الوطنية السودانية هي العروبة والعروبة السودانية هي الاسلام

الوطنية السودانية هي العروبة والعروبة السودانية هي الإسلام

من كتابات القائد الموئسس احمد ميشيل عفلق

يعزّ عليّ ان يكون لقاؤنا بهذه المناسبة الأليمة(1)، مناسبة غياب قائد عربي من القادة الذين يتركون فراغا بغيابهم، ولم نكن نتوقع ان تنتهي حياة هذا المناضل والأخ العزيز بهذا الشكل المفاجئ بينما كنا نعلق الآمال الكبيرة على دوره في النضال الوطني والقومي، ولكنها إرادة الله، وليس لنا إلا ان نتأمل الحكمة في هذه الخاتمة لرفيقنا وأخينا المرحوم الشريف حسين الهندي.
هل هي خاتمة النضال؟ هل ستضعف نضالنا ونضال الحركة الوطنية في القطر السوداني العزيز أم إنها ستعطي أعمق وأروع معنى لحياة الفقيد الكبير، إذ تكون إنضاجا وتكثيفا للمعاني النضالية التي عاش من أجلها، فتعمل في النفوس وفي الاحداث اكثر مما لو كان حيا؟ وهي بهذا تعبر عن صدق نضال هذا القائد، لأن الموت إذا تأملناه هو النور الذي يشع على حياة الانسان ويضيؤها ويُبرز أعمق معانيها ويعطيها الشكل المكتمل، لأن الإنسان صاحب القيم الاخلاقية والنضالية لا تنتهي حياته بغيابه الجسماني بل تأخذ إشراقا وإشعاعا جديدا يعبر عن أعماق حقيقتها.
نحن نثق ونؤمن ان النضال الذي عاشه الفقيد بكل صدق، بكل جوارحه، بكل مواهبه، هذا النضال سيستمر وسيقوى، وإن هذه الرابطة التي أوجدها بين الحزب الاتحادي الديمقراطي في السودان وبين حزب البعث العربي الاشتراكي ليس في السودان فحسب وإنما الحزب القومي، هي إن وصفناها بالتحالف فهذا التعبير اصطلاحي سياسي لا يرقى الى قوة تلك الرابطة التي أوجدها وساهم في إيجادها بما وضعه من إخلاص في البحث والسعي لتوحيد الجهود، ليس في نطاق سياسي محدود فقير، وإنما في إطار عربي قومي حضاري. هذا التحالف، هذه الرابطة الأخوية الصحيحة ستستمر وتقوى وتتعمق، وستكون روح الفقيد الشريف حسين الهندي حاضرة دوما تلهمنا وتوحي بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، والثقة بشعبنا الأصيل، بشعبنا العربي بكل أقطاره، لأنه هو منبع الثقة ومنبع الإيمان.

