاكم على تعميمه لأقاليم السودان المتبقية، بحيث يتفكك السودان ويتحول إلى بلد كونفدرالي يسهل اختراقه بالفوذ السياسي والإستخباري والعسكري الأمريكي ويديم السيطرة عليه.
فالمشروع الأمريكي في السودان الذي قدم نفسه في البداية بأقنعة الإعتبارات الإنسانية (حماية المدنيين) قد انتهى إلى نتائج سياسية وعسكرية وأيديولوجية ذات مساس كبير بحاضر السودان ومستقبله في إطار سياسة العصا والجزرة الأمريكية التي خبرتها السلطة الحاكمة وأصبحت تتعامل معها بامتياز حفاظاً على حكمها المتناقض مع مصالح شعبنا وقيمه العليا. فالتدخل الأمريكي في السودان والذي ساهمت في استدراجه العديد من الأطراف يستهدف دمج السودان في شبكة المصالح الأمريكية في أفريقيا والوطن العربي بإعادة ترتيب خريطته السياسية في إطار ما يعرف بسايكس بيكو الأمريكية القائمة على تعميم التجزئة والتفكيك، وكانت أبرز مظاهر هذا التماهي تتمثل في :
- النهج الإستبدادي الإقصائي للسلطة الحاكمة في مواجهة قضايا الصراع السياسي والإقتصادي والإجتماعي كان الدور الأبرز في خدمة هذا المخطط، حيث أفرز العديد من الصراعات ذات الصبغة القبلية والإثنية في مختلف مناطق بلادنا وغذاها ووظفها في سياق لعبة التوازنات التي يجيدها لإستدامة حكمه تماهياً مع سايكس بيكو الأمريكية.
- كما ساهمت تداعيات الإتفاقات المتعددة التي عقدتها السلطة الحاكمة مع النخب الإنتهازية في نيفاشا أبوجا والقاهرة وأسمرا والدوحة وغيرها، وما أثارته من نزوع لتشجيع حمل السلاح لتغذية نزاعات جديدة ذات طبيعة تفتيتية، وما أحاط بتفيذ بعض البنود الملتبسة في هذه الإتفاقيات ، (الترتيبات الأمنية ، المشورة الشعبية ، قسمة السلطة .. الخ ) من صعوبات أدت وستؤدي إلى صراعات متصلة تديم حالة الإحتقان والإستقطاب كوقود لاشعال مزيد من الحروب بين أطراف تلك الإتفاقات، أو استدراج بعض أبناء شعبنا من هذا الطرف أو ذاك للتورط في توسيع دائرتها. وتتعدد النماذج المعبرة عن هذا المنحى ، فعلى سبيل المثال:-
- مشكلة أبيي
- الحدود بين الشمال والجنوب ( القضايا العالقة ).
- استمرار الحروب المشتعلة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزراق.
- التوترات في كردفان والشرق والشمال.
- إمعان دوائر نافذة في السلطة الحاكمة على التعبئة المستمرة لخلق تناقض متوهم بين العروبة والأفريقانية فيما يتصل بهوية شعبنا وتصويرها لهذا الأمر وكأنه صراع بين مكونات الشعب الثقافية والحضارية، ويجئ ذلك باتساق مع مواقف بعض النخب التي تنطلق من عقد وإرتباطات مشبوهة، وحقيقة فإن الصراع في هذا الأمر ليس صراعاً أفقياً بين مكونات شعبنا، وإنما هو صراع ذو أبعاد رأسية بين الأغلبية الكادحة من شعبنا وبين فئة طفيلية صغيرة من النخب في الخندقين .
