
اليوبيل الماسي للبعث: واقع ودلالات ودروس
بقلم: أ. محمد الأمين أبوزيد
يصادف يوم السابع من أبريل ـ نيسان من كل عام ذكرى ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يعد من أهم الحركات الثورية القومية في الوطن العربي في العصر الحديث من حيث البنية الفكرية والسياسية والتنظيمية، إضافةً إلى التجربة النضالية والقدرة الخلاقة على تطويع الصعاب، وممارسة المسئولية النضالية فى الظرف غير المؤاتي، في ساحتي النضال ،الإيجابي أو السلبي والانطلاق المتجدد من “نقطة البداية”.
ارتبطت نشأة البعث بالتلازم مع بزوغ حركات التحرر الوطني العربية ضد الظاهرة الاستعمارية الكولنيالية، ومع نكبة فلسطين وحرب “1948م” التي شارك فيها مؤسس البعث ورفاقه الأبكار، والتى ارخت منذ البدء للتميز النوعى، واقتران القول بالعمل “وحدة الفكر والممارسة”.
وإن كانت إرهاصات النشاة تمتد إلى الثلاثينات من القرن الماضي، لكن تواثق البعثيون على تاريخ نشأة حزبهم بتاريخ “7 أبريل ـ نيسان 1947م” وذلك نزولاً عند انعقاد المؤتمر الأول “التأسيسي” للحزب في أرض الميلاد سوريا الذي أجاز دستور الحزب ونظامه الداخلي.
لم يكن ميلاد البعث حدثاً سياسياً عابراً وإنما استجابة موضوعية لحاجات النضال العربي في تلك المرحلة وتعبيراً عن نزوع الأمة العربية التاريخي نحو أهداف التحرر والوحدة والتقدم وتجديد الرسالة، لذا جاءت الولادة “الاستجابة” طبيعية أصيلة المنبع والجذور، بعيدة عن التشوهات الجينية التي طبعت تيارات الفكر السائد عموماً والقومي خصوصاً ما قبل مرحلة نشوء البعث والتي افتقرت لمصداقية ركائز الانبعاث بالإطلاق والتجريد والقفز فوق حقائق ومعطيات واحتياجات الواقع القومي، سواء بالفصل مابين الأصالة والمعاصرة أو افتعال التناقض بينهما فى التيارين، الأممي الماركسي والأممي الإسلامي، إلى باقي التيارات الاصلاحية أو المنكفأة على خرائط سايكس ـ بيكو.
ارتبطت فكرة تأسيس البعث منذ البداية بمشروع نهضوي عربي حداثوي عماده الانطلاق من “حقيقة الأمة” لا واقعها، بالنضال الدائم في سبيل وحدة الأمة وحريتها وتقدمها ودورها الرسالي، ومن مفهوم عصري للانتماء القومي، بتحريره من معطياته الأوروبية من تعصب وعنصرية وليبرالية تحولت مطية للنزعات الرأسمالية، قوامه الدافع الإنساني و العمق الحضاري والبعد الثقافي وحوار الأمم والشعوب واحترام خصائصها الوطنية والقومية .
عملت على تطويره وتجذيره، الممارسة النضالية، ومؤتمرات الحزب القومية التي تجاوزت إثنا عشر مؤتمراً بطول المسيرة الممتدة لخمسة وسبعون عاماً، منطلقاً من سمات نظرية الحزب القومية وحقائق العصر ومنهجه العلمي الجدلي التاريخي في تشخيص تناقضات الواقع العربى وتحليل ممكنات تطوره بآفاقه الثورية المستقبلية بوضع الأمة في سياق المرحلة الإنسانية.
وفق ما أشرنا إليه ولد المشروع القومي البعثي يحمل بواعث ديمومته وقابلية تطوره لتميزه، بمزاوجة الفكر والثورة بالعلمية وبتحريرها من قمقم الإطلاق والفلسفة التي أدخلتهما ماديات الماركسية، بارتباط الفكر الحي بالواقع وبإرادة الإنسان “الجماهير” دون التحليق في الفضاء المثالي وعرش الحتمية، في الوقت الذي تراجعت فيه أو انزوت الأفكار و المشاريع الملازمة لنشأته.
إن مرور خمسة وسبعون عاماً على مسيرة البعث “اليوبيل الماسي” تضع الحزب الآن بضوء المرحلة الراهنة أمام تحديات خبرها وتصدى لبعضها في ظل الهجمة العدوانية التوسعية متتعدة الأبعاد، الامبريالية والصهيونية والفارسية و العثمانية التي تستهدف مزيد من تقسيم الأمة لكيانات صغيرة معزولة على أسس جهوية وإقليمية ومذهبية، لمزيد من الهيمنة والتبعية والإلحاق بالسيطرة على المقدرات والموارد والقرار السياسي ،وضمان تفوق وسيطرة العدو الصهيوني من خلال مشاريع التطبيع.