أيها الإخوة الاحباء

عندما التقيت ذلك اللقاء الذي لا ينسى مع الفقيد رجعت بالذاكرة الى الأربعينات، وذكرت له زيارة الوفد الإتحادي لسورية في ذلك الحين، ذكرت ذلك لأن السودان في تفكيرنا وفي قلوبنا، السودان موجود منذ بداية حركتنا، له المكانة العزيزة، له الدور العربي، له الأصالة التي ننتعش بها. فمنذ الاربعينات -وكانت حركتنا في بدايتها- كانت لنا هذه اللقاءات مع الإخوة المناضلين السودانيين، ومنذ ذلك الحين كان ثمة أكثر من سبب وأكثر من رابطة تجمعنا بأولئك المناضلين، وتوجِد هذا الجسر الفكري بين حركتنا وبين الحركة الوطنية في السودان، واننا كما تعرفون، لم نرد أن تكون حركتنا مجرد حركة سياسية، لأننا استلهمنا الشعب وفهمنا بأن فشل وتعثر الحركات والاحزاب السياسية في أقطارنا العربية كان مرده -في أكثره- إلى أن هذه الاحزاب لم تكن لتروي ظمأ جماهيرنا، ظمأ شعبنا الاصيل. شعبنا ظامئ لنهضة حضارية، شعبنا متهيئ ليقظة روح الرسالة العربية فيه. هذا الشعب الذي لن ينسى تاريخه، والذي عاش قبل قرون تلك الملاحم من البطولات ومن الانجازات الحضارية والأخلاقية التي خلقت للعالم بأسره مناخا ساميا جديدا، مناخا روحيا، هذا الشعب لا يرتضي العمل السياسي الاحترافي إن لم يجد أن له صلة بقيمه الروحية، بتراثه الخالد، ولا ندّعي أننا أوجدنا شيئا جديدا وإنما كل ما فعلناه أننا أصغينا لروح الشعب، إلتقطنا الصوت العميق لضمير الشعب، التطلع الصادق لجماهير أمتنا العربية لأنها تريد وتتوق الى نهضة شاملة وإلى حياة كاملة يسودها الإنسجام ويختفي فيها التناقض، ولا تحقق تقدما في مجال على حساب قيمة أخرى عزيزة، لا تدخل العصر وتمتلك أدوات الحداثة على حساب تراثها وقيمها الروحية وماضيها وتاريخها. هذا التصور الذي هو بسيط وغير معقد، ولم يكن يحتاج لأكثر من الحس الصادق والنفس الصافية، المحبة للشعب والمحبة للأرض. وأعرف بأننا نلتقي وإياكم على هذه الصورة، على هذا التصور بأنكم أنتم أيضا تريدون وتعملون من أجل نهضة حقيقية ونهضة عميقة للإنسان العربي في كل جوانب نفسه وشخصيته، وفي كل ملكاته، أن يكون الإنسان العربي المكتمل الشخصية، المؤمن بدينه، بتراثه، برسالة أمته، وفي الوقت نفسه الإنسان العصري المتحضر المسيطر على وسائل الرقي لكي يصمد في التنافس مع الدول والأمم القوية، ولكي يعطي ويعبر عن جوهر العروبة وقيمها الاخلاقية، ليس بالشكل السلبي، شكل الشكوى والضعف، وانما بالشكل الإيجابي من منطلق القوة والثقة بالنفس والقدرة على العطاء. وعندما أقول عروبة، تعرفون بأنني أقول الإسلام ايضا، لا بل أولا. العروبة وجدت قبل الاسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا وهو الذي أوصلها الى الكمال، وهو الذي أوصلها الى العظمة والى الخلود. هو الذي جعل من القبائل العربية أمة عربية عظيمة، أمة عربية حضارية، فالإسلام كان، وهو الآن، وسيبقى روح العروبة، وسيبقى هو قيمها الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية. هذا هو الإخلاص للشعب، هذا هو حب الشعب، هذه الحقيقة.. صحيح أننا نصل اليها في المطالعة وفي قراءات التاريخ، ولكننا نصل اليها بصورة أعمق وأصدق عندما نقترب من شعبنا ونصغي الى دقات قلبه والى خلجات ضميره، الى هذا الترادف، هذا التمازج بين العروبة والإسلام.
