البعث ومسألة جنوب السودان

 

البعث ومسألة جنوب السودان (دراسة)

تمهيــــــــد :

دور الاستعمار البريطاني في خلق مشكلة الجنوب

تشكل قضية جنوب السودان إحدى القضايا المزمنة والموروثة من العهد الاستعماري البريطاني في السودان (1898-1956) ، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة على حكم السودان بعد الاستقلال في وضع حل جذري وحاسم لها وظلت الحرب الأهلية الطويلة في الجنوب تستنزف إمكانيات السودان البشرية والاقتصادية وتكبل قطرنا من السير في طريق التنمية والتطور والاستقرار ، وتشل دوره في حركة النضال العربي والأفريقي من أجل الوحدة والنهوض ومواجهة التحديات الاستعمارية الجديدة .

لقد كانت السياسة البريطانية في جنوب السودان منسجمة مع السياسات الاستعمارية الغربية عموماً تجاه أفريقيا .. تلك السياسة التي قامت على نهب ثروات شعوب القارة وإستعباد شعوبها ، ومسخ هوياتهم تحت شعار ( عبء الرجل الأبيض) ، وإذا كانت أفريقيا قبيل تلك المرحلة تتفاعل ومنذ أمد بعيد مع الثقافة العربية الاسلامية وبدرجات متفاوتة ، كانت السياسة الاستعمارية الغربية تتركز على استئصال عمليات التفاعل والتكيف الثقافي الحر عبر الاتصال الثقافي والاقتصادي بين شعوب القارة .

وإذا كانت بريطانيا تفاخر بأن سياستها الاستعمارية بوجه عام كانت تقوم على إحترام الخصائص الثقافية والأنثروبولوجية لشعوب المستعمرات ومارست هذا الشعار فعلاً في الكثير من مستعمراتها .. إلا أنها مارست العكس تماماً فيما يتعلق بجنوب السودان .. حيث عملت على تغيير إتجاهات أبناء الجنوب بالضد من اخوانهم في الشمال .. وعبر وسائل خبيثة وحاقدة تقوم على الدعاية السوداء والحرب النفسية ، وعندما شعرت بقصور هذه السياسة لجأت الى أساليب القوة بخلق المناطق المقفولة ، وفرض ثقافتها الانجليزية ذاتها على الجنوب .

إن سياسة الدمج الثقافي التي مارسها الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي ، والتي كانت تصفها بريطانيا ( بالغباء ) .. إلآ أنها مارست فعلاً هذا الغباء في جنوب السودان . تلك السياسة التي اتسمت بالتخبط والتناقض .. لم يكن دافعها إقتصادياً فحسب ، بل (الحقد ) والتعالي العنصري ، على الثقافة العربية الاسلامية ، التي قاومت سياساتهم الاستعمارية بشراسة في الشمال الأفريقي ( المهدي ، عرابي … الخ ) .

يركز هذا المبحث على تتبع الجذور التاريخية للسياسة البريطانية في جنوب السودان ، والأساليب التي اتبعتها في خلق الحاجز النفسي بين أبناء جنوب السودان وشماله ، والقائمة على الكذب وتشويه الحقائق التاريخية ، وممارسة كل أشكال التضليل .. ورغم أن هذه السياسة فشلت تماماً في تطوير الجنوب وتنميته ، لكنها نجحت الى حد كبير في خلق المشكلة بين الشمال  والجنوب .

الجنوب في ظل الاستعمار التركي (العثماني) للســــــــــودان 1821-1885 :

لم تشمل حدود مملكتي الفونج والفور العربيتين الاسلاميتين مناطق الجنوب الحالي ، حيث كانت قبائل بحر الغزال والاستوائية تعيش في حروب قبلية مستمرة ، ورغم ذلك كانت هنالك إتصالات تجارية محدودة بين الجنوب والشمال .. تعوقها العوامل الجغرافية وصعوبة المواصلات .

ومع الغزو التركي ( العثماني) للسودان 1821 .. خضعت البلاد لأول مرة لحكومة مركزية واحدة ، إمتد نفوذها الاداري حتى بحيرة فكتوريا ، وأصبح السودان بأسره جزءاً من الامبراطورية العثمانية . ومنذ ذلك التاريخ أصبح جنوب السودان قبلة للمكتشفين والرحالة ، والتجار .. وكان هاجس إعادة إكتشاف منابع النيل ، وجمع المعلومات في الجنوب من أبرز المسائل التي إهتمت بها الادارة التركية .

كما أدى نشر مؤلفات الرحالة . وتوطيد النظام الاداري إلى مضاعفة إهتمام التجار بالجنوب ، وفتح أبوابه على مصراعيها للنفوذ الخارجي . حيث كان النيل هو الطريق الوحيد الذي يربط بين الشمال وشقي أفريقيا ، كما أن مياه النيل كانت تشكل شريان الحياة لمصر . وشهدت تلك المرحلة إندفاع الدول الاستعمارية الغربية للغزو التنافس على إحتلال أفريقيا ونهب ثرواتها .

وعندما عينت السلطات التركية (الجنرال غوردون) البريطاني الجنسية مديراً لمديرية الاستوائية .. قام بتشجيع الارساليات المسيحية الغربية للعمل في جنوب السودان .. ففي عام 1871 حرر خطاباً لاتحاد الارساليات الانجليزية داعياً اياها للعمل بمديريته . وكانت الثقافة العربية الاسلامية في ذلك الحين تتقدم ببط وسط القبائل الوثنية . حيث أن السياسة التركية في السودان لم تول جهودها أي اهتمام بنشر الثقافة العربية الاسلامية . حيث تركزت جهودها في إقامة حاميات في المداخل الرئيسية لطرق التجارة .. لغرض تنظيم تجارة الرقيق وسن الفيل مع الاداريين البريطانيين والغربيين الذين إستعانت بهم السلطات التركية في حكمها للسودان .

ورغم ذلك قاومت القبائل الجنوبية ، الادارة التركية ، ونشاط الارساليات والتجار الأجانب بعنف ، مما عرضها لحملات تأديبية واسعة ، ساهمت في اضعافها وخضوع بعضها . في نفس الوقت الذي كانت فيه القبائل السودانية الشمالية تقاوم المستعمر وتواجه حملات الدفتردار الانتقامية .

من هنا يمكن الاستنتاج بأن الادارة التركية لم يكن لها إلا أثراً سطحياً على جنوب السودان من حيث تفاعله مع الشمال .. بل هي التي ساهمت في فتح الجنوب للنفوذ الأجنبي الغربي والحملات التبشيرية وتجارة الرقيق في جنوب السودان وشماله .

2- الجنوب في ظل الثورة المهدية 1881-1898:

عندما إندلعت الثورة المهدية في شمال السودان تحالفت معها القبائل الجنوبية ضد الاستعمار التركي .. ورغم ذلك لم تتمكن الثورة المهدية من توطيد وبسط نفوذها في كل أرجاء الجنوب  حيث تراجعت جيوش المهدية نحو الشمال بعد أن إصطدمت بالجيش البلجيكي المرابط في الكونغو .. كما أن المهدي كان يتطلع لحشد قواته نحو الشمال بهدف تحرير مصر . لذلك لم يرغب في إشغال نفسه بمعارك جانبية في الجنوب تشتت قواه .

لقد إنتهز الجيش البلجيكي هذه الظروف ليسيطر على منطقة اللادو في جنوب السودان . ورغم ذلك أدى قيام الثورة المهدية الى الحد من النفوذ الاستعماري في أغلب جنوب السودان .. ومن أبرز إنجازات الثورة المهدية إنها حرمت تجارة الرقيق تحريماً قاطعاً ، خاصة في عهد الخليفة عبد الله التعايشي .

3- الجنوب في ظل الاستعمار البريطاني (1898 – 1956 ) :

بعد الغزو البريطاني للسودان وإحتلاله في عام 1898 وقع الجنوب مرة أخرى تحت النفوذ الأجنبي – وبرز الصراع البريطاني الفرنسي – البلجيكي على منطقة اللادو .. ويعكس الصراع الاستعماري على الجنوب أهميته الستراتيجية والتجارية بالنسبة للدول الاستعمارية .

لم يسلم أبناء الجنوب بالهيمنة الأجنبية . بل دخلت القوات البريطانية في معارك طاحنة مع القبائل الجنوبية . خاصة مع قبائل النوير والدينكا العاليات واللادو وغيرها .. لذلك واجهت السلطات البريطانية مشكلتين أساسيتين في جنوب السودان مع بداية الاحتلال:

1- توطيد النظام الاداري وإخضاع وتأديب القبائل المعادية له وذلك بانشاء حاميات تحت اشرافه ، حيث لم تستتب الأمور إلا بعد إنشاء تلك الحاميات في عام 1900 حيث إقتصرت جهودها في بادئ الأمر على سيطرتها على المناطق والمراكز التي سبق للادارة التركية السيطرة عليها .

ومع إكتمال إخضاع الجنوب نشطت السلطات البريطانية من جديد في تشجيع عمل الارساليات المسيحية الغربية .. ولم يكن هدف هذه الارساليات هو مجرد القيام بالتبشيرالديني .. فإن كان الأمر يتعلق بهذا الشأن فلا إعتراض على ذلك ، ولكنها كانت تقوم بدور سياسي ودعائي خبيث يستغل الغطاء الديني لتحقيق أهداف الاستعمار البغيض . وكانت الدعاية الدينية لا تقوم على قيم المحبة والسلام كما هو شأن الدين المسيحي ، وإنما كانت تقوم أساساً على إثارة الحقد والبغضاء ، ونشر الكراهية بين أبناء الجنوب وإخوانهم في الشمال .. برغم أن الشماليين أنفسهم كانوا خاضعين للاستعمار التركي وقاوموه في أروع وأشجع ثورة وطنية وهي الثورة المهدية ، وحاولت هذه الارساليات تحميل الشماليين أوزار وجرائم الاستعمار التركي ، برغم معرفة البريطانيون ومخططي الارساليات الغربية بمواقف العرب مسلمين ومسيحيين من الاستعمار العثماني ، وكيف قاوموه ببسالة في ثورات مشهودة في المشرق والمغرب ، برغم ذلك كان الخطاب الدعائي الاستعماري للارساليات الغربية يتعمد الخلط بين العرب والأتراك .. ويصور لأبناء الجنوب بأن العروبة والاسلام هي الثقافة التي  مارست الرق في السودان ، والايحاء بأن العرب والمسلمين في الشمال هم الذين يتحملون تلك الجرائم برغم أنهم كانوا أول ضحايا الاستعمار التركي والبريطاني وجرائمه .

مخططات فصل جنوب السودان ومحاربة الثقافة العربية الاسلامية:

في عام 1911 تقدم مدير مديرية منجلا ومنطقة اللادو (ر.س أوين)  بإقتراح للحكومة المركزية يكون هدفه (( تكوين مجموعة كبيرة من الأفراد المسيحيين الجنوبيين ترتبط مع الزمن بسكان يوغندا ، وتكون حائلاً دون انتشار الدين الاسلامي )) . وفي عام 1918 إعتبرت الادارة البريطانية يوم الأحد عطلة رسمية بالجنوب واللغة الانجليزية هي اللغة الرسمية فيه .

وفي عام 1920 كتب أوين يقول : (( لقد حان الوقت لفصل هذه المديرية ( أي مديريته ) عن باقي أجزاء السودان . أو اقرار سياسة أكثر حزماً بالنسبة للادارة )) (1) .

وفي مذكرة قدمت للجنة (ملز) أوضحت الحكومة البريطانية سياستها الانفصالية تجاه الجنوب ، حيث قالت : (( إن الحكومة عازمة على إستبعاد أي نفوذ للدين الاسلامي عن الجنوب (..) وأن يوضع في الاعتبار إحتمال فصل جنوب السودان ( الأسود) )) عن شمال السودان العربي . وإرتباط الجنوب ببعض بلدان أفريقيا الوسطى(2) .

ومنذ عام 1921 إتجهت الادارة البريطانية إلى اتباع سياسة محددة في جنوب السودان ، قامت على محورين :-

1- العمل على استبعاد المآمير المصريين وتدعيم سلطات مفتش المركز البريطاني في كل مديرية .

2- إقامة محاكم قبلية من رؤساء القبائل لتطبيق أحكام العرف القبلي .. وفي عام 1922 صدر قانون الجوازات والهجرة . وقد منح هذا القانون الحاكم العام البريطاني الحق في أن يعتبر أية منطقة شاء ، منطقة مغلقة ، كما أعطت المادة (22) للحاكم العام الحق في اعتبار أية منطقة .. منطقة مقفولة كلياً أو جزئياً سواء للسودانيين أو غيرالسودانيين ، وأعطت المادة (23) الحاكم الحق في أن يعتبر أي منطقة مغلقة بالنسبة للتجارة الخارجية ، وفي أن يعتبر أي جزء من السودان منطقة مقفولة للتجارة إلا بالنسبة للأهالي المحليين الذين يقيمون بالمنطقة . وكان للحاكم أيضاً بمقتضى المادة (29) الحق في منع العمال من أي جزء من السودان من ممارسة العمل خارجه أو في أي مكان آخر بالسودان (3)! .

وفي عام 1924 وزع المستشار السياسي المختص في علم الأجناس (ج. هـ . دريبيرج) مذكرة عن الصعوبات التي تنشأ في وجه سياسة تدعيم النظام القبلي ، وكان الأمر المهم في نظره هو ضرورة قيام تعليم هادف الى (( بعث الوعي والروح القبلية )) (4) . قبل محاكم رؤساء القبائل بآداء وظائفها المنوط بها آداء حسناً (…) أي تقوية الادارة الأهلية في الجنوب ، كما هو الأمر في الشمال .

وعلى ضوء مقترحات دريبيرج أرسل السكرتير الاداري لحكومة السودان (ماكمايل) مذكرة للمديرين بالمديريات الجنوبية ، إقترح فيها إنشاء مجالس استشارية محلية في كل مركز وكان الهدف من هذه السياسة ، هو تعزيز نظام الادارة الأهلية القائمة على تقوية الزعامات القبلية والطائفية في مواجهة الشعور الوطني الوحدوي النامي بعد ثورة (1924) الوطنية في الشمال .

وفي عام 1928 عقد مؤتمر بالرجاف حول اللغات في جنوب السودان ، والذي دعت اليه الحكومة وحضره مندوبون عن الارساليات من يوغندا والكونغو والمعهد الدولي للهجات والثقافة الأفريقية . فقد كان هدف المؤتمر هو وضع الأسس لتطويراللهجات المحلية واللغة الانجليزية والحد الشديد من استخدام اللغة العربية . وأختيرت لهجات محلية هي لهجات الدينكا والباري والنوير واللاتوكا والشلك والزاندي ، باعتبارها لهجات التعليم في المرحلة الأولية ، ورفض إستخدام اللغة العربية رفضاً تاماً بإدعاء أنها ستنشرالاسلام في ربوع الجنوب وتؤدي الى تعريبه ، وإدخال فلسفة أبناء الشمال في جميع أصقاعه !.

وفي عام 1930 وضع السير (هارولد ماكمايكل) السكرتير الاداري لحكومة السودان مذكرة عن سياسة الحكومة في الجنوب والعمل بهديها تتلخص في الآتي (5) :-

1- إنشاء وحدات قبلية في الجنوب تعتمد على تنظيم يستند على العرق والتقاليد والتراث القبلي .

2- التخلص من الاداريين والموظفين والمهنيين الشماليين تدريجياً على أن يحل محلهم أبناء الجنوب .

3- إستخدام اللغة الانجليزية للتفاهم حينما يتعذر استخدام اللهجات المحلية .

وقد جاء في المنشور الدوري الصادر عن السكرتير الاداري بتاريخ 25/1/1930 ما يلي : (( إن محاربة استخدام اللغة العربية مسألة ضرورية لتنفيذ أغراض الخطة العامة .. لأن العربية سيقل استخدامها تدريجياً لأنها ليست لغة المحكومين أو الحاكمين )) (6) .

كما إدعى المنشور .. وتطبيقاً لتلك السياسة طلب مدير بحرالغزال من مفتشي المراكز بأنه (( يجب منع استخدام الكلمات العربية مثل الشيخ ، السلطان .. الخ ، واستخدام ما يقابلها باللهجات المحلية ، وإذا تعذر ذلك وجب استخدام المصطلحات الانجليزية ، كما يجب عدم تشجيع رؤساء القبائل والأهالي باطلاق الأسماء العربية على أنفسهم وأولادهم )) . وطلب من المفتشين بأن يطالبوا التجار بمديرية بحر الغزال ، بأن لا يستخدموا العربية عند التعامل مع العملاء ، ولا يتحدثوا إلا باللغة الانجليزية أو اللهجة المحلية . ومنع أحد المفتشين ببحر الغزال التجارمن بيع الملابس ذاتالطابع الشمالي .. كما حرم على رؤساء القبائل شراءها ، لكي يتسنى لهم السير عراة ، وفق العرف القبلي الطبيعي ، وأمر بأنه ((يجب أن تكون القمصان قصيرة ، على أن تكون ذات ياقة وفتحة أمامية على الطريقة الأوربية )) ، إن كان لا بد من لبس الملابس !(..) ، كما منع بيع الطواقي التي تلف عليها العمائم وعدم وضع الملابس العربية .

وهكذا كانت السياسة المعلنة في جنوب السودان في مطلع يناير 1930 تطبيقاً لآراء (مفي) في (( وجوب بناء قلاع أهلية محصنة على الحدود التي حددت بخط عرض 8.45ْ لكي يكون الحد الشمالي للسياسة الجنوبية ، وكان الدافع الوحيد لتلك السياسة هو إقصاء النفوذ العربي.