إن المخطط الامبريالي الصهيوني وتناغمه مع الأطماع الفارسية والعثمانية بات واضحاً وضوح الشمس لاسيما في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وليبيا وعليه فإن من أهم أولويات الفترة الراهنة لدى البعث هي خلق جبهة شعبية عربية واسعة من مختلف التيارات والمكونات الوطنية والقومية الديمقراطية، السياسية والاجتماعية والمهنية، لمواجهة التآمر الداخلي والخارجي على الأمة العربية وأقطارها حول مشروع شعبي عربي ديمقراطي لاستنهاض طاقات الأمة وجماهيرها وأطرها وتوجيه قدراتها كأحد أهم شروط الاستجابة لتجاوز تحديات المرحلة.
على صعيد آخر وضمن التحديات القومية تبرز على سطح الحياة السياسية العربية تيارات الظاهرة السياسية الدينية بمختلف توجهاتها الانقسامية وبتفريعاتها المختلفة لتملأ حالة التراجع القومي منذ حصار العراق وما بعد احتلاله، كما حدث بعد هزيمة يونيو/ حزيران “1967م” من خلال الإساءة المزدوجة للاسلام والعروبة، وافتعال التناقض بينهما ،ووضع تصورها للاسلام، حفاظاً على مصالحها ورؤيتها للحياة الاجتماعية، في معاداة قيم الديمقراطية والتعددية السياسية والفكرية واحترام حقوق الإنسان، متناسقة مع مخطط التجزئة بل ومن أمضى أدواته، ومتناسلة بمسميات وواجهات متعددة “الداعشية والحوثية” ومتلازماتها في المشرق والمغرب.
إن ذكرى ميلاد البعث بعد التجربة الطويلة ضمن هذا السياق تأخذ مطلوبات غاية في الأهمية لاسيما وأن الأهداف المركزية التي تمثل أعمدته الفكرية والسياسية في الوحدة والحرية والاشتراكية ماتزال تتمتع بالجاذبية الجماهيرية والحيوية برغم الظروف القومية والدولية المعقدة والمتشابكة التي تستوجب إعادة التقيّيم والتطوير بالانطلاق من نقطة البداية كما ظل يؤكد القائد المؤسس بضوء التجربة والممارسة ومراجعة وتقيّيم شفاف على مستوى الفكر والتنظيم والسياسة وممارسة الحكم وتحديد أولويات المرحلة.
الواقع العربي مابعد احتلال العراق “2003م” وحتى اليوم يتسم بحالة من السيولة والاختراق لدى العديد من الأنظمة، يظهر ذلك جلياً في حالة الغياب الكبير للعمل العربي المشترك إزاء التحديات القومية المتعلقة بالأمن القومي العربي التي شكلت اختراقات أمنية في عدد من الأقطار العربية بتهديد سلامة الكيان الوطني فيها بالتقسيم والتفتيت “السودان، العراق، ليبيا، سوريا، اليمن … إلخ”، من ناحية أخرى تقسيم جبهة الموقف العربي الموحد تجاه القضية الفلسطينية الذي تبدو ملامحه في التنصل من المسؤلية القومية وممارسة الخيانة بالتعاطي مع مشروع التطبيع مع العدو الصهيوني”مصر، المجلس العسكرى في السودان، الإمارات، البحرين، سلطنة عمان، موريتانيا، المغرب،… إلخ”..
تشكل قضايا الديمقراطية والتعددية والحريات وحقوق الإنسان ومواجهة أنظمة الاستبداد والفساد إحدى ملامح ثورات التغيّير التي تنتظم الوطن العربي منذ مطلع الألفية في إطار الانتفاضة الشعبية العربية والتي أسهم فيها البعثيون بجهد مقدر في مختلف الساحات مع القوى الوطنية الديمقراطية، سترسم ملامح فجر عربي جديد رغم تعثراتها في بعض الساحات واستمرار مخطط حرفها إو احتوائها.
إن ضبابية المشهد العربي وتقاطعاته الداخلية والخارجية تفرض على البعث وهو يحتفي بميلاده الخامس والسبعون مسؤلية كبيرة في رسم مشروع شعبي استراتيجي قومي، بالاستناد إلى تجربته الطويلة لتجاوز حالة الانكشاف القومي الماثلة والذي يتمظهر فى مصادرة الحريات والتضيّيق على الجماهير ومعاداة الديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية، مما عمق الفجوة بين الجماهير والمنظومة السلطوية ونخبها.