- اعتماد سياسات التحرير الإقتصادي الرأسمالية ونهج الخصخصة تعد أبرز ملامح درجات التماهي مع التوجهات الأمريكية والإستمرار فيها، رغم فشلها ووصولها إلى طريق مسدود في بلدانها الرأسمالية الأم، بعد أن ثارت عليها شعوب تلك البلدان، والتي كان نصيب شعبنا منها الإفقار والتجويع وإهدار الكرامة والتخريب الكامل لكل بنيات اقتصادنا الوطني الصناعية والزراعية، إذ يعيش أكثر من 95% من شعبنا تحت خط الفقر، بينما تستأثر 5% من الفئة الحاكمة وحلفائها بكل الموارد، وتنفقها في الصرف على الحروب وتأمين الحكم ، حيث تبلغ موازنات الدفاع والأمن أكثر من 50 مرة من موازنة الزراعة، والتي لا تتجاوز حدود العشرين مليون دولار ، وأكثر من 15 مرة من موازنة التعليم التي لاتتجاوز خمس وعشرين مليون دولار تقريباً ، وأكثر من 20 مرة من موازنة الصحة التي تبلغ عشرين مليون دولار !! ؟
إن الحروب الأهلية التي أشعلتها السلطة الحاكمة ولازالت تسعرها، في جهات بلادنا المتعددة هي نتاج النهج الإقصائي والأمني الخاطئ في معالجة إفرازات التدامج الوطني في بلد متعدد الثقافات والمكونات القومية والتي ينبغي النظر إليها في إطار التفاوت في مستوى التطور الإقتصادي والإجتماعي بين مختلف أقاليم البلاد ، وخاصة المناطق الأكثر تخلفاً والمتأثرة بالنزاعات والحروب، وحلها يكمن في مواجهة جذورها وأسبابها الأساسية في إطار حل وطني شامل يضع الجزء في مكانه الطبيعي من الوطن. فالنظرة التجزيئية لقضايا البلاد هي التي قادت إلى الإوضاع الملتهبة الراهنة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وفي غيرها من أجزاء البلاد ، وأن تفادي تفاقمها لايتم إلا بوضع اليد على جوهر القضايا في إطار ترابطها العضوي دون تجزئة أو بالقفز على حقائق الواقع بديلاً لخيارات المؤتمر الوطني الذي جعل من نظامه معادلاً موضوعياً لخيارات وإرادة شعبنا، وكون امتيازاته الطبقية والسياسية بالمتاجرة بالإسلام والعروبة وحولهما في لعبته السياسية إلى موضوع للصراع يغطي مناهجة السياسية والدنيوية والفئوية الضيقة بغطاء الدين، ويحيط العروبة والإسلام بشبهات الفتنة والإستعلاء والتفرقة، بينما هما أرسخ وأعمق وأقوى عوامل التماسك والنهوض الحضاري للنسيج الوطني لبلادنا، والمكون الأساس الذي يستوعب بالتسامح والتفاعل الحي الديمقراطي التعدد والتنوع الذي يزخر به شعبنا لتقوية نسيجه الإجتماعي، والذي يعلو على الحسابات والمناورات الضيقة، فمهما تكاثرت مشكلات المناطق الأقل نموا وتنوعت ملامحها وتبلورت تعبيراتها، لايمكن طرحها خارج معادلات الوحدة في إطار التنوع، ولايمكن عزلها عن قالبها وكيانها العضوي، فتنكر النظام لمنهج الحل الوطني السلمي الديمقراطي لقضايا المناطق الأقل نمواً ، لاينبغي أن يقابل بردة الفعل السلبية والوقوع في شراك المخططات المعادية وتعريض وحدة شعبنا وبلادنا واستقلالها للخطر . فينبغي قطع الطريق أمام تعميم نهج نيفاشا الذي أدى إلى جريمة فصل الجنوب واستمرار تداعياته في جنوب كردفان والنيل الأزرق، والذي يوظف لإستثارة العصبيات القبلية والجهوية وإلى إضعاف روح الوحدة الوطنية، ممهداً الطريق أمام تفكيك بلادنا وإغراقها بالنزاعات والحروب، والتي توفر أيضاً من خلال آليات إطفائها شروطاً ملائمة للوجود والتدخل الأجنبي في شأننا الوطني بذرائع إنسانية ، الأمر الذي أصبح يمثل أخطر المهددات الأمنية لسلامة بلادنا وسيادتها واستقلالها.
إن السلام الشامل والعادل والدائم والذي تأكد فشل سياسات السلطة الحاكمة في تحويله إلى واقع ملموس في حياة الناس الذين عانوا ويلات الحروب ودفعوا ثمنها من حياتهم وكرامتهم ومعيشتهم إلى تنمية شاملة متوازنة وخدمات تسهم في ترقية أوضاعهم المعيشية، لن يتحقق ذلك إلا بمشاركة واسعة لكل القوى الحية في بلادنا في مناخ من الحرية والمشاركة الديمقراطية في إدارة حياتهم بما يحقق العدالة الإقتصادية والإجتماعية ويبني التقدم ويصون الوحدة والإستقلال.