وقد شرح أحد المسؤولين البريطانيين هذه السياسة نحو الجنوب بقوله : (( إن ما تعنيه السياسة بالجنوب هو محاولة جعل أولئك الناس على خلاف عرب البقارة أو رجال الدين المعروفين بقدرالامكان )) . وقد سبق لمكتب الأجانب أن صرح قائلاً : (( بأن بريطانيا كقطر مسيحي لا يمكن لها المساهمة في سياسة تعضد إعتناق الاسلام بين أقوام من الوثنيين يبلغ عددهم 3 ملايين ، وليس لديهم روابط جنسية أو أواصر قربى مع العرب المسلمين )) . وخلاصة ما تقدم أن السياسة البريطانية التي اتبعت في جنوب السودان حتى نهاية عام 1934 كانت على حد تعبير مديرمديرية الاستوائية (( قد جعلت التلاحم السياسي مع الشمال غير متوقع من وجهة نظرالجنوبيين )) .

وفي خطاب للحاكم العام حرره المندوب السامي البريطاني بالقاهرة عام 1945 أوضح الحاكم العام سياسة حكومته نحو الجنوب بقوله : (( إن السياسة المتفق عليها ، هي العمل على أساس أن سكان جنوب السودان أفارقة زنوج ، يختلفون عن سكان الشمال ، وإن واجبنا الظاهر ، هو الاسراع بقدر الامكان ، في تنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والثقافية صوب إتجاه أفريقي زنجي ، وليس وفق الاتجاه العربي السائد بمنطقة الشرق الأوسط ، والذي يتفق مع أصول شمال السودان )) ، وعن ذلك الطريق وحده يمكن اعداد الجنوبيين لمستقبل أفضل ، سواء كان مصيرهم الانضمام الى شمال السودان أو شرق أفريقيا ، وفي حالة الانضمام الى الشمال ، سيكون لزاماً على الجنوبيين بإعتبارهم أقلية تقدمية ، التصدي لأي تغوّل من جانب عرب الشمال ، وفي حالة الانضمام لأي من بلدان أفريقيا ، فإنه يتعين عليهم بذل جهود كبيرة للحاق بالأقطار المتقدمة في شرق أفريقيا )) (7) . وكان السكرتير الاداري (نيوبولد) قد إقترح في عام 1944 إلى الحاكم العام أهمية إعادة النظر إزاء السياسة المتبعة في جنوب السودان في ضوء التطورات السياسية الداخلية والخارجية .

ونتيجة لذلك وضع الحاكم العام مذكرة تضمنت ثلاثة حلول ، تتلخص في الآتي :-

1- ضم جنوب السودان الى الشمال .

2- ضم جنوب السودان الى شرق أفريقيا .

3- ضم أجزاء من جنوب السودان الى الشمال والجزء الآخر الى شرق أفريقيا .

وفي عام 1946 أنشأ المجلس الاستشاري لشمال السودان .. ولم يتمثل فيه أبناء الجنوب .. مما أثار الرأي العام الشمالي ودرست الادارة البريطانية مقترحات الحاكم العام الثلاثة وتوصلت إلى (( أن سياسة حكومة السودان حيال الجنوب ، تقوم في الواقع من أن سكان الجنوب أفارقة زنوج وليسوا عرباً ، وإن كانوا في وضع جغرافي وإقتصادي يجعلهم حسبما يتبين لنا في الوقت الحاضر ملزمين بالتلاحم والاختلاط والنماذج مع عرب الشمال بل الشرق الأوسط ، وذلك بالنسبة لتطورهم حضارياً في المستقبل ، ومن ثم يتعين أن نضمن أن سكان الجنوب مؤهلون عن طريق التعليم والتنمية الاقتصادية للمساواة مع شركائهم سكان الشمال ، سواء من ناحية اجتماعية أو إقتصادية )) (8) . ورغم إعتراض بعض الاداريين البريطانيين لهذه السياسة الجديدة .. أعلن المستر ( ولسن ) مفتش مركز نهر الجور ، تأييده للسياسة الجديدة قائلاً : (( إن أفضل مستقبل يمكننا نحن الانجليز أن نهيئه للجنوب باعتباره نداً للشمال .. هو تحقيق الاتحاد بينهما )) (9) . وقد أبديت فكرة الحكم الذاتي الاقليمي أو الاتحاد الفدرالي بين الشمال والجنوب ، بإعتبارهما الغاية التي ترسمها السياسة الجديدة لأول مرة ، ولقد تبنى السياسيون الجنوبيون فيما بعد ، تلك الفكرة إذ نادى البعض بالاتحاد الفدرالي وآخرون بالحكم الذاتي باعتباره الحل الوحيد للمشكلة .

وفي عام 1947 إنعقد مؤتمر إداري لمديري المديريات في كل السودان أوكلت اليه مهمة معالجة ربط الجنوب بكل من الحكومتين المركزية والمحلية .. وقد أوصى المؤتمربربط الجنوب بالشمال ، وأن يكون للجنوب ممثلون في الجمعية التشريعية (..) ونادى أعضاء المؤتمر بوجوب إلغاء بعض مواد قانون الرخص التجارية لعام 1925 وتوحيد السياسة التعليمية في كل من الشمال والجنوب ، وتعليم اللغة العربية بمدارس الجنوب ، وتطوير طرق المواصلات بينهما ، وتشجيع التوسع في حركة التنقلات بين الموظفين العموميين في جميع أنحاء القطر، وتوحيد شروط الخدمة العمومية، الأمر الذي يساعد إلى حد كبير على توحيد أبناء الجنوب والشمال(10).

وعندما نشرت وثائق المؤتمر – أرسل (14) إدارياً بريطانياً عريضة للسكرتير الاداري عبروا فيها عن عدم إقتناعهم بهذه التوصيات ، وطالبوا بعقد مؤتمر إداري للجنوب ، بإعتبارأن قضية الجنوب عالجها رجال غيرمؤهلين .. وفي الوقت غير المناسب وإقترحوا تكوين مجلس استشاري لحماية مصالح الجنوب ، وتوفير الضمانات لعدم تنفيذ أي قانون يصدرعن الجمعية التشريعية في الشمال إلا بعد موافقة الحاكم العام التي يستأنس قبلها برأي المجلس الاستشاري الخاص بالجنوب . وكان من رأيهم أن الحكم الذاتي أو الفدرالي هو السياسة الوحيدة الصحيحة التي تضمن تحقيق مصالح الجنوب .

مؤتمرجوبا الاداري لمديريات الجنوب1947 والاتجاه نحو الوحدة:

وافق السكرتيرالاداري على عقد المؤتمر المقترح تحت رئاسته شخصياً حضره مديري المديريات الجنوبية الثلاث ، ومدير شؤون الخدمة و(17) زعيماً ومتعلماً من الجنوب وستة من أبناء الشمال وخرج المؤتمر الذي إنعقد في 12-13/6/1947 بالنتائج التالية (11) :-

1- إعتراف جميع الأعضاء باستثناء زعماء الاستوائية بأن الوحدة السياسية بين الشمال والجنوب ضرورة لا بد منها ، وأيدوا الفكرةالقائلة بأن الفصل بينهما أمر غير وارد .

2- الاعتراف بأن الجنوب لا يستطيع أن يستقل بشؤونه ، كما أنه لايرغب في الاتحاد مع يوغندا .

3- إن محاولة فصل الجنوب عن الشمال ، لو تم تحقيقها ، ستلحق ضرراً جسيماً بكل من الشمال والجنوب ، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية .

4- كرر الجنوبيون الاشارة لواقع تخلفهم إقتصادياً وحضارياً.

5- هناك مخاوف كثيرة لدى الأعضاء الجنوبيين ، من نوايا الشمال ، وعزموا على مقاومة أية سيطرة من جانبهم .

والواقع أن الارساليات المسيحية في الجنوب لم تكن موافقة إطلاقاً على نتائج هذا المؤتمر .. وفي هذا الصدد ذكر (ج. سبنسر ترنجهام) سكرتير مجلس الارساليات بجنوب السودان ، قائلاً (( إننا نعلم أن الشعار الذي يطلقه مثقفوا الشمال بوحدة السودان ، لا يقوم على أساس البتة في واقع الأمر ، ولولا الصدفة التي جاءت بالحكم الغربي ، لما أمكن توحيد الحكم بين أقوام متناثرة )) (12) .

ولكن لم يقل هذا الاستعماري الماكر والمتلفح بثوب المسيح ، ما فعلته بعثاته في الجنوب وما زرعته من ألغام .. وبرغم ذلك كانت إرادة أبناء الشعب السوداني في الجنوب والشمال تتجه نحو الوحدة والتآخي .. وهي الحقيقة التاريخية الخالدة حتى لوعبرت عن نفسها في لحظة واحدة وغابت بقمع الأجنبي .

مشكلة الجنوب في مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي 1956 :

طوال الفترة من 1953-1958 إنعكست عوامل التأثير على تقرير المصير والاستقلال بصورة سلبية على جنوب السودان . وقد إنبثقت العوامل الرئيسية التي اسهمت في رسم الأحداث فيه من تخلفه الشديد وإحساسه بالعزلة السياسية .

فمع إنعدام التنظيمات السياسية التي يمكن أن تعبر وتدافع عن آمال وتطلعاته . كان من السهل أن تفوت آراء الجنوبيين على الصفوة السياسية في الشمال أو يتم تجاهلها عن عمد . إذ لم تسفر إنتخابات 1953 عن أي أسس يمكن أن تنهض عليها حركة سياسية تمثل الجنوب ، فغالبية الساسة الجنوبيون الذين نجحوا في الانتخابات وصفوا أنفسهم بأنهم ينتمون للحزب الجنوبي ولكن لم يكن لهذا الحزب تنظيماً ولا برنامجاً ولاقيادة مقبولة ، كما أن طبيعة الولاءات السياسية المطاطة والهلامية للنواب الجنوبيين أدت إلى تقلبهم بين الأحزاب الشمالية والحزب الليبرالي الذي أسسه النواب الجنوبيون لم يكن أكثر من رقم برلماني وكان باستمرار عرضه للانقسامات والصراعات حول السياسة والقيادة . لذلك كانت مصالح الجنوب ، السياسية ، قبل وبعد الاستقلال تحتل المرتبة الثانية ، من إهتمامات الساسة الشماليين . إذ لم يشارك جنوبي واحد في المباحثات السودانية – الأنجلومصرية قبيل إتفاقية 1953 ( إتفاقية الحكم الذاتي الأنجلومصرية ) . وظل الجنوبيون على الهامش خلال الحوارات حول ترتيبات الاستقلال خلال عام 1955 إلا حينما يتطلب الأمر الحصول على أصواتهم في البرلمان .

وفي أغسطس 1955 تمردت الفرقة الاستوائية في قوة دفاع السودان وفي الاضطرابات التي أعقبت ذلك قُتل نحو (261) شمالياً و (75) جنوبياً .

وطوال الفترة من يوم الاستقلال وحتى إنقلاب عبود في 17/11/1985 إتسمت سياسات الحكومة في الشمال بالقصور في وضع الحلول التي تستجيب لمطالب الجنوبيين .، فبينما كان الطرفان يتفقان في النظرة الى جذور المشكلة من أنها ناجمة عن التباين الثقافي واللغوي والديني بين الشمال والجنوب والذي ساهم الحكم الثنائي في خلقه وتعميقه إلا أن الحلول لهذه المشكلة قد تباينت بين الطرفين . فبينما كان الشماليون من الحكام يسعون لازالة آثار سياسيات الحكم البريطاني بالغاء القيادة الجنوبية لقوة دفاع السودان وبانتهاج التعريب في السياسية التعليمية في الجنوب وإخضاع مدارس التبشير المسيحي لسيطرة الحكومة وتشجيع الاتصال بين الشماليين والجنوبيين .. متجاهلة عمق الشكوك الجنوبية تجاه هذه السياسة .

ومن جانب آخر كان الساسة الجنوبيون يسعون لتبني إطار دستوري يحمي مصالح الجنوب الخاصة وذلك بطرح شعار الحكم الفدرالي . ولم يؤيد الجنوبيون إعلان الاستقلال إلا حين قرر مجلس النواب في 19/12/1955 أن تعطى الجمعية التأسيسية الاعتبار اللازم لمطالبة النواب الجنوبيين بحكومة فدرالية لمديريات الجنوب الثلاث . إلا أن اللجنة الدستورية المنبثقة عن الجمعية والتي ضمت (43) عضواً بينهم (3) جنوبيين فقط ، رفضت الحكم الفدرالي ، مما أصاب الساسة الجنوبيين بخيبة الأمل (13) .

وبعد إنقلاب عبود 1958 تصاعد التوتر في الجنوب مما أدى إلى إندلاع العمل المسلح في 1963 وكان رد فعل النظام العسكري على مطالب الجنوبيين ، هو العمل على إزالة خصوصية الجنوب الثقافية ( بفرض التعريب ) وعندما واجه الجنوبيون هذه السياسة بالرفض لجأت الحكومة الى استعمال القوة العسكرية ، مما أدى إلى هروب أعداد كبيرة من المواطنين الجنوبيين الى الغابة أو المنفى وأسسوا في 20/2/1962 تنظيم الاتحاد الوطني للمراكز المقفولة في السودان الأفريقي (SACDNU) وتغير إسم التنظيم في أبريل 1963 إلى الاتحاد الوطني السوداني الأفريقي (SANU) وكان هدف التنظيم هو الاستقلال عن السودان .

وكان من بين الذين لجأوا للغابة وأصبح لهم تأثير خطير . ضباط صف في الجيش ورجال سجون ورجال شرطة قد إنضموا إلى الفرقة الاستوائية التي تمردت في عام 1955 وشكلوا عصابات مسلحة تحت إسم ( أنانيا) ، وفي الخرطوم تكونت جبهة سرية باسم ( جبهة الجنوب ) ظهرت علناً بعد ثورة أكتوبر 1964 . بينما استمرت حكومة عبود في سياستها الخاطئة المتمثلة في التعريب والتبشير الاسلامي ، حيث انشئت مدارس القرآن في أنحاء متفرقة من الجنوب وأقيمت معاهد إسلامية متوسطة في ست مدن في الجنوب وأنشئ معهد اسلامي ثانوي في جوبا .. وفي عام 1960 تقرر أن يكون يوم العطلة الرسمي في الجنوب يوم الجمعة بدلاً من يوم الأحد ، وأصبحت اللغة العربية هي لغة التعليم في المدارس المتوسطة . وفي عام 1962 أصدرت وزارة الداخلية قانوناً للجمعيات التبشيرية حدد نشاطها في الجانب الديني فقط . وفي فبراير 1964 طرد القساوسة المسيحيون من السودان وكان عددهم 335 قساً .

وخلال عامي 61 ، 1962 جرت مظاهرات في مدارس الجنوب تم قمعها بشدة من قبل الجيش وفي النصف الثاني من عام 1963 صعدت ( الأنانيا) من عملها المسلح .. وفي مطلع 1964 إندلعت الحرب الأهلية في السودان (14) .

ومع إندلاع ثورة أكتوبر 1964 سقط الحكم العسكري الأول .. وفي أبريل 1965 جرت انتخابات عامة في الشمال فقط نسبة لاضطراب الأحوال الأمنية في الجنوب ، وخلال العهد الديمقراطي الثاني ظلت مشكلة الجنوب دون حل حتى إنقلاب 25 مايو 1969 بقيادة جعفر نميري . وذلك أن المحاولة الوحيدة بعد ثورة أكتوبر 1964 كانت متمثلة في مؤتمر المائدة المستديرة 1965 إلا أنه لم يتوصل الى حل .

ونجح نميري في إجراء مفاوضات توصل بموجبها الى اتفاقية أديس أبابا في مارس 1972 ، وكانت قد جرت محاولات في أواخر الستينات لتوحيد المقاومة الجنوبية إنتهت بالفشل. وفي منتصف عام 1967 توحدت قيادات أنانيا في تنظيم موحد بقيادة غوردون مورتان وباري ، وإتفق مندوبون من هؤلاء الجماعات على تشكيل ( حكومة جنوب السودان المؤقتة ) برئاسة أجري جادين على أن يكون أميليو قائداً عاماً لقوات الأنانيا .. غير أن الخلافات القبلية والدينية سرعان ما أدت الى إنهيار الحكومة المؤقتة . وفي مؤتمر ( بالقو بندي ) في مارس 1969 جرت محاولة أخرى للتوصل إلى قيادة موحدة وتم تشكيل (حكومة النيل الانتقالية ) برئاسة غوردون مورتان وماركورومي نائباً له وأميلو تيفانق قائداً عاماً للأنانيا مرة أخرى . إلا أن هذه الحكومة لم تحظى بتأييد القادة الجنوبيين .

وفي النصف الثاني من عام 1969 إلتف الجنوبيون حول شخصية جوزيف لاقو الذي أعلن عن تأسيس ( منظمة الأنانيا الوطنية ) تحت قيادته .

مشكلة الجنوب في العهد المايوي1969-1985 ومحاولات حلها:

بعد إنقلاب مايو 1969 الذي طرح في بداياته شعارات قومية تقدمية مقترباً من النظام الناصري . بدأ الكيان الصهيوني منذ سبتمبر 1969 بمد منظمة الأنانيا الوطنية بالأسلحة بمعدل دفعتين شهرياً يتم إلقاؤها من الجو .. وذلك بغرض تأجيج نيران الحرب الأهلية وإشغال النظام في الشمال عن الاهتمام بالقضايا القومية .

لقد ساهم الدعم الصهيوني لجوزيف لاقو في تقوية مركزه وتوحيد الأجنحة المتصارعة حوله مما وفر له قوة تفاوضية مع نظام نميري بعد أن انهارت حكومة النيل المؤقتة ، وإندمجت عناصرها في أنانيا تحت قيادة (لاقو) . وفي يناير 1971 أعلن لاقو عن تأيسي (حركة تحرير جنوب السودان ) .