العروبة أيها الإخوة ليست شيئا مختلفا عن الوطنية، وليست شيئا نرتقي إليه بعد الوطنية، وليست شيئا خارج حدود القطر، العروبة هي الوطنية، هي وطنية كل مواطن في أي قطر عربي. إذا عرفنا كيف نقرأ نفَس المواطن، وكيف نكشف له عن حقيقة مشاعره وانتمائه وتطلعاته، ولقد أراد الاستعمار الأجنبي وأعداء الأمة العربية والصهاينة والشعوبيون، ومازالوا يحاولون، أن يخلقوا تناقضات تضعف من قوة العرب وتعيق وحدتهم، فتارة الوطنية المحلية توضع في وجه العروبة، وتارة توضع العروبة في وجه الإسلام، وهكذا.. فعندما يأتي ساسة منحرفون أو مرتبطون بالعمالة للأجنبي ويقولون مصر مصرية، يقصدون إبعادها عن العرب بهذا الإلحاح على الهوية المصرية. نحن نؤمن بأن الشعب المصري هو مصري بقدر ما هو عربي، وهو عربي بقدر ما هو مصري، ولا فرق بين مصريته وعروبته إذا عرفنا كيف نرفع عنه هذا التضليل الثقافي الهجين الدخيل الذي يسلطونه عليه منذ اكثر من قرن. ونحن إذا كنا نراقب ونصطدم أحيانا بمثل هذه التناقضات المصطنعة المفروضة في بعض الاقطار، فإننا مطمئنون الى إنها في السودان غير واردة. فالوطنية السودانية هي العروبة بعينها والعروبة السودانية هي الإسلام في جوهره.
أنتم أيها الإخوة في بغداد.. في بغداد العرب التي تخوض منذ عام ونصف العام حربا دفاعية تدافع فيها عن هذه القيم، تدافع فيها عن هذا التصور للنهضة العربية، تدفع عنها وعن سائر العرب وعن المستقبل العربي شر هجمة مفتعلة فيها كل الافتعال لإيجاد تناقض بين العروبة والاسلام، لإضعاف العروبة في وقت يتكالب فيه الاعداء من كل صوب، الإمبريالية بكل ثقلها والصهيونية بكل شرورها على الأمة العربية لتمزقها مزقا، ولتمزق الشخصية العربية، شخصية الإنسان العربي، لتملأ نفسه بالتناقض، بالشكوك، لأن يفقد ثقته بنفسه وبأمته وبمستقبله ومستقبل أمته. في هذا الوقت بالذات يفتعلون معركة تقوم على خلق هذا التناقض وعلى هذا الادعاء، ولكن العراق، عراق البعث، كان أهلا وجديرا بأن يرد عن أمته كيد هذا الافتراء وهذا العدوان، كان مؤهلا بالنهضة الحديثة التي بناها لنفسه بعد ثورة الحزب، وفي الروح التي يستلهمها، وفي العقيدة التي يهتدي بها، كان مؤهلا أن يرد كيد الشعوبية الحاقدة التي لا تريد لأمتنا أن تنهض من جديد بالرسالة العربية، وأن يجسد العراق في هذه الحرب الدفاعية معالم المستقبل الذي يطمح اليه العرب، ومعالم الشخصية التي يطمح اليها الانسان العربي الجديد. فنحن أيها الإخوة نعرف بأننا داخلون ومنذ عشرات السنين في معركة قومية حضارية مع العقلية الإستعمارية والعقلية العنصرية والاطماع التوسعية التي مثلها الغرب الاستعماري واستخدم العنصرية الصهيونية، كما استخدمته هي لتحقيق مآرب في مؤداها تمزيق لأمتنا وتعويق لنهضتها إن لم يكن تآمرا على وجودها. فالمعركة الحضارية التي يجب أن نتهيأ لها ونوطد أنفسنا لعشرات السنين كي نخرج منها منتصرين، إنما تتطلب هذا التصور الكامل الشمولي للمجتمع وللإنسان لكي نستطيع أن نلبي أعمق ما في قلوب جماهيرنا العربية من تطلعات، ونفجر أعمق ما تختزنه من طاقات، عندما ترى الصورة التي تحلم بها فإنها تعطي بدون حساب. وانا أكرر بأنني مطمئن للقاء، للتلاقي الصميم بيننا وبين الحركة الوطنية السودانية والحزب الاتحادي الديمقراطي على هذا التصور للمستقبل العربي للإنسان العربي الجديد، للمجتمع العربي، للحاضر العربي.
كيف نخوض نضالا ناجحا؟ عندما نفهم حاجات الجماهير فهما عميقا، عندما نتجاوب مع هذه الحاجات المادية والروحية، عندما نعطي القدوة، عندما نجسد هذه الأفكار في صور حية، في قيادات النضال وفي أخلاقية النضال، عندما يُحترم الإنسان، عندما يطبق الديمقراطية الحقة، عندها يتنفس شعبنا من جديد هواء الرسالة، جو الحضارة، جو النهضة الأصيلة، وكما قلت سوف يعطي في النضال وفي التضحية وفي الإبداع أضعاف ما نطلبه منه والسلام عليكم.

14 كانون الثاني 1982

(1) حديث مع وفد حزب الاتحاد الديمقراطي السوداني في 14/1/1982.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.