(الحلقة الثانية)رؤية الحد الأدنى للقوى السياسية والاجتماعية للفترة الراهنة من منظور حزب البعث العربي الاشتراكي

من منطلق المسؤولية السياسية في الحوار المنتظم بين مكونات الثورة السودانية، بغية الوصول إلى رؤية موحدة لقوى الثورة، تفضي إلى تشكيل برنامج حد أدنى مشترك لإسقاط الانقلاب واستئناف مسيرة الانتقال المدني الديمقراطي وتفكيك بنية نظام الثلاثين من يونيو 1989 وتوابعه، يسر حزب البعث العربي الاشتراكي أن يقدم مجددا رؤيته التي راعى فيها الحد الأدنى من التوافق المطلوب تحقيقه بين قوى الثورة، السياسية والاجتماعية في الفترة الراهنة.

للمساهمة في هذا الحوار الضروري وإثراء هذه الرؤية بما يحقق أوسع قدر من التفاعل، تنشر الهدف في حلقات الورقة المقدمة من حزب البعث العربي الاشتراكي “الأصل” بهذا الخصوص.

رؤية الحد الأدنى للقوى السياسية والاجتماعية للفترة الراهنة من منظور حزب البعث العربي الاشتراكي
الحلقة الثانية:
خلفية تاريخية للأوضاع الراهنة:
انقلاب 25 أكتوبر – 21 نوفمبر 2021، ليس مجرد حدث عارض أو تحول مفاجئ في مسيرة شعبنا، وإنما هو نتاج مباشر لسلسلة طويلة من التراكمات السياسية والاجتماعية والتدخلات الإقليمية والدولية، بتقاطعاتها وتوافقاتها المختلفة.. يمكن الحديث عن عدد من العناصر والتوجهات الفاعلة في حركة المجتمع السوداني، والتي أدت تفاعلات حركتها (تقاطعا وتوافقا)، إلى إطلاق سلسلة من الأفعال وردود الأفعال، قاد إلى الصورة الراهنة لواقعنا السياسي والاجتماعي. هذه العناصر والتوجهات يمكن إجمالها فيما يلي:
• الآثار المترتبة على أنظمة دكتاتورية استطالت لفترة تجاوزت ال 52 عاماً من سنوات الاستقلال، كانت الأخيرة منها بغطاء ديني حاول إعادة صياغة المجتمع السوداني، وفق توجهاته الطفيلية الظلامية، الأمر الذي قاد إلى اضعاف تأثير عناصر التنوير المعرفي والتحديث الاجتماعي، وغياب أو تغييب دور النخب المثقفة والقوى الحية المنتجة في البلاد..
• انزواء روحية التعامل مع الشأن السياسي والاجتماعي، بعقلية المواطنة لتحل مكانها عقلية الولاء الإثني، أو القبلي، أو المناطقي، أو الانتهازى بديلاً لها.. والنتيجة المباشرة لذلك هو تراجع أشكال الانتماءات المتقدمة (الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني)، لتحل محلها أشكال متخلفة (الانتماء للمنطقة أو القبيلة أو الإثنية).
• توقف حركة العصف الذهني، والحوار الفكري حول الأفكار السياسية والاجتماعية، التي سادت خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لتحل محلها البدائل الظلامية التي سادت بعد توقف الاجتهاد فى مرحلة الانحطاط والهيمنة، والتي تحنط عقلية المواطن في منظومة جامدة وساكنة، لا تقبل الخروج من ضيق التفكير الغيبي، إلى وسع رحاب الجدل الفكري والسياسي والاجتماعي والتعددية.
سيادة نمط التغيير السياسي المقترن بالتأثيرات القبلية والنزاعات المسلحة، على نطاق واسع في قارة أفريقيا على حساب البعد الوطني.
• تراجع المد الوطني والقومي على المستوى العربى والأفريقي، نتيجة حرب أكتوبر 1973، وغزو واحتلال العراق، وما تبعها من دعوات استسلامية، ليصبح محيطنا العربي والأفريقي، مجالاً مفتوحاً لتطبيق مخططات القوى الإمبريالية الصهيونية، والتوسعية الفارسية، والعثمانية الرامية إلى تفتيت الوطن العربي، وإعادة رسم الخرائط، وصياغة وتركيب كل هذه المنطقة حسب مقتضيات مصالحها، وتوازنات القوى فيما بينها.. ووصل هذا التراجع قمته بالغزو الثلاثيني للعراق، وما تبعه من ظواهر التطرف الإسلاموي، بشقيه السني والشيعي، وتوطين وتجذير الانتماءات الطائفية والعرقية والجهوية العابرة للانتماء القومي والوطني.. تجسد ذلك فيما تعرض له العراق، وتمر به كلا من سوريا واليمن وليبيا.

هذه العناصر والتوجهات ألقت بظلالها على حركة المجتمع السوداني، وكانت نتيجتها المباشرة على الحراك السياسي، بروز اتجاهات فاعلة فى مجتمعنا وحركتنا السياسية تبلورت في:

1 – بروز الحركات السياسية التي تستخدم الإسلام كأيدولوجية، وتستند فكرياً إلى الماضي، متجاهلة أسباب التخلف في مجتمعاتنا، وتحالف هذه الحركات مع الأنظمة الدكتاتورية، وفئات الرأسمالية الطفيلية، وتبعيتها لقوى إقليمية ودولية.

2 – تراجع المد القومي الثوري، نتيجة لاشتداد الهجمة الامبريالية الصهيونية، وتحالفها مع الأنظمة الرجعية العربية، وآثار هزيمة يونيو 1967.

3 -ضمور وتراجع اليسار الماركسي جماهيرياً، وبروز تيار قوي في داخله يدعو لمراجعة فكرية وتنظيمية، خاصة بعد سقوط المعسكر الشيوعي، بفعل القوى المعارضة له من داخله، الأمر الذي أدى (مقروءاً مع تراجع المد القومي الثوري) إلى حدوث حالة فراغ فكري، نتج عنها تسرب وغلبة الأفكار اللبرالية وإعادة النظر في الموقف من الامبريالية العالمية، والتجربة اللبرالية في أوروبا الغربية.

4 – تراجع الوعي المطلبي المرتبط بالتنظيم النقابي (لا سيما مع إجازة قانون نقابة المنشأة)، والمنظمات الديموقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، نتيجة لسيطرة الأنظمة الدكتاتورية من جهة، ولغياب أو تغييب الوعي بهذا الجانب.. واتساع هجرة الكوادر المهنية.. وتمدد نشاط القطاع الخاص على حساب القطاع العام والتعاوني، على الصعيدين الإنتاجي والخدمي.

5 – بروز ظاهرة العمل المسلح وسيلة لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية، ونتج عن هذه الظاهرة تراجع الانتماء الوطني إلى الانتماءات الإثنية أو القبلية أو الجهوية، وتدهور الخدمات والبني التحتية، وما اقترن بها من هجرة ونزوح.

6 – تعاظم دور مؤسسات التبشير بالنظام العالمي الجديد، الذى تسيطر فيه النيولبرالية اقتصادياً، وفكرياً وأخلاقياً. اتخذ التبشير أدوات متعددة (أجهزة مخابرات، تمويل واجهات ومنظمات، أجهزة إعلام… الخ) مع تآكل مفاهيم السيادة والاستقلال الوطني. هذه العوامل ونتائجها المباشرة وغير المباشرة هي الإطار الاجتماعي والسياسي الذي يمكن من خلاله تقييم انقلاب 25 أكتوبر – 21 نوفمبر 2021.