خطوات الحل المايوي لجنوب السودان (إتفاقية أديس أبابا1972):

في يناير 1971 وجه نظام نميري دعوة لمجلس كنائس عموم أفريقيا لارسال وفد للسودان للاطلاع على مساعي الحكومة لحل مشكلة الجنوب سلمياً . وقبل مغادرته الى الخرطوم إجتمع وفد الكنائس في يوغندا بما يسمى ( بلجنة كمبالا ) ، وهي مجموعة من الجنوبيين وغيرالسودانيين المتعاطفة مع حركة تحرير جنوب السودان المقيمين في يوغندا ، وناقشت مسألة الحل السلمي ، وعندما وصل الوفد الى الخرطوم في مايو 1971 ، كان مصمماً على بحث التسوية وإحتمالاتها أكثر من الاضطلاع على أوضاع الجنوب . وفي مناقشته مع وفد الحكومة تم الاتفاق على إطار لمباحثات بين حكومة السودان وحركة تحرير جنوب السودان يتضمن الآتي (15) :

1- تؤيد الحكومة اجراء اتصالات بين وفد مجلس الكنائس وحركة تحرير جنوب السودان بغرض التمهيد لمباحثات تستهدف التسوية السلمية .

2- يشتمل التمثيل الجماعات ذات النفوذ في الجنوب في أوساط اللاجئين .

3- تجرى المباحثات في أي مكان.

4- توافق الحكومة على فترة (تبريد) إذا لم يكن هناك ما يهدد الأمن

5- تجرى مناقشة تفاصيل الحكم الذاتي الاقليمي في اطار السودان الواحد .

6- يتم الاجابة على من يرعى المباحثات في مناقشة لاحقة .

فكان لبعض الضغوط الجانبية الأثر الفعال . فقد وقعت الحكومتان السودانية واليوغندية على إتفاق بابعاد العناصر المعادية لكل منهما من البلدين ونجحت الحكومة الليبية في إقناع الرئيس اليوغندي عبدي أمين في مارس 1972 بطرد المستشارين العسكريين الاسرائيليين من بلاده وقطع العلاقات مع اسرائيل . وهكذا أصبحت يوغندا مكاناً غير آمن لجوزيف لاقو من حيث الادارة وتلقي المساعدات الاسرائيلية . وفي 18 مارس 1972 وقع لاقو على الاتفاق الذي تم التوصل إليه في فبراير 1972 ، وتوقفت الحرب الأهلية . وتم تطبيق الحكم الذاتي الاقليمي لجنوب السودان(16) .

وكان لفشل سياسات نميري الاقتصادية أثرها على جنوب السودان ، حيث تمزقت الحكومة الاقليمية بسبب توقف التنمية وتفاقم الأزمة المعيشية ، وإندلعت الانقسامات القبلية والشخصية بسبب الاختلاف حول قرار تقسيم الاقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم الذي أصدرته الحكومة المركزية بحجة تقليل سيطرة قبيلة الدينكا على السياسة في الجنوب . وفي يناير 1983 إندلعت الحرب الأهلية من جديد عندما هاجم منشقون مدينة أويل في مديرية بحر الغزال ومقتل 12 تاجراً شمالياً ، وفي فبراير من نفس العام تمردت الكتيبة (105) في بور والتي تتكون من جنود جنوبيين وهرب نحو ألف ضابط وجندي إلى الغابة حاملين أسلحتهم معهم . وخلال ذلك الصيف تأسست الحركة الشعبية لتحرير السودان في أغسطس 1983 بقيادة جون قرنق . وقد أدت هجمات رجال حرب العصابات على موظفي الشركة الفرنسية في ديسمبر 1983 إلى وقف العمل في مشروع قناة جونقلي .. وإلى وقف أعمال شركة شيفرون للتنقيب على النفط .

وشرع نظام نميري في تغيير إتجاهاته السياسية باعلان قوانين سبتمبر 1983 (الشريعة) ومحاولاته تعديل دستور البلاد مما أدى الى تفاقم الأزمة في الجنوب .. بينما كان النظام نفسه يلفظ أنفاسه الأخيرة حيث اندلعت إنتفاضة مارس أبريل 1985 مما أدى الى سقوط نظام نميري، وعودة الحكم الديمقراطي الليبرالي مرة أخرى .

خلاصـــــــة :

يتجلى من استعراض السياسة البريطانية في جنوب السودان طوال فترة إستعمارها للسودان .. الدور الكبير الذي قامت به في خلق هذه المشكلة وتجسيمها كقضية صراع بين الشمال والجنوب ، تقوم على الأساس الديني والأساس العنصري ومحاولات أن يأخذ الصراع وجهة مفتعلة وكاذبة باعتباره صراع بين العرب والأفارقة من جهة وبين المسيحية والاسلام من جهة أخرى متجاهلة حقيقة أن العروبة في السودان لاتقوم على الأساس العرقي والعنصري ، وإنما هي ثقافة وإن الدين الاسلامي كدين سماوي لا يقوم على العداء للمسيحية ، وإنما يعتبر نفسه امتداداً لها ويقدسها كعقيدة سماوية .. وهو كغيره من الأديان يدعو للمحبة والسلام والعدل والمساواة والأخوة .. وإن الثقافة العربية الاسلامية هي الثقافة الأم لأفريقيا منذ القرن العاشر الميلادي ، وإن ثلاثة أرباع العرب هم أفارقة ، وإن الأفريقية ليست عرقاً أو قومية ، وإنما هي قارة تعيش في داخلها عدة شعوب وقوميات وجماعات وقبائل .. وإن الثقافة العربية الاسلامية لم تفرض نفسها بالقوة على القارة مثلما حاولت بريطانيا وبقية الدول الاستعمارية فرض ثقافتها وحتى تصوراتها المنحرفة للدين ، وذلك باستغلال الدين المسيحي السمح لأغراض سياسية إستعمارية لا علاقة لها بجوهر هذا الدين الداعي للمحبة والسلام . كما أن أكذوبة إتهام الشماليين في السودان بممارسة الرق يضحدها الواقع والتاريخ ، فالشعب السوداني في الشمال لايمكن تحميله وزر هذه الجريمة وهو كان يخضع لاستعمار أجنبي خلال العهد التركي .. وبعد ثورته العظيمة بقيادة المهدي ضد الاستعمار التركي حرم هذه التجارة تماماً .

والحقائق التاريخية تقول أن بريطانيا والدول الغربية هي التي مارست هذه التجارة على أوسع نطاق .. وأكبر دليل على جريمتهم هو الاجابة على السؤال : من الذي جلب الزنوج العائشون في أميركا اليوم الى هناك !؟ .

وفي السودان ومنذ العهد التركي كان الوكلاء الحقيقيون لهذه التجارة هم الغربيون والبريطانيون بالذات من خلال سيطرتهم على الدولة العثمانية في آواخر أيامها .. وعلى أسرة محمد علي الحاكمة في مصر بالذات .. بدليل أن أغلب الاداريين الذين استعانت بهم الخديوية في مصر على حكم السودان كانوا من الغربيين وأبرزهم (غوردون باشا) .

والواقع إن الشعب العربي الشقيق في مصر لم يكن مالكاً لزمام أمره لأنه مستعمر وكذلك الشعب السوداني في الشمال .. فكيف يتم إتهامهم بتجارة الرقيق والسلطة الحقيقية كانت في يد مستعمريهم .. أما أن يستعين بعض الاداريين البريطانيين والأتراك ببعض الأشخاص من المصريين التجار الصغار أو من مواطنين من شمال السودان كوكلاء لهم في هذه التجارة فهذا لا يعني أنهم المسؤولون عن هذه الجريمة .. بدليل أن أنشط الوكلاء في هذه التجارة كانوا من أبرز بعض القبائل الجنوبية ذاتها ..

إن مجمل الدعاية البريطانية في جنوب السودان والهادفة الى خلق حواجز نفسية وعقد تاريخية كاذبة .. ورغم نجاحها النسبي إلا أنها لا تصمد أمام المحاكمة والتمحيص الدقيق .

وللأسف نتيجة هذه المغالطات والأكاذيب والفتن التي زرعتها بريطانيا في السودان  وجدت الأجيال السودانية المتعاقبة في الشمال والجنوب نفسها تتصارع وتتحارب دون مبررات عقلانية . وقد ساهم في ذلك عجز الطبقات الرجعية التي تعاقبت على حكم السودان منذ الاستقلال عن استيعاب مرامي الاستعمار وابتلعت الطعم الذي وضع في الفخ البريطاني ، وفشلت في وضع الحلول الصحيحة التي تستوعب جذور المشكلة . وتتعامل مع الواقع التاريخي والجغرافي والثقافي برؤية حضارية مسؤولة تعالج الأسباب ولا تقف عند النتائج

مواقف البعث الفكرية والسياسية من المشكلة

مقدمــــــــة :

تتناول هذه الدراسة متابعة مواقف حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان الفكرية والسياسية من مشكلة جنوب السودان في الفترة الممتدة من تاريخ تأسيس أول خلية للحزب داخل تنظيمات الاشتراكيين العرب عام 1960 حتى العام 1999 حيث ازدادت المشكلة تعقيداً بوقوع إنقلاب 30/6/1989 بقيادة الجبهة الاسلامية .

تكمن صعوبة البحث في أن الكتابة في احدى القضايا الوطنية الهامة التي ارتبطت بنضال الحزب في السودان يكاد يعبر عن تاريخ الحزب ذاته ، لا سيما وأن مشكلة الجنوب في السودان قد شكلت هاجساً كبيراً – فكرياً وسياسياً للطلائع البعثية الأولى في السودان ، حيث أن أبرز نضالاتهم السياسية ضد دكتاتورية عبود كانت بسبب مشكلة الجنوب ، كما شغلت القضية حيزاً كبيراً في النتاجات الفكرية للحزب في السودان منذ بدايات نشأته .. ففي تحليل 1962 للواقع السياسي والاجتماعي في السودان عبر البعثيون عن رؤيتهم المستقبلية لاتجاهات الصراع في البلاد ، كما احتلت مشكلة الجنوب حيزاً وافراً من الدراسة والتحليل في وثيقة البعث وقضايا النضال الوطني في السودان ، وساهم الحزب كذلك باعداد دراسة فكرية وسياسية وافية باسم الرفيق أمين سر القيادة القطرية هي وثيقة (البعث ومسألة الجنوب في السودان) .. لقد إقترن هذا الجهد الفكري بمواقف وممارسات نضالية جريئة ، وتضحيات لا يستهان بها .

حاولت هذه الدراسة أن تتابع كل ذلك بهدف تمليك المناضلين البعثيين والوطنيين من أبناء شعبنا صورة من نضال حزبنا في السودان من أجل هذه القضية التي ظلت تؤرق كل الوطنيين والقوميين التقدميين الساعين في اتجاه تحقيق الحل السلمي الديمقراطي ، وتحقيق وحدةالسودان في اتجاه الاستقرار والتنمية والتقدم .

الموقف الفكري للبعث

من قضايا الأقليات في الوطن العربي

كان المشروع القومي الحضاري الذي طرحه البعث منذ تأسيسه في عقدالأربعينيات ينطلق من نظرة جديدة للقومية .. تقوم هذه النظرة على إعتبارالشعور القومي بأنه شعورانساني خلاق ، وهو حقيقة اجتماعية تعبر عن الهوية الجماعية لأي شعب .. إلا أن البعث ميِّز بين القومية والنظرية القومية . رافضاً وبشكل قاطع وحاسم النظريات القومية الغربية التي تقوم على الأساس العرقي والعنصري كالنظرية النازية والفاشية وقانون التفوق العنصري ، ورسالة الرجل الأبيض .. الخ . تلك النظريات التي أشعلت الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، وقامت على أساسها فكرة الاستعمار الغربي للقارات الثلاث ( أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) .

يقول مؤسس البعث المرحوم ميشيل عفلق في عام 1955 (( إن مفهومنا للقومية بعيد جداً عن مفهوم القومية النازية ، التي تؤمن بأن هناك عرقاً مفضلاً ، وله مميزات خاصة ، يجب أن يتطهر من كل شئ ، وبالتالي يضهد كل من لا تتوفر له الشروط من حيث النسب ، والعادات المعينة ، فالعروبة هي انسانية ، ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الانسانية الصحيحة ، وبأنها تقديس لقوميات الآخرين ، فنقدس هذا الشعورعند كل شعب آخر )) (17) .

لهذا يؤكد المؤسس (( بأن الاستعداد الدائم عندنا لاستيعاب الخصوصيات ، ولفهم وضع كل أقلية ، وإحترام شخصيتها ، هو  من قيمنا الأساسية ، ومن القيم الداخلة في قوميتنا ، وفي تراثنا ، وبما تقتضيه المصلحة المشتركة )) (18) .

ووفق هذا المنظور الجديد للقومية العربية ومشروعها الحضاري التحرري يؤكد مؤسس البعث القول (( بأن الأمة العربية أقدر من أية أمة على حل مشكلة الأقليات منطلقين من هذه الروح ، ومن تراثنا ، من مراعاة واقعنا ومصلحتنا القومية لأن مصلحتنا هي في التآخي القومي ، وليس في ابقاء عوامل وأسباب التناحر الداخلي وليس في ترك ثغرات يستغلها الأعداء في داخل بنياننا القومي))(19).

إن النظرة المبدئية الأخلاقية للبعث النابعة من التراث الروحي للأمة العربية ، في النظرة للانسان باعتباره قيمة عليا ومن قيم العدل والحرية والمساواة بين الناس بصرف النظر عن ألوانهم أو أعراقهم أو معتقداتهم ، وان الانسان لا يتميز عن أخيه الانسان إلا بالعمل الصالح ، وإحقاق الحق والخير .. لذلك قام مشروع البعث أساساً بهدف تجديد هذه القيم وإحيائها في عصرنا الراهن .. وهذه ما يسميه البعث بالرسالة الخالدة .

لذلك فإن الصراع في منظور البعث ، هو صراع بين الحق والباطل (( فالحق فوق العروبة حتى يتحقق إتحاد العروبة بالحق )) كما يقول القائد المؤسس رحمه الله ، بين العدالة والاستغلال والاستعباد والطغيان ، إذن أن الانتماء الى الأمة العربية قائم على قيم ومبادئ حضارية انسانية قبل كل شئ ، وليس قائماً على انتماء عرقي أو عنصري .. كما أن البعد الاشتراكي للبعث لا ينظر الى المجتمع العربي والأقليات القومية المتعايشة معه ، على أساس ، أقلية وأكثرية ، وإنما على أساس مستغِل ومستغَل .. لذلك يلخص القائد المؤسس طبيعة الصراع الاجتماعي في الوطن العربي بالقول بأنه (( ليست هنالك أقليات وفئات وطوائف مضطهدة ، وإنما هنالك أكثرية شعب مضطهدة هو الشعب العربي ( بما فيه الكادحين من الأقليات القومية ) .. وهناك أقلية مضطهِدة من المتآمرين مع الاستعمار (…) أي أفراد الشعب الذين يشكلون (90%) من أفراد الأمة العربية مضطهدون ، محرومون ، من قبل أقلية تستغل الأوضاع الفاسدة وتستفيد من وجود الأجنبي (…) لذلك علينا أن نقضي على هذا الاستغلال ، عندها لا يعود هناك فرق بين المواطنين )) (20) .

ولهذا ينظر البعث الى الشعوب الأخرى – وخاصة الشعوب التي بيننا وبينها اشتراك في التاريخ ، والقيم الروحية ، وفي الثقافة ، والمصلحة .. أن تكون العلاقة معها قائمة على الاحترام لشخصيتهم  وفيها أيضاً إنسجام مع أهداف تجمع الجميع وتؤمن مصلحـــة الجميع (21) .

وقد جاء في دستور حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أقره مؤتمره التأسيسي في 7 أبريل 1947 (( بأن التفاوت الطبقي هو نتيجة لوضع إجتماعي فاسد ، لذلك فالحزب يناضل في صف الطبقات الكادحة المضطهدة من المجتمع حتى يزول هذا التفاوت ، والتمايز ، ويستعيد المواطنون جميعاً قيمهم الانسانية كاملة وتتاح لهم الحياة في ظل نظام إجتماعي عادل لا ميزه فيه لمواطن على آخر سوى كفاءة الفكر ومهارة اليد )) (22) .

وتأكيداً لمفهومه القومي الرافض للأساس العرقي . والقائم على الرابطة الثقافية جاء في المادة العاشرة من دستور الحزب ما يؤكد ذلك ، من خلال تحديد من هو العربي ، حيث نص الدستور ((العربي هو من كانت لغته العربية ، وعاش في الأرض العربية ، أو تطلع الى الحياة فيها ، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية)) (23) . لذلك يشترط البعث في الشخص الذي يرغب الانتماء اليه (( أن يؤمن بالقومية العربية ويحترم العلاقات الانسانية بين القومية العربية والقوميات الأخرى ، ويحارب النزعة العنصرية والاقليمية والطائفية والعشائرية . (( وأن يجسد في نشاطه وسلوكه مبادئ الحزب وأخلاقيته )) .

وقد ترجم البعث موقفه من الأقليات في الوطن العربي عملياً بفتح أبوابه لانتماء أبناء هذه الأقليات الى صفوفه كالأكراد في العراق والبربر في المفرب العربي وأبناء جنوب السودان ..الخ ، وذلك انطلاقاً من ايمانه بوحدة المصير الواحد والمصلحة المشتركة والهدف المشترك لجميع أبناء الوطن العربي ويضم البعث اليوم بين صفوفه الآلاف من أبناء هذه الأقليات في جميع أقطار الوطن العربي..

إستناداً على هذا المنهج أولى البعث في السودان إهتماماً كبيراً بقضية الوعي القومي في السودان ، وتصدى لطرح مفهومه لحل مشكلة جنوب السودان ، وعبر عن ذلك بمواقف عملية جريئة ضد كل المحاولات الخاطئة لحل هذه المشكلة .. وأصدرالبعث فيالسودان وثيقة هامة باسم ( البعث ومشكلة الجنوب في السودان ) باسم أمين سره الأستاذ بدرالدين مدثر ، تعبر عن مواقف البعث الفكرية والسياسية من المشكلة. كما أصدر الحزب وثيقة هامة بعنوان (الهوية ونظام الحكم ) تعكس وجهة نظر الحزب الفكرية والسياسية ضمن الجهود الرامية لحل المشكلة من خلال المؤتمر الدستوري .

موقف البعث الفكري من قضايا النضال الوطني والقومــي في أفريقيا :

إنطلق البعث من نظرة عميقة للقارة الأفريقية ، ومشاكلها .. ومن حقيقة أن أفريقيا ليست قومية ، وإنما هي قارة تسكنها شعوب ، وقوميات وجماعات قبلية وأثنية متعددة ، ومن حقيقة أن ثلاثة أرباع العرب يسكنون هذه القارة ، وإذا كانوا هم أفارقة بالمعنى الجغرافي وليس القومي ، فإنهم قومية متبلورة ربطتها علاقات تاريخية وثقافية وشيجة مع شعوب القارة الأفريقية ككل .

لذلك فإن المشروع القومي الحضاري الانساني للبعث كان يدرك أن أغلبية شعوب ودول القارة لم تتبلور شخصيتها القومية بعد ، لذلك ظلت أفريقية ضائعة بين القبلية والأممية – ماركسية كانت تلك الأممية أو دينية . وإن كل المشاريع التي قفزت فوق المرحلة القومية في أفريقيا قد باءت بالفشل . حيث تصدعت أغلب الحركات الثورية والماركسية ، وآلت صراعاتها الىالرابطة القبلية ، يقف على رأس تلك التجارب تجربة جبهة التحرير الأنغولية (24) .

والبعث إذ يدرك هذه الحقائق ، يحدد موقفه بوضوح إذ لا يدعو أن تفرض القومية العربية نفسها على القارة الأفريقية كقومية بديلة ، وإنما واجبها يتحدد في دعم نمو التكوينات القومية في القارة، وأن تسند هذا الوجود وتتفاعل معه تفاعلاً حضارياً إيجابياً وندياً على أرضية التضامن المشترك ضد الاستعمار والتخلف ومن أجل التنمية والتقدم .

يقول الرفيق بدر الدين مدثر : (( وإذا كان البعث لم ينظر في يوم من الأيام للقضية القومية أو للفكرة القومية من منظور عنصري أو عرقي ، أو أي من المنطلقات غير الانسانية في الروابط بين البشر. فإن هذا يجعل فكره القومي يخرج من اطاره العربي ، لكي يصبح من الممكن أن يكون فكراً لكل قومي من أية أمة من أمم الأرض ، سواء كان في أفريقيا أو غير أفريقيا . لأنه نظرية أو منهج في فهم القومية ، وفي ما توحيه من موجبات نضالية الى نظرية في علاقات الأمم في العالم ، والأسس الانسانية التي تقوم عليها هذه العلاقات )) (25) .

وإذا كانت الثقافة العربية الراهنة هي المزيج المتفاعل والمتأثر بالحضارات القديمة في وادي النيل ووادي الرافدين والحضارات الفينيقية مع كل ثقافات شمال أفريقيا غير العربية وإرتباطاتها بالعمق الأفريقي . وكان الناتج عن هذا التفاعل الحر وغير القسري هو الثقافة العربية الراهنة ، وهذا ما أعطى الثقافة العربية ميزة الاستفادة والاغتناء من كل الثقافات المحلية التي تفاعلت معها ومنذ القرن العاشر الميلادي . وحتى القرن السادس عشر ظلت الثقافة العربية الاسلامية هي الثقافة الأم لكل القارة الأفريقية تقريباً ، قبل ظهورالغزو الاستعماري الأوربي لأفريقيا .

إن المشروع القومي النهضوي الانساني الحديث ، والذي يرفع لواءه البعث اليوم ، يطرح نفسه بثقة كأحد أهم المشاريع التحررية في العالم الثالث ، إذ يجد نفسه في خندق واحد مع شعوب وأمم أفريقيا من أجل التحرر والنهوض والاستقلالية .

من هذا المنظور يمكن تحديد موقف البعث المبدئي والسياسي من قضايا النضال الوطني والقومي في أفريقيا بشكل عام في الآتي(26) :-

1- النضال من أجل بلورة قوميات في أفريقيا قائمة على أسس قومية حضارية بعيدة عن العنصر والعرق ، والطائفية ، ومن أجل تمتين الروابط بين القوميات المتبلورة من أجل نهضة القارة وتنميتها وإستقلالها ، وبلورة شخصيتها الحضارية وإنفتاحها بثقة على العالم .

2- تحرير القارة الأفريقية من بقية الهيمنة الاستعمارية .

3- سيادة روح التضامن ضد العدو المشترك المتمثل في أشكال الهيمنة الاستعمارية والفقر والتخلف ، ومشاكل البيئة .

4- تعميق روح التعاون والنضال المشترك بين القومية العربية كقومية متبلورة في جزء كبير من أفريقيا وآسيا ، مع قوميات وشعوب بقية القارة ضد الاستعمار الجديد وسياسات التفتيت للشعوب ، وضد العنصرية والصهيونية والهيمنة الامبريالية .

5- تعميق الروابط الأفريقية ، وتغليبها على سواها من الروابط الخارجية ( كالفرانكفونية ، ورابطة الكومنولث) بحيث لا تكون رابطة دول غرب أفريقيا مثلاً الفرنكفونية مع فرنسا أقوى من علاقتها بدول شرق القارة . والعكس صحيح في علاقة الأخيرة مع بريطانيا مثلاً .

تطور البعد الأفريقي لمواقف البعث في السودان من قضايا القارة :

يظهر اهتمام البعث في السودان بالبعد الأفريقي في نضاله الوطني منذ بدايات تأسيس خلاياه الأولى . حيث جاء في تحليله المعروف بتحليل 1962 ما يشير الى هذا الاهتمام .. ففي معرض نقد التحليل للحركة الوطنية التقليدية في السودان يقول : (( إن الحركة الوطنية لم تستطع القيام بواجبها نحو حركات الكفاح ضد الاستعمار في أقطار أفريقيا .. الخ )) (27) . وفي معرض نقده لنظام عبود وسياسته الأفريقية ، يقول التحليل : (( لقد تجاهل هذا النظام قضية فلسطين ، وسمح للجاسوسية الصهيونية باتخاذ بلادنا وكراً لها ، ومسرحاً لدسائسها ، وتآمرها ، وطعن نضال شعب الكونغو من الخلف ، وإرتبط بالمؤتمرات الأفريقية الاستعمارية مثل مؤتمر مونروفيا . ووقف موقفاً خائراً من نضال الشعوب الأفريقية ضد الاستعمار ، ومن أجل السلام والحرية ، وشوَّه شعارات الحياد الايجابي وعدم الانحياز والتعايش السلمي )) .

وعلى هذا النحو إتسم نضال الحزب القومي التحرري في السودان ، من أجل الوحدة العربية ودعم الثورة الفلسطينية متلازماً مع دعمه وتأييده لحركة النضال التحرري في أفريقيا ، باعتبار أن جوهر الثورة العربية ، والثورة الأفريقية واحد ، ما دام نضالهما موجهاً بالأساس ضد الاستعمار والصهيونية العنصرية ونظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ، ومن أجل تحرير القارة من بقايا الاستعمار ، ومن أجل الاستقلال والتحرر .

وبهذا المعنى كانت ثورة يوليو 1952 في مصر والثورة الجزائرية – إضافة الى بعدهما القومي العربي – جزءاً لا يتجزأ من حركة الثورة التحررية العامة في أفريقيا في تلك المرحلة .

وعندما طرح حزب البعث برنامجه الكامل للثورة الوطنية والقومية التقدمية في السودان الذي أقره مؤتمره الرابع في ديسمبر 1975. جاء في هذا البرنامج .. على الصعيد الأفريقي ما يلي(28):

1- العمل على توحيد نضال شعوب القارة الأفريقية ضد الاستعمار القديم والحديث ، وضد أنظمة الحكم العنصرية المتخلفة وفي سبيل التحرر والاستقلال والتقدم .

2- مساندة حركات النضال المسلح في أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو وتشاد وأثيوبيا .. الخ . ودعم نضالها ضد الاحتلال الاستعماري ، وفي سبيل التحرر والاستقلال الوطني .

3- توثيق علاقات التضامن والتحالف مع الحركة الديمقراطية والتقدمية في البلدان الأفريقية عموماً ، وفي البلدان المجاورة بشكل خاص لمناهضة مراكز النفوذ الاستعماري ، وأنظمة الحكم العنصرية والمتخلفة وفتح الطريق أمام شعوب أفريقيا لبناء مجتمعاتها على أساس عصري متقدم ومستقل عن السوق الرأسمالية العالمية .

4- العمل على تدعيم وتقوية إتجاهات الوحدة الاقتصادية والسياسية بين الأقطار الأفريقية بهدف القضاء على أوضاع التخلف والتبعية للاستعمار الجديد، ومواجهة تحديات التنمية والتقدم.

5- العمل على خلق علاقات تعاون ، وتحالف وثيق بين حركة التحرر الأفريقي وحركة التحرر القومي العربية للقضاء على مراكز النفوذ الاستعماري وإمتداداته العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقية وفلسطين ، وفي سبيل التحرر والتقدم والسلام . وخلق الظروف المناسبة لتطوير هذه العلاقات لمستويات أعلى وأعمق عن طريق التفاعل الحر والايجابي وتبادل الخبرات والتجارب النضالية .

6- الوقوف بحزم ضد مخططات الاستعمار والقوى الرجعية المتخلفة التي تحاول أن تفتت النضال الأفريقي بزرع الأفكار الشوفينية والعنصرية ، وتغذيتها والترويج لفكرة فصل أفريقيا جنوب الصحراء ، عن أفريقيا شمال الصحراء ، وفضح أهدافها المشبوهة والعمل على تنمية روح الوحدة والتضامن ، والتعايش القومي والثقافي داخل حركة التحرر الأفريقي ، وبينها وبين حركة التحرر القومي العربية .

ووفق هذا البرنامج مارس الحزب نضاله طوال الفترات اللاحقة كمنهج ثابت في عمله وسياساته اليومية .. وبعد قيام إنتفاضة مارس/أبريل 1985 كانت الأزمة الوزارية التي نشبت عام 1988 بعد إشراك الجبهة الاسلامية فيما يسمى بحكومة الوفاق الوطني .. جاء في برنامج البعث المقدم لقوى الانتفاضة لغرض مواجهة هذه الأزمة دعوته للنضال ضد الاستعمار القديم والحديث .. وضد النظام العنصري في بريتوريا ومن أجل الاستقلال والديمقراطية والتقدم ، وتدعيم إتجاهات الوحدة والتضامن السياسي والاقتصادي بين البلدان الأفريقية ، وإدانة ورفض إستخدام العنف في النزاعات بين الدول الأفريقية ، وإقرار مبدأ حسن الجوار ، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض ، وتدعيم التفاعل النضالي والحضاري بين حركتي التحرر العربية والأفريقية لمواجهة العدو الواحد والتحديات المشتركة (29) .

موقف البعث من مشكلة جنوب السودان

خلال المرحلة التأسيسية (1960-1964)

منذ بدايات تأسيسه في الفترة ما بين عامي 1960-1964 تصدى تنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي الى جذور مشكلة جنوب السودان ، منطلقاً من مبادئ البعث القومية التي نظرت الى قضايا الأقليات عموماً ضمن وحدة الوطن العربي ، وعلى أساس قومي انساني يقر بواقع التباين الحضاري والثقافي للأقليات ، ويدعو الى النهج الديمقراطي في حلها (30) .

كان السودان في النصف الأول من عقد الستينات يعيش في ظروف الدكتاتورية العسكرية الأولى تحت زعامة ابراهيم عبود ، وكانت هذه الفترة تشهد نمو ونشاط تنظيمات حزب البعث العربي الاشتراكي وسط الطلبة والمثقفين ، وتحت واجهات منظمات الاشتراكيين العرب . ففي النصف الثاني من عام 1962 إنعقد المؤتمر الثاني للفرقة الحزبية الأولى في تنظيم البعث في السودان ، صدر عن هذا المؤتمر تحليل سياسي عميق وبعيد الأفق للواقع السياسي والاجتماعي في السودان ، عُرف فيما بعد بتحليل 1962 . كانت هذه المرحلة تشهد تفاقم مشكلة جنوب السودان ، وكان النظام الدكتاتوري العسكري يعتمد سياسة التصعيد المضاد ، والسعي لحل المشكلة بالقوة العسكرية . وكانت طلائع البعثيين تتصدى بقوة لهذا المنهج الخاطئ . حيث جاء في تحليلهم للأزمة في الجنوب ضمن وثيقة عام 1962 ما يعكس الموقف السليم في النظرة لهذه المشكلة ، حيث يقول التحليل : (( لقد اتبع هذا النظام في الجنوب سياسة إرهابية رعناء ، تهدد وحدة قطرنا بالخطر ، فقد توهم هذا النظام أن مجرد اسكات صوت ( الفيدريشن) دليل على انهاء المشكلة . كما لجأ إلى أساليب سطحية للتبشير بالاسلام كوسيلة لخلق وحدة عضوية بين الشمال والجنوب ، وأهمل كل عمل انساني مدروس لخلق جيل جديد يتحدث لغة البلاد القومية ، ولرفع المستوى الاقتصادي ، وخلق تفاعل حقيقي بين الشمال والجنوب ، لتوعية المواطنين ، توعية قومية صحيحة ، ونشر الثقافة العربية بالأساليب الطوعية ، بما يؤدي الى التمازج الاجتماعي والاقتصادي ، في إطار قومي انساني (( (31) .

وعندما طرحت سلطة عبود الحل العسكري ، لمشكلة الجنوب ، قاوم الحزب بقوة هذه السياسة ، معلناً أن قضية الجنوب لا تحل إلا في الاطار الديمقراطي ونظم الحزب حملة واسعة ضد الحل العسكري لمشكلة الجنوب من خلال كتابة الشعارات ، وإصدار البيانات التي تنبذ سياسة العنف والقوة ، ومع تصاعد الحرب الأهلية نظم الطلبة البعثيون في عام 1963 غرفة عمليات في الطابق الثالث في داخلية (بحرالعرب ) بجامعة الخرطوم ، بهدف مقاومة سياسة النظام في الجنوب ، الأمرالذي أدى الى قيام سلطة عبود بحملة إعتقالات واسعة للوطنيين المتضامنين مع الجنوب ، ومن ضمنهم البعثيين ، وفي مقدمة الذين تم إعتقالهم من البعثيين كان الشهيد محمد سليمان الخليفة وعبد الباسط أحمد يوسف ، ويوسف همت ، وعلي العمرابي ، وأحمد أبو جبة ، لقد واجه هؤلاء المناضلون قرار إعتقالهم باعلان الاضراب عن الماء والطعام، وكان هذا أول اضراب من نوعه في السودان . مما اضطر السلطات الى تقديمهم الى المحاكمة.

وقد أسهم اضراب البعثيين هذا في ايقاف الاعتقالات وإطلاق سراح المعتقلين ، وهو إجراء شمل كل المعتقلين بسبب مشكلة الجنوب (32) .

وفي نفس العام 1963 حاولت حركة التمرد العمل على فصل الجنوب عن الشمال من خلال الاعلان عن تأسيس دويلة منفصلة باسم ( جمهورية أزانيا) ، فقرر الحزب التصدي لهذا الاتجاه ، وأصدر بياناً باسم الطليعة التقدمية يحمل شعار ( تسقط جمهورية أزانيا المزعومة ) واعتبر البيان أن هذا التوجه ، يعدُّ جزءاً من الخطة الاستعمارية تجاه المساس بالوحدة الوطنية لأبناء السودان(33)

البعث والجنوب ابان ثورة 21 أكتوبر 1964 وحتى انقلاب مايو 1969:

كانت الندوات والحوارات التي نظمها الطلبة في جامعتي الخرطوم ، والقاهرة فرع الخرطوم تتركز على نقد ومقاومة سياسة دكتاتورية عبود بشـــــــكل عام ، وسياسته تجاه الجنوب بشكل خاص . وقد كان لهذه الندوات دورها الفاعل في التمهيد لثورة 21 أكتوبر 1964 .

وقد كان لحزب البعث العربي الاشتراكي دور فاعل في هذه النشاطات . حيث نظمت جمعية الثقافة العربية في جامعة الخرطوم، محاضرة حول مشكلة الجنوب ، تحدث فيها ، المناضل البعثي الشهيد عبد الله عبد الرحمن النور رئيس الجمعية آنذاك . ونسبة لحضور عدد من الطلبة الجنوبيين في الجامعة هذه الندوة ، تحدث الشهيد باللغة الانجليزية لغرض التواصل مع بعض الذين لا يتكلمون العربية منهم .

وقد قدر لهذه الندوة أن تكون أول ندوة سياسية في سلسلة الندوات التي قادت لتفجير الثورة . وكان ذلك بسبب تأجيل الندوة التي كان سيقيمها إتحاد طلاب جامعة الخرطوم في نفس التاريخ ، أي ندوة الأربعاء الشهيرة التي جاءت بعد أسبوع من ندوة جمعية الثقافة العربية ، وإنطلقت منها شرارة ثورة 21 أكتوبر .

(( إن الطابع الريادي لهذه المحاضرة حول الجنوب التي بادر بعقدها البعثيون ، لم يكن في أسبقيتها الزمنية ، وكونها باللغة الانجليزية فقط ، ولكن في مضمونها ، وبعض النتائج المباشرة التي ترتبت عليها ، فقد كانت أول طرح صريح لقضية الجنوب لقوة سياسية في الشمال ، باعتبارها قضية التعايش بين العرب وغير العرب في السودان . بكل ما يعنيه ذلك من طرح صريح لرؤية الجنوبيين لدور العرب أيضاً . وكانت النتيجة أن الطلبة الجنوبيين الذين كانوا حينذاك يعيشون كجزر منعزلة اجتماعياً وسياسياً في الجامعة أقبلوا على المناقشة بانفتاح وصراحة لم تعرف من قبل في علاقتهم بأي نشاط يقوم به الطلبة الشماليون )) (34) .

لقد نجح الرفيق الشهيد عبد الله عبد الرحمن النور في هذه الندوة ، أن يطرح موقف البعث القومي الانساني السليم لقضية الجنوب ، منطلقاً من أيدولوجية الثورة العربية ومنهجها الديمقراطي الحضاري القائم على الاعتراف والتعايش السلمي بين القوميات والجماعات البشرية. كما عبر بوضوح عن موقف البعث في السودان من مشكلة الجنوب في السودان كونهااحدى قضايا أزمة التطور الوطني والديمقراطي . ولم يتوقف البعثيون عند هذا الموقف النظري من المشكلة ، بل خاضوا نضالاً جاداً وعملياً في سبيل وقف نزيف الحرب الأهلية ، وتعرضوا بسبب ذلك لكل أنواع الاضطهاد من قتل وإعتقالات ومحاكمات وتشريد .

لذلك لم يكن من المستغرب أن يشارك الشهيد عبد الله عبد الرحمن النور في ثورة أكتوبر مع الطلبة والأساتذة في جامعة الخرطوم . فقد قدر له أن يستشهد فيما بعد بسبب رصاصة أصابته في صدره ، عند مشاركته في مظاهرة طلبة جامعة الخرطوم التي حاصرت القصر الجمهوري ابان ثورة أكتوبر عندما تصدت لهم الشرطة بالرصاص .. وظل الشهيد يعاني من أثر الاصابة حتى أدت الى رحيله شهيداً للوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد في الشمال والجنوب (35) .

هكذا كانت مشكلة الجنوب أحد العوامل الأساسية التي أدت الى قيام ثورة 21 أكتوبر 1964 ، وكان لطلائع البعثيين الدور الفاعل والمبادر في تفجيرها ، وكان مدخلهم الجدي لقضايا النضال الوطني هو مشكلة الجنوب وحرصهم على السلام والحل السلمي الديمقراطي في اطار وحدة البلاد .

في الفترة ما بين 16-29 مارس 1965 انعقد مؤتمر ( المائدة المستديرة ) لحل مشكلة الجنوب حضره ممثلون عن الأحزاب الشمالية وممثلون عن حزب (سانو) و ( جبهة الجنوب) الى جانب مراقبين من بعض الدول العربية والأفريقية ولكن سرعان ما إنتهى المؤتمر دون التوصل الى قرار بشأن شكل الحكم الذي يمكن تطبيقه في السودان ، حيث طالبت بعض الأطراف الجنوبية بصيغة إتحاد فدرالي أو كونفدرالي بينما تمسك بعضها بصيغة الحكم الذاتي . وكانت أحزاب القوى التقليدية الرجعية في الشمال عاجزة عن تقديم حل جذري وديمقراطي لأساس المشكلة .

وفي منتصف عام 1965 أصدر حزب البعث بياناً باسم الطليعة التقدمية مؤكداً على الأهداف التالية في حل مشكلة الجنوب(36):

1- المحافظة على وحدة السودان ضد الاستعمار ومخططاته .

2- بناء إقتصاد وطني على أساس مستقل ، وتحريره من سيطرة قوى الاستعمار الجديد .

3- عزل اليمين الرجعي تمهيداً لتصفية قواعده الاجتماعية والاقتصادية وتحسين أحوال المجتمع.

4- التفاعل الايجابي مع الحركات التحررية العربية والأفريقية والآسيوية .

وفي منتصف عام 1968 إنعقد المؤتمر المركزي للاشتراكيين العرب ( الواجهة السياسية لحزب البعث ) حيث ركز المؤتمر في مقرراته على (( حل مشكلة جنوب السودان ، ومنحه الحكم الذاتي ضمن الوحدة الوطنية للسودان )) (37) .

يمكن تلخيص مواقف حزب البعث العربي الاشتراكي من مشكلة جنوب السودان ، منذ تأسيس خلاياه الأولى عام 1960 وحتى إنقلاب مايو 1969 في الآتي :-

1- التأكيد على الوحدة الوطنية ورفض مخططات فصل جنوب السودان .

2- الدعوة الى الحل السلمي الديمقراطي ورفض الحل العسكري وإستمرار الحرب الأهلية .

3- الطرح النظري السليم لمشكلة الأقليات ومن بينها مشكلة جنوب السودان وذلك إستناداً على أيدولوجية الثورة العربية ، والدعوة المبكرة الى الاعتراف بواقع التمايز الثقافي والجغرافي بين الشمال والجنوب والدعوة للحكم الذاتي في الجنوب في اطار وحدة البلاد . وإشاعة الديمقراطية والتآخي الوطني .

4- التصدي الجرئ لسياسة دكتاتورية عبود (58-1964) تجاه مشكلة الجنوب ، وذلك بتنظيم الندوات والمظاهرات ، وكتابة الشعارات وإصدار البيانات ، والتعرض للمحاكمات والاعتقال ، والاضراب عن الماء والطعام .

البعث والجنوب خلال العهد المايوي (1969-1985) :

عندما وقع إنقلاب مايو 1969 بقيادة جعفرنميري ، كان موقف البعث واضحاً وعملياً في تشخيصه لطبيعة هذا النظام ، بصرف النظر عن الشعارات التي طرحها في بداية عهده ، لأن العبرة لم تكن في الشعارات ، وإنما في القدرات العملية لهذا الانقلاب في وضع هذه الشعارات موضع التطبيق .

لقد كان من بين تحليل البعث لطبيعة الانقلاب (( إنه وقع في ظروف تميزت بتفكك وتحلل النظام التقليدي البرجوازي وتفاقم أزمته الاقتصادية وعجز القوى التي يستند عليها عن ايجاد مخرج إيجابي – يضاف الى ذلك ضعف الحركة الثورية ودخولها مرحلة الركود والأزمة التي شلتها وأفقدتها القدرة على طرح خط نضالي عملي ، يتناسب وظروف إنهيار النظام التقليدي البرجوازي ، وذلك نتيجة لقصورها الذاتي ، الفكري والتنظيمي ، وهذا ما أعجزها عن أن تكون بديلاً ثورياً للنظام التقليدي الذي وصل مرحلة الانهيار بفضل نضال الحركة الجماهيرية )) (38).

1- الموقف من بيان 9 يونيو/حزيران 1969 :

وعندما أعلن إنقلاب مايو 1969 موقفه من مشكلة جنوب السودان في بيان 9 يونيو المشهور ، حيث عبر الحزب عن موقفه من هذا البيان في معرض تحليله لانقلاب مايو المثبت في وثيقته المركزية ( البعث وقضايا النضال الوطني في السودان ) ، حيث جاء في التحليل ما يلي (( لقد طرحت سلطة مايو في بيان 9 يونيو 1969 تصوراً سليماً ، ومنهجاً علمياً لحل مشكلة الجنوب . فأعلنت إعترافها الواضح بواقع الاختلاف التاريخي والثقافي بين شمال القطروجنوبه ، وأكدت أن المديريات الجنوبية ، برغم تعدد قبائلها ، وتنوع أشكال الحياة فيها تشكل في مجموعها إقليماً له خصائصه التاريخية والثقافية المتميزة عن شمال القطر .

وعلى هذا الأساس طرحت حلاً ديمقراطياً يتمتع فيه الجنوب بحكم ذاتي اقليمي ضمن وحدة القطر السياسية والاقتصادية . وإشترطت لذلك نمو حركة ديمقراطية إشتراكية في الجنوب ترتبط برفيقتها في الشمال .

إن هذا التصور لمشكلة الجنوب والمنهج المطروح لحلها يعتبر خطوة ايجابية متقدمة طالما ناضلت الحركة الثورية من أجلها )).

ولا يقف موقف البعث عند هذا الحد ، وإنما يطرح الشروط اللازمة لنجاح هذا الموقف عملياً إذ يقول : (( ولكنها خطوة تتطلب مناخاً ديمقراطياً وعملاً شاقاً لتصفية بقايا النظرة الشوفينية البرجوازية ، وتضامناً عملياً مع حركات التحرر الوطني في البلدان الأفريقية المجاورة وبالذات في أرتيريا وأثيوبيا ، وتشاد وأواسط أفريقيا . لذلك لأن جوهر هذه المشكلة هو الوجود الاستعماري ، وحلفاؤه المحليون في السودان والبلدان المجاورة .. وإذا كان بيان 9 يونيو قد حدد الاطار والمنهج السليمين لحل مشكلة الجنوب ، فإن تطور الأحداث جعل من هذا البيان مجرد حبر على ورق . فقد خلقت ممارسات السلطة عقبات كثيرة في طريق تنفيذه نذكر منها مايلي (39) :-

أولاً : فقدان الديمقراطية وعرقلة جهود الحركة الثورية لبناء جبهة وطنية تقدمية تكون أساس الحكم .. فالشرط الأساس لضمان تنفيذ الحكم الذاتي الاقليمي هو توفير المناخ اللازم لنمو حركة ديمقراطية في الجنوب . وهذا يتطلب اشاعة الديمقراطية ، وإعتماد العمل الجبهوي كأساس للحكم ، وباشاعة الديمقراطية في شمال القطر ، وجنوبه يفتح المجال لنمو حركة ديمقراطية سليمة ومعافاة في الجنوب . وبإعتماد العمل الجبهوي للحكم في البلاد بوضع الأساس الصلب للحكم الذاتي الاقليمي في الجنوب ، وجوهر بيان 9 يونيو يفرض ذلك .. ولكن اختيار السلطة الموقف المعادي للديمقراطية والعمل الجبهوي قطع الطريق أمام أي تطور باتجاه حل هذه المشكلة التي أصبحت عقبة أمام تطور القطر بأكمله .

ثانياً : إن سياسة التقارب من الأنظمة الرجعية المجاورة ، والموقف السلبي من حركات الثورة في ارتريا وتشاد .. الخ ، أفقدت بيان 9 يونيو روحه المعادية للاستعمار والرجعية الأفريقية والمحلية.

ثالثاً : إن التراجع المستمر بإتجاه المواقع الرجعية ، والارتباط بقوى الاستعمار الجديد الأمريكي والألماني الغربي قطع الطريق نهائياً أمام حل ديمقراطي تقدمي للمشكلة ، وأفسح المجال أمام العناصر الجنوبية المتخلفة والمرتبطة بحركة الانفصال .. وهكذا بعد سنتين من بيان 9 يونيو 1969 وجدت السلطة نفسها أمام خيار واحد هو الاتصال بحركة التمرد المسلح والتفاوض معها للوصول الى إتفاق مشترك .

هكذا تراجعت سلطة مايو عن الحل الديمقراطي التقدمي لمشكلة الجنوب ، فأفقدت بيان9 يونيو روجه الديمقراطية المعادية للاستعمار والرجعيات الأفريقية ، وبدأت تبحث عن حل بالتقارب مع الرجعيات الأفريقية خاصة في أثيوبيا ، والتفاوض مع القيادات الانفصالية (40) .

موقف البعث من اتفاقية أديس أبابا 1972 :-

بموجب البيان المعلن في 9/6/1969 جرت مباحثات سرية في أديس أبابا عاصمة أثيوبيا وبين وفد يمثل حكومة نميري برئاسة (أبل ألير) نائب رئيس الجمهورية ، ووفد يمثل السياسيين والعسكريين الجنوبيين في حركة أنانيا برئاسة (أزبوني منديري) . وإشترك في هذه المباحثات مراقبون من أثيوبيا ، ووفد يمثل مجلــــس الكنائــــس العالمي ، والسكرتير المساعد لمنظمة الوحــــــدة الأفريقية . وقد تمكن الطرفان من الوصـــول الى اتفاق لحل مشكلة الجنوب وقع في 28 /2/1972 وصدق عليه الدكتاتور نميري واللواء ( جوزيف لاقو) قائد قوات الأنانيا ، وتضمن هذا الاتفاق منح مديريات الجنوب الحكم الذاتي الاقليمي وتنظيم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إقليم جنوب السودان .

وبعد الاعلان عن هذه الاتفاقية أعلن حزب البعث موقفه منها في بيانه الجماهيري الصادر بتاريخ فبراير 1972 ، إذ يرى البعث أن نظام نميري اعتبر اعلان اتفاقية اديس ابابا لحل مشكلة الجنوب إنتصاره الأعظم ومبرر وجوده الأوحد يتشدق به صباح ومساء .. وبالفعل كانت هذه الاتفاقية عاملاً له أهمية ، وتأثيره الفعال في إندفاع هذا النظام للارتماء في أحضان مراكز الاستعمار الجديد ، والقوى البرجوازية والتقليدية المحلية ، فقد ارتبطت إتفاقية أديس ابابا بالظروف والحقائق التالية (41):-

أولاً : إن هذه الاتفاقية جاءت في ظروف محاولة ضرب وتصفية الحركة الثورية والديمقراطية في الشمال والتي تشكل الحليف الطبيعي والوحيد لتطلع أبناء المديريات الجنوبية لنهضة إقليمهم وتمتعه بحكم ذاتي اقليمي ، ضمن اطار السودان الموحد ، وإذا كان تطور الأحداث قد أثبت عجز طغمة 25 مايو ونظامها عن القيام باستكمال إنجاز أهداف الثورة الوطنية التقدمية ، فإنها وبالضرورة عاجزة عن حل مشكلة الجنوب التي تشكل جزءاً هاماً من هذه الأهداف .

ثانياً : إن اتفاقية أديس ابابا ، وبحكم القوى التي شاركت فيها أدت الى إخراج المشكلة من اطارها الوطني ودفعت بها خطوات في طريق التدويل . وهذا ما يعكس ارتباطها بصراع القوى الاستعمارية على بلادنا وبالذات الاستعمار الأمريكي ، والألماني الغربي الذي بدأت تدفق رؤوس أمواله ، وقروضه ومعوناته عقب إعلان هذه الاتفاقية .

وفي نفس الوقت إرتبطت هذه الاتفاقية بازدياد إرتباط النظام العسكري الرجعي بالأنظمة الأفريقية الرجعية والمتخلفة في أثيوبيا وتشاد .. الخ ، وهي أنظمة وبالذات النظام الأثيوبي ( في ظل الامبراطور هيلا سلاسي ) لها أهميتها في الاستراتيجية الاستعمارية للتغلغل داخل أفريقيا ، والسيطرة على جنوبي البحرالأحمر ، والضغط على حركة الثورة العربية للخضوع لشروط العدو الصهيوني الاستعماري . وهذا ما انعكس في مطاردة نشاط حركة الثورة الأرترية والتشادية ، والعمل على ابعاد مناضليها من السودان، أو زجهم في السجون ، وتسليمهم للسلطات الرجعية في أثيوبيا وتشاد .

ثالثاً : إن هذه الاتفاقية بنصوصها المعلنة والسرية ، هي محاولة لافراغ مشكلة الجنوب من محتواها الديمقراطي المعادي للاستعمار والمرتبط بحركة الثورة الأفريقية والعربية على السواء ، كما حدد ذلك بيان 9 يونيو 1969 التاريخي . فقد قامت الاتفاقية على إعتبار حركة الأنانيا المسلحة الممثل الشرعي للاقليم الجنوبي والمعروف عن هذه الحركة أن لها ارتباطات وعلاقات قوية مع اسرائيل وبعض الدوائر الاستعمارية التي كانت تمدها باحتياجاتها من السلاح والتدريب . كما أنها تقوم على مفهوم عنصري ، وشوفيني متخلف للمشكلة . إن الاعتماد على هذه العناصر يعني خنق طلائع الحركة الديمقراطية والاشتراكية في الجنوب ، التي اعتبرها بيان 9 يونيو أساس الحكم الذاتي الاقليمي ، بالاضافة الى ذلك ، فلقد أدت الاتفاقية الى اضافة قوى جديدة هي عناصر حركة الأنانيا ، لها نفوذها ، وتأثيرها الفعال داخل السلطة المركزية في الخرطوم .

فقد كان النظام العسكري الفردي الدكتاتوري قبل ذلك يرتكز الى قوى البيروقراطية العسكرية داخل القوات المسلحة ، وإمتداداتها المدنية في أوساط التكنوقراط ، والبرجوازية البيروقراطية ، وبجانب تحالف ضمني مع الرأسمالية التجارية ، وبعد الاتفاقية أصبح للنظام حليف جديد ، له وزنه وتأثيره الفعال . وأبرز إنعكاسات هذا الحليف الجديد ، سرعة اندفاع السلطة للارتماء في أحضان الاستعمار الجديد  والأمريكي بوجه خاص ، كما يتضح من تزايد الدور الذي تقوم به عناصره داخل الوزارة وأجهزة الحكم وفي العودة الى شعارات حزب الأمة الاقليمية والمعادية لحركة الثورة العربية . والتي تعكس وقوع السلطة العسكرية الرجعية في شرك المخطط الاستعماري الجديد ، الذي يهدف الى خلق عداء مصطنع بين أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء ، وخلق عملية التفاعل المتبادل بين حركة الثورة العربية ، وحركة التحرر الأفريقي ، في ظروف عالمية تفرض تماسك وتمتين وحدة الجبهة العالمية المعادية للاستعمار والامبريالية .

إن تاريخ نضال الحركة الثورية الديمقراطية ، وتجاربها المتصلة يؤكد إرتباط حل مشكلة الجنوب بانتصار الثورة التقدمية ونمو حركة ديمقراطية إشتراكية في الجنوب ، متحالفة مع الحركة الثورية والديمقراطية في الشمال ، ودعم حركة التحرر الأفريقي في المنطقة لتوسيعها ، وتشديد نضالها ضد الاستعمار والامبريالية .

ويخلص البعث من تحديد موقفه من إتفاقية أديس ابابا بموقفه من نظام 25 مايو برمته ، مراهناً على حتمية فشل هذا النظام في حل جذور مشكلة جنوب السودان ، ما دام قد فشل هذا النظام في حل أزمة التطور الوطني في الشمال ، وذلك برغم الهدنة المؤقتة التي عاشتها البلاد خلال الفترة ما بين (1972-1983) .

ولم يتوقف البعث عند هذا الحد بل طرح مشروعه الوطني لمواجهة أزمة التطور والوحدة الوطنية في السودان معتبراً أن الخطوة الأولى تتمثل في اسقاط نظام الدكتاتورية المايوي ، ومعلناً (( أن مشكلة الجنوب تشكل جزءاً أساسياً من أهداف تلك المرحلة ، وإن أهم شروط السير في إتجاه حلها ديمقراطياً وسلمياً ، هو بناء حركة ديمقراطية إشتراكية في الجنوب متحالفة مع الحركة الثورية والديمقراطية في الشمال . وإن إنجاز هذه المهمة الصعبة ، والملحة يفرض هو الآخر ، ترسيخ تقاليد العمل الجبهوي وإشاعة الديمقراطية وسط الحركة الثورية والجماهيرية))(42) .

وقد جاء في بيان الحزب الصادر في الذكرى (20) لاستقلال السودان في يناير 1976 ، وفي معرض نقده لسياسة نظام نميري تجاه الجنوب ما يلي : (( لقد فرطت سلطة الردة الفاشية في وحدة التراب الوطني ، ومهدت باتفاقها مع ( الأنانيا) الانفصاليين في اديس ابابا لفصل جزء عزيز من الوطن )) (43) .

مشكلة جنوب السودان في : برنامج الثورة الوطنية والقومية التقدمية في السودان :

في ديسمبر 1975 إنعقد المؤتمر الرابع لتنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان . وقد توصل هذا المؤتمر الى قرار إعلان الحزب جماهيرياً من خلال جريدة (الهدف) الناطقة باسمه ، كما أقر المؤتمر برنامج الثورة الوطنية التقدمية في السودان كدليل عمل للمناضلين البعثيين في السودان ، ووافق على اصدار وثيقة (البعث وقضايا النضال الوطني في السودان ) . تلك الوثيقة التي اشتملت على تحليل علمي دقيق لتطور الحركة الوطنية السودانية منذ الثورة المهدية وحتى إنقلاب مايو 1969 محددة إخفاقات الحركة الوطنية السودانية ، وإيجابياتها ، ومتلمسة بعمق أزمة التطور الوطني في السودان ، ومقترحة آفاق حلها .. وقد تضمنت هذه الوثيقة الهامة في مقدمتها على برنامج الثورة الوطنية والديمقراطية في السودان . أهدافها ، آفاقها ، أداة إنجازها . وقد جاء في هذا البرنامج حول مشكلة الجنوب ما يلي (44) :-

1- الاعتراف بواقع التمايز الثقافي والتاريخي والحضاري بين شمال القطر وجنوبه ، والعمل على حل قضية الاقليم الجنوبي بالانطلاق من هذه الحقيقة ، وبالالتزام بمضمون بيان 9 يونيو 1969 التاريخي ، والعمل على تنفيذ بنوده ، وعلى رأسها إعطاء الجنوب حق الحكم الذاتي الاقليمي في اطار وحدة القطر .

2- العمل على خلق حركة ديمقراطية إشتراكية في الجنوب ، وتوفير الظروف الملائمة لنموها ، وتطورها وتحالفها الاستراتيجي الوثيق مع الحركة الثورية والديمقراطية في الشمال لتشكل أساس الحكم الذاتي الاقليمي وركيزة الوحدة الوطنية .

3- العمل على وضع خطة تنمية إقتصادية وإجتماعية خاصة بالجنوب بهدف تطويره ، وإستغلال إمكانياته لخدمة أبنائه .

4- العمل على توثيق علاقات التعاون والتضامن مع الحركات الثورية والديمقراطية في البلدان الأفريقية المجاورة ( أثيوبيا ، وتشاد، ويوغندا ) وقطع الطريق أمام مؤامرات الاستعمار القديم والجديد لتفتيت وحدة البلدان الأفريقية ونهب خبراتها .

وجاء في نفس البرنامج في مجال التعليم والثقافة والخدمات ما يلي (45) :-

– العمل على خلق ثقافة وطنية مرتبطة بخصائص التكوين القومي العربي لشعبنا ، وعلمية مرتبطة بمنجزات العلم الحديث ، والمعرفة الانسانية المعاصرة وثورية معادية للقهر القومي والاستغلال الطبقي ، وقادرة على استيعاب التمايز القومي بين شمال القطر وجنوبه ، وإرتباطات قطرنا العربية والأفريقية .

  • العمل على تمكين جماهير شعبنا في الاقليم الجنوبي من تنمية ثقافاتها الأفريقية ، وحمايتها من تيارات التعصب العنصري والديني ، ودفعها للتعايش والتفاعل الحر ، والايجابي مع الثقافة العربية في الشمال والانفتاح علىالثقافة التقدمية العالمية المعاصرة.

موقف البعث من الحركة الشعبية لتحريرالسودان :

مثلما توقع الحزب في تحليله لنظام مايو منذ أيامه الأولى ، فقد فشلت سياسات نظام نميري الاقتصادية ، والاجتماعية في عموم السودان وتفاقمت أزمة النظام السياسية بفضل نضال الحركة الشعبية الديمقراطية في الشمال وفي طليعتها حزب البعث العربي الاشتراكي  والقوى الوطنية الأخرى ، حيث شكلت مصالحة 1977 بين نظام نميري والأخوان المسلمين بزعامة حسن الترابي وحزب الأمة بزعامة الصادق المهدي ، منعطفاً هاماً في اصطفاف حركة المعارضة الوطنية ضد نظام نميري .. وتشكلت نواة المعارضة بالتحالف بين حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان والحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة المرحوم الشريف حسين الهندي ، حيث تطور هذا التحالف بعد استشهاد الشريف الهندي عام 1982 ، وإنضم اليه حزب سانو بزعامة صمويل أرو وحزب الأمة جناح الامام الهادي وشخصيات وطنية مستقلة ليتشكل بذلك ( تجمع الشعب السوداني ) كجبهة معارضة رئيسية ضد نظام نميري .

وكان من الطبيعي أن تنعكس أزمة النظام العامة على جنوب السودان ، حيث تمزقت الحكومة الاقليمية ، بسبب توقف التنمية ، وتفاقم الأزمة المعيشية ، وإندلعت الانقسامات القبلية والشخصية ، بسبب الاختلاف حول القرار الذي أصدرته سلطة نميري بتقسيم الاقليم الجنوبي الى ثلاثة أقاليم بحجة تقليل سيطرة قبيلة الدينكا على السياسة في الجنوب .

وفي يناير 1983 إندلعت الحرب الأهلية من جديد ، عندما هاجم منشقون مدينة (أويل) في مديرية بحر الغزال ، ومقتل (12) تاجراً شمالياً ، وفي فبراير من نفس العام تمردت الكتيبة 105 في بور والتي تتكون من جنود جنوبيين ، وهرب نحو ألف ضابط وجندي الى الغابة حاملين معهم أسلحتهم ، وخلال ذلك الصيف تأسست الحركة الشعبية لتحرير السودان أغسطس 1983 بقيادة العقيد جون قرنق ، وقد أدت هجمات رجال حرب العصابات (الجيش الشعبي لتحريرالسودان ) على موظفي الشركة الفرنسية في ديسمبر 1983 الى وقف العمل في مشروع قناة جونقلي والى وقف أعمال شركة شيفرون للتنقيب عن النفط .

وكان هذا التمرد بمثابة شهادة الوفاة لاتفاقية أديس ابابا وشرع نظام نميري في تغيير اتجاهاته السياسية ، بعد أن سقطت ورقة الجنوب ، وذلك باعلان قوانين سبتمبر1983 ، لغرض اطالة عمره واللعب بورقة الشريعة الاسلامية وتمتين تحالفه مع جماعة الترابي الرجعية (الجبهة الاسلامية ) ، كما حاول النظام تعديل دستور البلاد مما أدى الى تفاقم الأزمة في الجنوب وكان النظام في هذا الوقت يلفظ أنفاسه الأخيرة .

لقد تفهم حزب البعث العربي الاشتراكي ظروف التمرد في الجنوب ومبرراته واعتبرالحركة الشعبية رصيد مضاف لقوى المعارضة في الشمال وحمل مسؤولية اشتعال الحرب على نظام نميري حيث يقول الأستاذ بدر الدين مدثر أمين سر حزب البعث في السودان (( أود أن أؤكد أن حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان ، وتجمع الشعب السوداني ، لا يريان جهة مسؤولة عن الحرب الأهلية في الجنوب ، وعن تردي الأوضاع في عموم القطر ، سوى نظام نميري بسياساته وممارساته ، وإرتباطاته الأجنبية ، ورهنه للوطن وسرقته لقوت الشعب ، وإن تخبط سياسة هذا النظام إزاء الجنوب ، وتقلبها ، ومحاولاته زرع وتعميق تناقضات داخلية في الاقليم الجنوبي نفسه ، ولجوئه للقمع والقمع وحده في مواجهة المعارضة في الجنوب ، كما في الشمال ، أنه لم يترك مجالاً لمعارضة ديمقراطية شرعية جديدة ضد النظام ، فالنظام أفرغ الحكم الذاتي للجنوب عن محتواه ومارس أبشع أنواع الابتزاز السياسي على الشعب باسم إرتباط استمرار وحدة القطر ببقاء نظامه )) ، ويضيف قائلاً :-

(( غير أن الشعب في الشمال والجنوب أدرك الآن إن اسقاط هذا النظام هو الشرط الأساسي لانهاء الأوضاع المأسوية التي يعيشها الانسان السوداني في الشمال والجنوب معاً ، وأنه الشرط الأساسي لتمكين الشعب من ايجاد الصيغة المناسبة التي تحافظ على وحدته وتجسد في نفس الوقت الاقرار المشترك لواقع التمايز الحضاري والثقافي بين الشمال والجنوب ، مع فتح كل قنوات الديمقراطية للتفاعل بينهما ، وتحقيق التنمية المشتركة للبلاد )) (46) .

وفي حديث صحفي قبيل سقوط نظام نميري تحدث الرفيق بدرالدين مدثرأمين سر قيادة قطرالسودان لحزب البعث العربي الاشتراكي ، مؤكداً مواقف الحزب المبدئية من مشكلة الجنوب ومعبراً عن تفهمه للمقاومة المسلحة للحركة الشعبية بزعامة جون قرنق في الجنوب ، حيث قال (( الجنوب جزء عزيز من بلادنا ومشكلته هي أبرز مشاكل التطور الوطني في السودان ، هكذا ننظراليه كمعضلة في وجه تنامي القوى القومية في السودان ، فمن الناحية الواقعية نجد أن الحركة القومية في السودان تنمو وتتعاظم بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي ، وتتطور علاقتها بمثقفي طلائع الجنوب يوماً بعد يوم ، بالرغم من أن مشكلة الجنوب تتفاقم الى الدرجة التي اضطر معها الجنوبيون الى حمل السلاح في وجه سلطة نميري الدكتاتورية الفاشية بالخرطوم ، وحزب البعث العربي الاشتراكي بمنطلقاته القومية الاشتراكية ، لم يكن في يوم من الأيام حزباً عنصرياً أو عرقياً ، أو معادياً لأية قومية أو أقلية متميزة بسبب اللون ، أو العنصر ، أو الدين ، وكان ينظر دائماً الى واقع التعدد في الثقافات ، والمنابع الحضارية القديمة ، وإلى واقع التمايز الثقافي والاجتماعي في بعض أجزاء الوطن العربي . نظرة ايجابية متفائلة باعتباره دليل حيوية ، ومبعث نهوض ، من خلال التفاعل الديمقراطي والمساواة في الحقوق بين المواطنين ، والتنمية المتوازنة  التي تستهدف النهوض المتوازن بين مختلف أقطار الوطن العربي وأقاليم أقطاره )) .

ويستمر في فضح سياسة نميري بالقول : (( والواقع إننا ندرك جيداً أن النظام الذي إفتعل تناقضات بين أقاليم السودان الأخرى ، وليس بين الجنوب والشمال فحسب ، والذي إستمرأ اللعب بالتوازنات القبلية والعشائرية ، بل والعنصرية ضمن كل إقليم من أقاليم السودان ، إن هذا النظام لا يمكنه إلا أن يتبع سياسة خرقاء ورعناء ، ومشبوهة في الجنوب ، تستهدف تعميق المشكلة بما يمكنه من الاستقواء بالجنوب على المعارضة في الشمال حيناً .. والبطش بقوى المعارضة في الجنوب باسم الشمال حيناً آخر ، بينما هو في الحينين لا يستهدف سوى إطالة عمره على حساب الشعب في الشمال والجنوب بل في كل أقاليم السودان )) (47) .

إن تفهم البعث لمبررات التمرد في الجنوب ، وأسلوب التعبير عن معارضة نظام نميري عن طريق المقاومة المسلحة ، للظروف الخاصة بالجنوب ، لا يعني الاعتماد على هذا الأسلوب بعد سقوط نظام نميري ، وعودة الديمقراطية في البلاد ، وتوفر فرص الحوار السلمي .. حيث يقول الأستاذ بدر الدين مدثر : (( وأنني واثق بأن حركة جيش التحرير الشعبي بقيادة الأخ جون قرنق ، لن تجد مبرراً لحمل السلاح ، وعندما يكلل نضال الشعب السوداني بمجموعه بالنجاح ، في إزاحة كابوس نظام نميري الدكتاتوري الفاشي وأنه لن يكون هناك آنذاك ما يحول دون وضع مشكلة الجنوب على طريق الحل النهائي ، بما يجسد المضمون الحقيقي للحكم الذاتي ، في نفس الوقت الذي يعمق فيه وحدة القطر )) (48) .

ويقول الرفيق أمين سر القطر : (( إن الذين حملوا السلاح في الجنوب يقولون إنهم ليسوا مع فصل الجنوب ، ولكنهم ضد الديكتاتورية العسكرية القابعة في الشمال والجنوب ، وخيار الحرب بالنسبة لبعض الجنوبيين كان اضطرارياً ، وإذا كانت الأحزاب والمناضلون في الشمال يستطيعون المعارضة سراً ، بل أن ينموا في ظل القمع ، كما حدث لحزب البعث العربي الاشتراكي ، فإن هذا لم يكن يحدث فيما يتعلق بالجنوب )) (49) . ويؤكد الرفيق بدر الدين مدثر القول : (( وخلال فترة الحكم المايوي ، وبعد قيام حركة تحرير شعب السودان المسلحة في الجنوب بزعامة جون قرنق ، كان للحزب صلات معها ، وكان يحرص على أن يحذرهم من مخاطر وأمراض الحركة المسلحة التي تريد أن تحسم قضية نضال وطني في قطرها بالسلاح ، ومن خارج حدود القطر ، لأنها تصبح عرضة للارتهان .

أما بعد الانتفاضة ، وسقوط نظام نميري ، كان يدعوهم الى وضع السلاح والعمل في مجال السياسة من الداخل ، ولكنهم لم يقبلوا هذا الرأي بل قسروه بأشياء كثيرة )) (50).

 

البعث والجنوب منذ إنتفاضة مارس / أبريل 1985 :

وحتى قيام إنقلاب 30 يونيو 1989 :

بعد نجاح إنتفاضة مارس أبريل وسقوط دكتاتورية نميري في 6/4/1985 نظم حزب البعث العربي الاشتراكي ندوة سياسية كبرى في جامعة الخرطوم بتاريخ 28/4/1985 حدد فيها مهام المرحلة الانتقالية ، وطرح لأول مرة فكرة عقد المؤتمر الدستوري لحل مشكلة جنوب السودان . حيث تحدث الرفيق بدر الدين مدثر أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي متطرقاً لمشكلة جنوب السودان ، وموجهاً نقده لسياسات النظام المندحر تجاه الجنوب ، حيث يقول : (( لقد إنتهج هذا النظام سياسات خاطئة في جنوب السودان (..) حيث استخدم النظام وضع الجنوب ككل في اطالة عمره ، وتورط في ما نسميه ( بلعبة التوازنات القبلية والجهوية ) على صعيد القطر ككل )) .

ويؤكد الأستاذ بدر الدين مدثر بأن استكمال الانتصار الذي حققه شعبنا في انتفاضة مارس- أبريل 1985 ، وتحقيق السقوط النهائي لنظام نميري ، يقتضي تصفية آثار نظام مايو ومرتكزاته ، وعلى رأسها ما يتعلق بأسباب الانتفاضة .

أما فيما يتعلق بالجنوب يؤكد الرفيق أمين سر القطر ، بأن نظام نميري وحده هو المسؤول عن تعميق المشكلة والوصول بها الى حد الحرب الأهلية . باستخدامه للعبة التوازنات بين الشمال والجنوب . فلقد كان نميري يقول : بأن من يريد إسقاط حكمه ، عليه أن يكون مستعداً لتحمل مسؤولية فصل الجنوب ، لأن الجنوبيين لا يثقون في أي قوة سياسية في الشمال عدا نميري نفسه الذي أبرم اتفاقية أديس ابابا !! وهذا افتراء سرعان ما اتضح للجنوب كما للشمال . ويمضي بعد أن يشرح الأساس النظري لفهم البعث لمشكلة الجنوب الى القول : ((وحزب البعث العربي الاشتراكي يدعو الى عقد مؤتمر وطني لكل القوى الحزبية الأساسية في الشمال والجنوب ، والقوى النقابية والمهنية ، والعمالية مع الحكومة الانتقالية ، ومشاركة المجلس العسكري الانتقالي ، وحركة تحرير شعب السودان ، على أن ينعقد هذا المؤتمر في أسرع فرصة ، ويصل الى حلول ، شاملة قبل نهاية الفترة الانتقالية ، يضاف الى ذلك كله ، تأكيد دور حركة تحرير شعب السودان بقيادة الأخ جون قرنق في النضال ضد نظام نميري ، وفي إسقاطه مع مجموع الشعب والحركة السياسية والنقابية في الشمال )) (51) .

وإنسجاماً مع دعوته لعقد مؤتمر وطني لحل مشكلة جنوب السودان ، تشارك فيه قوى الشعب السوداني في الشمال والجنوب ، كرر البعث دعواته لحركة جون قرنق والمجلس الوطني الانتقالي على السواء ، بوقف إطلاق النار وتهيئة الظروف للحوار من أجل وضع الحلول التي تضمن حقوق الجنوب ، وتحافظ على وحدة البلاد .. وكان البعث يرى أنه ليس هنالك مبرر لاستمرار الحرب الأهلية في ظل المناخ الديمقراطي الذي أتاحته الانتفاضة الشعبية .

وعبر البعث عن موقفه ودعواته هذه وبالحاح عبر ندواته السياسية والمذكرات التي رفعها للحكومة الانتقالية وعبر صحيفته المركزية (الهدف) .

ففي 15/6/1986 قدم حزب البعث العربي الاشتراكي مذكرة الى مجلس الوزراء تضمنت مقترحاته لمواجهة إجراءات صندوق النقد الدولي ، والوضع الاقتصادي الراهن في البلاد .. ودعا البعث الى تكثيف الجهود للاسراع بانهاء الاقتتال والحرب الأهلية الدائرة في الجنوب . وذلك على أساس الحوار الوطني السلمي والديمقراطي  والتنمية المتوازنة ، والحكم الذاتي الاقليمي للجنوب ، والدستور الديمقراطي لعموم السودان )) (5).

كما وجه الرفيق أمين سر القيادة القطرية للحزب الدعوات مراراً لحركة جون قرنق بوقف اطلاق النار والبدء في الحوار لغرض وضع الحلول لمشكلة الحرب ، ففي الندوة التي أقامها الحزب في ميدان المولد بتاريخ 25/4/1987 ، قال الرفيق بدر الدين مدثر : (( نحن ندعو جون قرنق ، كما دعوناه من قبل أكثر من مرة ، لكي يقوم بايقاف اطلاق النار ، ايقافاً فورياً (…) لأن وقف اطلاق النار هو الطريق الوحيد للدخول في المفاوضات وإنجاح المؤتمر الدستوري ، والوصول إلى حل نهائي لمشكلة الحكم في الجنوب وغير الجنوب )) ، ومن جانب آخر يطالب الحكومـــة ((بالوفاء بكل ما يمكن الوفاء به من اتفاق كوكادام ، على الأقل فيما يتعلق بالغاء قوانين سبتمبر 1983 دون تلكؤ أو تحايل ، ولكن لا نقبل أبداً إنهاء حالة الطوارئ في الجنوب قبل وقف اطلاق النار وفي هذا نحن على وفاق تام مع موقف الحكومة )).

كما طالب أمين سر الحزب بالغاء نظام المليشيات المسلحة*(53) من بعض القبائل المساندة للجيش في الجنوب ، مقترحاً دمجها في الجيش النظامي ، (( لأن تركها كمليشيات سيجر الى ردود فعل من قبل قوى أخرى لتشكيل مليشيات ، وقد رأينا كيف أن الصراع بين قبائل الجنوب مثلاً ، يأخذ كل يوم شكلاً متصاعداً ، فلتكن كل القوات الصديقة جزءاً من القوات المسلحة ، حتى نقطع الطريق أمام تفاقم المليشيات القبلية . ومن المعلوم للجميع طبعاً ، أن تفاقم ظاهرة المليشيات القبلية في الجنوب وغيره من الأقاليم ، لابد أن يزيد نار الحرب الأهلية إشتعالاً ويؤدي بالتالي الى مزيد من التهديد الجدي للوحدة الوطنية )) (54) .

وكان البعث قد عبر موقفه هذا في برنامجه الانتخابي الصادر في مارس 1986 ، حيث جاء حول مشكلة الجنوب في هذا البرنامج ما يلي :-

1- الاعتراف بواقع التمايز الثقافي والتاريخي والجغرافي بين شمال القطر وجنوبه والعمل على حل قضية الجنوب بالانطلاق من هذه الحقيقة وعلى أساس نبذ الاقتتال والالتزام بالحوار السلمي الديمقراطي .

2- تأكيد حق الجنوب في الحكم الذاتي الاقليمي في إطار وحدة القطر ، وحقه في المحافظة على ثقافاته المحلية وتنميتها وتطويرها بما يخدم تطوره وتقدمه .

3- مطالبة جون قرنق بوقف إطلاق النار والدخول في الحوار من خلال مؤتمر الوفاق الوطني ، مع إلتزام كافة الأطراف المعنية بالعمل على توفير الظروف الضرورية لبدء الحوار وإستمراره ووصوله لنتائجه المرجوة .

4- تجميد إجراء الانتخابات في الأقاليم الجنوبية ، وإعتبار المؤسسة المنتخبة برلماناً الى حين إجراء الانتخابات التكميلية في الجنوب لتمارس صلاحيتها كجمعية تأسيسية مع الالتزام بتمثيل الجنوب في الحكومة البرلمانية القادمة حسب ثقله السكاني ، وذلك من أجل توفير المناخ السياسي الملائم للحوار والحل السلمي الديمقراطي الدائم (55).

البعث يتصدى لسياسة الجبهة الاسلامية تجاه الجنوب :

كانت السياسة التي إتبعها حزب البعث بعد الانتخابات العامة في السودان 1986 هي سياسة (المعارضة الايجابية) ، وإنه لم يتحفظ على البرنامج السياسي الذي طرحه رئيس الوزراء الصادق المهدي بعد تشكيل أول حكومة ائتلافية بينه وبين الحزب الاتحادي الديمقراطي ، فالبرنامج الذي طرحه الصادق المهدي كان ينسجم في خطوطه العامة مع برنامج قوى الانتفاضة ، ويتعهد ( بكنس آثار مايو ) ، لذلك لم يجد البعث بداً من تأييده ولكن بتحفظ ، ومعلناً أن العبرة في التنفيذ ، وليس مجرد طرح البرنامج . لهذا تعهد البعث بأن يدعم أي خطوة من قبل الحكومة تسعى الى وضع برنامج الانتفاضة موضع التنفيذ ، ويعارض دون هوادة أي خطوة تتعارض مع هذا البرنامج ، وبالفعل مارس البعث هذه السياسة طوال فترة الديمقراطية الثالثة .

وكان البعث يعتبر الجبهة القومية الاسلامية التي كونها الترابي بعد الانتفاضة كواجهة لتنظيم الأحوان المسلمين ، يعتبرها مسؤولة عن جرائم نظام نميري في حق الشعب السوداني ، ذلك لأن الترابي وجماعته كانوا قد تصالحوا مع نظام نميري منذ عام 1977 وإندمجوا في مؤسساته ، وتحملوا مسؤوليات وزارية وبعد أن طرح نميري ورقة التشريعات الاسلامية (قوانين سبتمبر 1983) أيدوه بقوة وبايعوه الى الأبد أميراً للمؤمنين !! وذلك بالرغم من الجرائم التي ارتكبت في حق المواطنين باسم هذه التشريعات ، والتشويه الذي مارسته لشريعة الاسلام السمحاء ، ولم تعارض الجبهة الاسلامية نظام نميري إلا في الأيام الأخيرة لسقوطه بعد أن طردهم من كراسي السلطة !! وعندما شكل الصادق المهدي حكومته الائتلافية الثالثة بعد فشل الأولى والثانية بينه والحزب الاتحادي الديمقراطي ، ضمت الحكومة الثالثة الجبهة الاسلامية وأطلق عليها ( حكومة الوفاق الوطني ) .

إعتبرالبعث هذا التطور بمثابة تنكر كامل وجذري لبرنامج الانتفاضة من قبل الصادق المهدي ، بعد أن ماطل في تنفيذ هذا البرنامج خلال وزارتيه الأولى والثانية . لذلك اتخذ البعث موقف المعارضة السلبية ، وعمل على تعبئة الشارع السياسي في اتجاه اسقاطها . لأن دخول الجبهة الاسلامية فيها يقطع كل الطرق أمام تطوير الانتفاضة والحفاظ علىالديمقراطية ، ويهدد بقطع الطريق أمام الجهود القائمة لحل مشكلة الجنوب ووقف الحرب الأهلية .

وفي 4/5/1988 نظم حزب البعث العربي الاشتراكي مؤتمراً صحفياً تاريخياً حدد فيه موقفه من اشراك بقايا مايو في الحكم ، وحدد المهام الجديدة التي يجب أن تطلع بها قوى الانتفاضة . وتحدث الرفيق بدر الدين مدثر أمين سر القيادة القطرية ، فاضحاً التحالف الجديد بين حزبي الأمة والاتحادي مع الجبهة الاسلامية مركزاً على فضح سياسة الجبهة الاسلامية ، ومواقفها تجاه مشكلة الجنوب بوجه خاص . (( حيث دقوا طبول الحرب وعرضوا في (دلوكة) التصعيد والتصعيد المضاد ، ثم عندما تعلق الأمر بقرب الوصول للسلطة ، لحماية المصالح والبرنامج الحقيقي للجبهة .. بدأوا يتحدثون عن منطق الحوار .. وتذكروا أن عليهم كمسلمين أن يدعوا ( الى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ) ! وأسمعونا لأول مرة ( أن الحرص على حقن الدماء واجب) ! دون أن يجيبونا على التساؤل المشروع : كيف سينجحوا في مساعي السلام مع قرنق  في حين يفشلوا في التعامل مع القوى السياسية التي ارتضت الشرعية الدستورية ؟! )) .

ويعلق الأستاذ بدرالدين مدثر بالقول : (( إن الدين هو آخر ما يحرك أو يقيد اليمين المايوي في الجبهة الاسلامية الذي يدين أول ما يدين بالولاء لمصالحه ونفوذه .. ألا يؤشر ذلك أن الجبهة تريد موطئ قدم في السلطة بأي ثمن )) (56) ؟! .

ويمضي في القول (( نحن نعتقد بأن الأحزاب الموقعة على هذا الوفاق قد جانبها التوفيق جملة وتفصيلاً ، لأننا نعتقد أن ما يجب أن يتم إستعجاله والتركيز عليه هو الحل النهائي الذي يعجل باحلال السلام في البلاد ، ويحفظ الوحدة الوطنية .. وهو إنعقاد المؤتمر الدستوري ، فكان المفترض أن يتم الاصرار على أن ينعقد هذا المؤتمر في أقرب فرصة ممكنة ، ونحن نأخذ على الأحزاب التي وقعت على الميثاق (ميثاق قوى الانتفاضة ) إنجرارها خلف شروط الجبهة الاسلامية القومية ، ولاسيما حزب الأمة ، الذي التزم بأن يتم تقديم هذه القوانين ، وإجازتها في الجمعية التأسيسية قبل عطلتها الخريفية ، نأخذ عليها إنجرارها وراء تكتيكات الجبهة الاسلامية والتي هي مواصلة لدورها السابق لقطع الطريق أمام كل المحاولات الجادة لاحلال السلام ، وتهدئة الأجواء والمناخ لانعقاد المؤتمر الدستوري وهذا ليس غريب على الجبهة الاسلامية ، فهي كانت جزءاً من النظام الذي أشعل نيران الحرب الأهلية في الجنوب ، وهي مسؤولة مسؤولية أساسية عن اصـدار قوانين سبتمبر 1983  والاصـرار حتى في البداية على تطبيقها في جنوب السودان . وهو الأمر الذي أدى الى زيادة أوار الحرب الأهلية في جنوب البلاد))(57)

والجبهة الاسلامية طوال الفترة منذ نجاح الانتفاضة الى هذه اللحظة كانت هي الصوت الأعلى الداعي للتصعيد العسكري ، والفتنة والهوس والتعصب الديني والعنصري الذي كان يتجاوب مع دعاوى الهوس والتعصب في الجانب الآخر المصر على استمرارالحرب .

ويضيف إن الجبهة الاسلامية القومية تعرف ما تريد ، هي تريد أن تقطع الطريق على محاولات السلام ، لذلك تضع عراقيلها عمداً أمام إنعقاد المؤتمر الدستوري ، والقوى الأخرى التي تسايرها سواء كانت جاهلة أو عن علم ، هي ستشاركها في تحمل المسؤولية في كل ما يؤدي له التمسك بمثل هذه الشروط المدمرة للوحدة الوطنية والتي لا نجد لها سند ديني أو إسلامي )) .

البعث يتصدى لمحاولات تحريف طبيعة الصراع في الجــنوب (رفض المنطق العنصري والديني ) :

كان الاصطفاف السياسي الجديد الذي خلقه إشراك الجبهة الاسلامية في ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني ، مناسبة لقوى دولية ومحلية معادية ، أن تصور الصراع في جنوب السودان على أسس دينية أو عرقية ، فتصدى البعث لهذا المنطق المنحرف ، فأصدر بياناً باسم القيادة القطرية جاء فيه (58) : (( إن نتائج الأزمة المنعكسة على الوضع الراهن ، التعبئة التي أصبحت تمارس من قبل جهات أجنبية عديدة ، وعلى رأسها الاذاعة البريطانية ، لتصويرالصراع بعد توقيع ( ميثاق الوفاق الوطني ) على النحو الذي تم به تصويره على أساس أن الصراع في السودان ، أصبح صراع مسلمين ضد مسيحيين ، صراع عرب ضد أفارقة .. ونحن نبادر في هذا ونشيد باسم حزب البعث العربي الاشتراكي بالتحذير الذي أطلقه البابا سرور ضد هذا الطرح ، وتنبيهه لخطورته وعواقبه ، وبالفعل ما لم يعد الاصطفاف لخارطة الصراع في البلاد إلى وضعه الحقيقي والطبيعي ، فإننا نرى أن هناك قوى كثيرة جداً ستعمل على دفعها لكي تأخذ هذا الشكل المتخلف الممعن في الخطورة على مستقبل ووحدة وسيادة بلادنا . ونحن نرى أن في قوى ما يسمى بالوفاق الوطني ، من يدفع بالأمور متعمداً في هذا الاتجاه  ( كالجبهة الاسلامية وجيوبها في الحزبين التقليديين ) ، وبالطبع فإن ذلك يتناغم مع جهود عناصر في الطرف الآخر هي كالجبهة في تعصبها الديني والشوفيني )) .

ويؤكد إعلان البعث القول (( نحن كما عاهدنا شعبنا من قبل على النضال من أجل حماية الديمقراطية ، وإرساء تقاليدها ، نعاهده اليوم بأننا سنناضل من أجل أن يأخذ الصراع في بلادنا وجهته التاريخية الصحيحة .. ألا وهي : أنه صراع بقايا مايو هنا وهناك ، عرباً أفارقة من غير العرب ، مسلمين ومسيحيين ، صراع في حقيقته بين قوى الانتفاضة الحريصة على الديمقراطية والتقدم ، وبين بقايا مايو من قوى الدجل ، قوى التستر بالدين ، لحماية مصلحة الطبقة الطفيلية ، والتسلط على الشعب ، على قوته ، وعلى وطنه وكرامته . لأن رواج ذلك الفهم المتخلف للصراع سيقود إلى صراعات أكثر تخلفاً في غرب البلاد وشرقها (…) وهذا ما تعمل من أجله قوى خارجية وأجنبية كثيرة )) .

يقول الرفيق أمين سر قيادة قطرالسودان الأستاذ بدر الدين مدثر (( هناك من طرح القومية . وبشكل خاص .. القومية العربية ، وكأنما هي وعاء عنصري لمجموعات من البشر تلتقي على الدم أو النسب .. الخ ونحن كنا نقول : إن الذين ينتمون الى العروبة بالنسب أو بالعرق والدم ، لا نستطيع أن نقول لهم ، لا تهتموا بهذه الرابطة من هذه الناحية ، لأن هذا شئ عادي .. ولكن ما قاله البعث : أن هذا هو ليس الأساس في الرابطة العربية ، الأساس في الرابطة العربية ، هو أساس حضاري ثقافي إنساني (…) لهذا جعل الرابطة القومية العربية تمتد لتشمل جماعات من البشر من الصعب إنك تقول من الممكن أن يوجد بينها العرق أو العنصر ، ولكن هم عرب ، كلهم ينتمون الى الأمة العربية بالثقافة ، والحضارة والذاكرة التاريخية ، والمقدسات المشتركة ، والمصير الواحد )) .

ويلاحظ أن بعض الساسة في السودان يفلسفون لأنفسهم وللعرب بمنظور عرقي عنصري متخلف ، فسمعنا البعض الذي يقول : (( أنظر هل لوني هذا لون عربي ؟ وهل دمي دم عربي ؟ ويدخل في مناقشات غريبة بعض الأحيان .. نحن نقول : لا يوجد هناك دم إسمه دم عربي ، الدم هو الدم ، فالعربي والصيني والأمريكي ، ليس هناك ما يميز دمهم عن بعض غير الفضائل المعروفة بين الناس وبمحتلف أجناسهم كفصيلة (A+ , O … الخ).

إن مفهوم (العرقية) هو مفهوم منذ البداية نظرية عقيمة ومتخلفة ، ومرحلة تجاوزتها البشرية كأساس للجماعات ، وفي تجاوز البشرية لها الآن تم الوصول إلى أنه من الصعب القول بأن هناك عرق صافي .

ويؤكد (( بأن البعث قد فتح أبوابه لينتمي اليه أبناء جنوب السودان ، من مختلف قبائلهم ، وذلك منذ عقد السبعينات .. وهذا لا يلغي خصوصية الجنوب كواقع متميز ثقافياً عن الشمال . بل يعني أن مصير السودان ككل مرتبط بمصير الأمة العربية .. والواقع الثقافي الخاص للجنوب يرتب عليه حقين مشروعين (59) :

1- حق قانوني يتمثل في الحكم الذاتي .

2- وحق ثقافي في أن ينمى الجنوب ما يمكن تنميته من ثقافاته المحلية ، فنونه ، وتقاليده ، وحتى لهجاته .. وكان الحزب يعلِّم الرفاق من الجنوب بأن هذه الخصوصية علينا أن لا نتحسس منها ، لأنها لا تضير الأمة العربية . ولأن نمو الثقافات المحلية وتفاعلها مع الثقافة العربية يفيدها ويفيد الثقافة العربية ذاتها.

هذا هو المفهوم الذي يقدمه البعث للقومية ، القائم أساساً على التفاعل الثقافي الحر ، وهذه النظرة ضرورية للجنوبيين فيما بينهم كمجموعات وفي العلاقة بين الشمال والجنوب .

ويؤكد الأستاذ بدر الدين مدثر القول : (( بأننا ما دمنا ننطلق من كوننا قوميين لا يمكننا أن نتمسك بحق ننكره على غيرنا ، ولا يمكن أن نكون منسجمين مع منطلقاتنا القومية ، إذا وجدنا مواطنينا يتميزون بواقع جغرافي خاص تترتب عليه حقوق ثقافية ، وقانونية ، وحضارية ، تستدعي ممارسة الحكم الذاتي دون أن يؤدي ذلك إلى الانفصال والتفتيت ، وننكر عليهم ذلك .

هذا هو فهم حزب البعث لقضايا الأقليات في الوطن العربي كالأتفيه والفورارية في موريتانيا والبربر في الجزائر ، والأكراد في العراق . وبالطبع ليس هناك تطابق بين كل هذه المشاكل ، ولكنها مشكلة تميز ثقافي ، وتاريخي وجغرافي .. وحلها في نفس الاتجاه ، بالديمقراطية والتنمية المتوازنة .. الديمقراطية في الاعتراف بحقهم في الحكم الذاتي الاقليمي ، وبحقهم في تنمية ثقافتهم ، وموروثاتهم .. والتنمية المتوازنة بما يقيم أساساً موضوعياً للتفاعل التحتي .. بين شمال السودان وجنوبه دون ثغرات في الحكم الذاتي الاقليمي تستهوي دخول الأجنبي للعب على قضية الوحدة الوطنية (60) .

البعث ومشكلة وحدة الاقليم الجنوبي :

من المعروف أن جنوب السودان ، لا يتشكل من قومية واحدة  وإنما هو مجموعات قبلية متناحرة ، وهذا ما يجعل الساسة الجنوبيين غير موحدين في نظرتهم لحل مشكلة الجنوب نتيجة للخلافات القبلية . ولهذا السبب إختلفت الأحزاب الجنوبية في مؤتمرالمائدة المستديرة 1965 ، بينما كانت الأحزاب الشمالية شبه موحدة في موقفها من المشكلة مما ضيع فرصة ثمينة لحل المشكلة في فترة الديمقراطية الثانية .

وبعد إتفاقية أديس أبابا 1972 وإصدار قانون الحكم الذاتي للجنوب برز الخلاف بين القبائل الجنوبية حول السلطة والثروة ، وحتى اليوم تشهد حركة تحرير شعب السودان المتمردة في الجنوب بزعامة قرنق ، عدة إنقسامات وصراعات في داخلها ، قائمة أساساً على الاعتبار القبلي .. مما يعقد إمكانية الوصول لحل مع الشمال ، بصرف النظر عن طبيعة النظام الحاكم في الشمال . وقد تنبه البعث لهذه الحالة منذ وقت مبكر .

لذلك يقول الرفيق أمين سر القيادة القطرية للحزب : (( إن المشكلة الأهم هي مشكلة علاقات القبائل الجنوبية مع بعضها قبل أن تكون علاقات الجنوب ككل مع الشمال .. بل بالعكس إن علاقات الجنوب ككل مع الشمال سهلة .. فالحل الذي نقدمه هو الحكم الذاتي والاعتراف بالتمايز الثقافي .. ولكن ما نخشاه بعد أن يتحقق ذلك هو أن تبدأ المشاكل بين الكيانات البشرية الموجودة في الجنوب نفسه ، وظهر شئ من هذا النوع الذي كنا نتنبأ به ، في الفترة القصيرة التي ساد فيها التلاقي بين الشمال والجنوب . وفي عهد نميري في الفترة ما بين 1972-1983 ، أي بعد إتفاقية أديس أبابا ، حيث تفجرت التناقضات بين القبائل الاستوائية والقبائل النيلية ، وكلهم في الجنوب  حيث تكتلت قبائل الزاندي واللاتوكا والباري ، وهي قبائل استوائية ضد الدينكا ، حيث قالوا ، إن هنالك هيمنة من الدينكا ، وإعتبروا الدينكا بديل لما أسموه بالهيمنة الشمالية ، وكانوا في السابق يقولون أن هنالك هيمنة إستعمارية ورثها الشماليون على الجنوب ، والآن الدينكا ورثوا الهيمنة الشمالية على الجنوب .

 

وعندما بدأ الناس يفكرون طرحت حلول غربية ، بأن تكون هنالك ثلاث أقاليم في الجنوب تقوم على أساس قبلي !. إن هذا التفكير التجزيئي يوصل الى تجزيئيات أكثر !. إن هذا كله يرجع بكل أسف الى أن الجماعات التي تسكن أفريقيا عموماً تقوم على الأساس القبلي ، لذلك فإن المشكلة التي تعوق النمو والنهوض الآن هو ليس علاقات قومية مع بعضها ، بقدر ما هو أهمية أن يتجاوز التفكير الوطني بالتعالي على الرابطة القبلية ، وهذا ليس معناه أن البعث ينكر هذا ، لأن هذه الرابطة شئ طبيعي وإنساني .. لكن هناك فرق بين أن ينتمي الانسان لأسرته أو عشيرته أو قبيلته … إلخ ، وبين أن يضع هذا الانتماء كأساس للانتماء السياسي ، وأن يجعله فوق الانتماء للوطن والأمة ! . فالبعث يرى أن التقدم والانبعاث وإعادة الروح للقوميات (…) تبدأ عندما ينتمي الناس في الوطن الواحد الى الشئ المشترك الموحد ، الذي يوحدهم ، ويجعلوه هو الخيمة التي في داخلها تحل كافة الانتماءات الصغيرة وتنصهر . لذلك فإن البعث يدعو الى الوحدة الوطنية ، ويدعو الى التعالي على الروابط القبلية ، والعشائرية في العمل السياسي ، يدعو الى ما يجمع القبائل لا الى ما يفرقها ، من أجل بلورة قوميات .. وبعد ذلك الحين يطرح أن بين هذه القوميات ، لابد أن تسود الوحدة على أساس القاسم المشترك بين كل قوميات أفريقيا . إن البعث في نظرته هذه لا يتجاوز حقيقة دورالقبيلة في المجتمعات الأفريقية عموماً – وهي مجتمعات زراعية ورعوية وتصل في بعض المناطق الى مجتمعات إلتقاط وصيد .. فمن الطبيعي أن يكون للقبيلة دور ، ذلك لأننا لم نصبح بعد مجتمع صناعي تقوم فيه المدن الكبرى التي تحل فيها رابطة النقابة محل رابطة القبيلة ، أو رابطة المصنع أو النمط الانتاجي المعين محل بقية الروابط الأولية . فنحن لا زالنا مجتمع في بلدان العالم الثالث ، طالما أن الزراعة والرعي تشكل جانب أساسي من إقتصادياتنا ، وبالتالي فإن الروابط القبلية تكون موجودة في المجتمعات التقليدية))(61) . وهذا يطرح أهمية البعد التنموي الاشتراكي التقدمي في مشروع البعث .

نضال البعث من أجل عقد المؤتمر الدستوري لحل مشكلة الجنوب:

إذ كان من المعروف أن البعث هو أول حزب بادر بطرح فكرة عقد مؤتمر وطني شامل لحل مشكلة الجنوب تشارك فيه كل القوى السياسية والاجتماعية والنقابية في الجنوب والشمال .. فإن هذه الفكرة قد تبلورت وتم تبنيها من قبل مختلف الأحزاب والشخصيات والقوى السودانية ، فيما عرف بصيغة المؤتمر الدستوري .

لقد بذل البعث في السودان مجهوداً ضخماً في سبيل التعبئة والتثقيف لهذا المشروع ، والعمل على إنجاح ظروف إنعقاد المؤتمر  والاعداد المبكر لجدول أعماله .. وفي هذا السبيل نشط الحزب في اعداد الدراسات والمشاريع التي تعبر عن تصوره لحل المشكلة في اطار وطني ديمقراطي يحفظ معادلة الوحدة في اطارالتنوع .. وتصدى البعث لأهم معضلتين تواجهان مشكلة الوحدة الوطنية ، هي مشكلة تأصيل مفهوم الهوية الوطنية الواحدة ، ومشكلة نظام الحكم في السودان .. فأصدر وثيقتين هامتين في إطار مشروعه لتوحيد القوى السياسية الديمقراطية حول هاتين القضيتين ، أي قضية الهوية القومية لشعب السودان وقضية نظام الحكم .

كما قام الحزب بنشر هذه الوثائق في صحافته ، ونشر مساهمات الأحزاب السياسية الأخرى ( الأمة ، الشيوعي ، … إلخ ) .. وأدار حواراً واسعاً حول الموضوع في مجلة الثقافة الوطنية .. مع العديد من الرموز الوطنية والثقافية في البلاد . وأيد الحزب جميع مبادرات السلام المؤدية الى عقد المؤتمر الدستوري وإنهاء الحرب الأهلية في البلاد .

وتصدى البعث بقوة لكل المحاولات السياسية الهادفة لقطع الطريق أمام عقد المؤتمر الدستوري ، وبصفة خاصة محاولات الجبهة الاسلامية ، فعندما أشرك الصادق المهدي هذه الجبهة فيما يسمى بحكومة الوفاق الوطني ، ووقع معها ميثاق عمل مشترك يتعارض مع برنامج انتفاضة مارس / أبريل 1985 ومواثيقها . طرح البعث مشروع برنامج قدمه لقوى الانتفاضة في مواجهة ما يسمى بالوفاق الوطني ، وقد طرح البعث مشروعه كبرنامج للتجمع الوطني بشقيه الحزبي والنقابي ، ويدعو المشروع الى مقاومة مشروع حكومة الوفاق ، والدعوة الى حكومة قوى الانتفاضة التي تتبنى هذا البرنامج .

وقد جاء في البند الثاني من هذا المشروع .. في مجال إحلال السلام وحل مشكلة الجنوب المقترحات التالية (62) :

1- إعتماد استراتيجية الحل السلمي الديمقراطي لكافة المشكلات الناجمة عن التمايز والتخلف والتنمية غير المتكافئة ، والعمل على إنهاء الحرب الأهلية ، والالتزام بالحوار الديمقراطي عبرصيغة المؤتمر الدستوري المجمع عليه لمناقشة المشكلات وإيجاد الحلول.

2- العمل على تهيئة الظروف المناسبة لانعقاد المؤتمر الدستوري .

3- تعزيز كافة الجهود والمبادرات التي بذلت لوقف الحرب وعقد المؤتمر الدستوري .

4- الالتزام بأن يكون عام 1988 كموعد أقصى لانعقاد المؤتمر الدستوري حسبما إتفقت عليه الأحزاب التي وقعت على ميثاق السودان الانتقالي وبما يقتضيه ذلك من توفير كافة مستلزمات عقــــــــده .

وكانت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في السودان قد أصدرت تعميماً سياسياً داخلياً حول مبادرة السلام السودانية والوضع السياسي الراهن في 18/12/1988 ، أكدت فيه ((أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان التي عرفت باتفاقية السلام السودانية في 15/11/1988 يمثل حدثاً هاماً ، بل أهم الأحداث السياسية في السودان في فترة ما بعد انتفاضة مارس- أبريل 1985 المجـــــــــــيدة  .

وناقش التعميم الأهمية السياسية للاتفاق في تلك المرحلة ، كعامل هام في تنشيط مساعي السلام وإيقاف الحرب الأهلية الجارية في الجنوب ، وشعاراتها وأهدافها وذلك ما يعكس المكانة الكبيرة التي تحتلها قضية إيقاف الحرب وتحقيق السلام والاستقرار في هذه الفترة من تاريخ بلادنا ، وفي حركة الصراع السياسي والاجتماعي بشكل خاص .

– حلل التعميم مواقف القوى السياسية السودانية من الاتفاق مرجحاً أن (( الترابي بالتنسيق مع الصادق المهدي سيحاول البحث عن صيغة تحفظ له ماء الوجه وتخرجه من العزلة السياسية التي حشر نفسه فيها مع استمراره في تنفيذ مخططه لاجهاض عملية السلام من خارج الحكومة ومن داخلها ، بما يؤكد أن تيار أصحاب المصالح هو الذي سيحدد الموقف النهائي للجبهة بحكم وزنه ونفوذه))(63).

ويخلص التحليل إلى أن كل القوى السياسية ما عدا حزب الجبهة الاسلامية القومية تقف مع الاتفاق وتضع إمكانيتها لدعم مسيرته . ويؤكد على القول بأن :

(( إن واجب كل قوى الانتفاضة والقوى الراغبة في السلام وإيقاف الحرب الأهلية اليوم يتمثل في دعم اتفاق الميرغني / قرنق وتعزيزه وصولاً الى تحقيق أهدافه كاملة وكمدخل لاستنهاض الحركة الجماهيرية الديمقراطية تحت رايات مواثيق الانتفاضة وشعاراتها وأهدافها ، إنطلاقاً من ظروف التردي التي تعيشها بلادنا وفشل الحكومة القائمة في مواجهتها ، ومن ظروف وإمكانيات نهوض الحركة الجماهيرية الديمقراطية . فتحقيق السلام هو إنتصار لكل القوى الديمقراطية وقوى الانتفاضة بأحزابها ونقاباتها ، تلك القوى التي وعت منذ وقت مبكر أهمية تحقيق السلام وتعزيز الوحدة الوطنية كأحد مهام وواجبات مرحلة ما بعد الاستقلال. ولقد ظلت ترفع هذا الشعار وهي ترفض ممارسات حكومة عبود التي كانت تنظر للقضية من منظار عسكري بحت وظلت ترفع هذا الشعار وتناضل من أجله خلال ثورة أكتوبر وبعدها أدى إلى إنعقاد مؤتمر المائدة المستديرة 1965 . كما ظلت تناضل من أجل حل مشكلة الجنوب حلاً سلمياً ديمقراطياً طوال عهد نميري . ولقد أسهم حزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي في كل هذه النضالات . وعندما توج نضال الجماهير بانتصارها في إنتفاضتها المجيدة في أبريل 1985 طرح حزبنا في أول بيان له وندوة بعد الانتفاضة موضوع المؤتمر الوطني لحل مشكلة الجنوب . هكذا لعب حزبنا – حزب البعث العربي الاشتراكي دوراً هاماً وبارزاً في مسيرة العمل من أجل السلام وإيقاف نزيف الدم في جنوب البلاد )) .

أما في مجال الاتصالات السياسية من أجل السلام يقول التعميم (( فلقد بدأ حزبنا الاتصال بحركة تحرير شعب السودان قبل الانتفاضة وأردف ذلك بإتصالات بعد الانتفاضة في لندن ، كما أسهم بدور فعال في إتصالات التجمع الوطني مع الحركة وبلورة إعلان (كوكادام) وشارك بفعالية في الاتصالات اللاحقة . كما قام الحزب بإتصالات مكثفة مع أحزاب الكتلة الأفريقية والأحزاب الجنوبية المختلفة ومع حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي ، وكافة أحزاب التجمع من أجل تسريع وتيرة العمل من أجل السلام والوصول إلى قواسم مشتركة معها كأساس لعملية السلام . ولقد كان لموقف حزبنا المتوازن في عملية إحتلال (الكرمك وقيسان) ودعم القوات المسلحة بأفق إستراتيجي يقود الى السلام أثره الفعال في دعم عملية السلام ودفعها ، خطوات كبيرة إلى الأمام . كما أسهم حزبنا بفعالية في مبادرات السلام ولجانه ، ووقع على ميثاق السودان الانتقالي ، وشارك في لجنة ( باسفيكو) وغيرها من الأشكال التي إنبثقت في إطار وزارة السلام أو خارجها من أجل الوصول الى السلام . كما كان حزبنا هو الحزب الوحيد الذي أعد مساهمات تفصيلية حول قضايا المؤتمر الدستوري ( وثيقتي الهوية ونظام الحكم ) .

كما كان لاتصالات حزبنا وتنسيقه مع الاتحادي الديمقراطي قبيل وبعد توقيع المبادرة أثر فعال في دفع مسيرة السلام خطوات كبيرة الى الأمام وتأمين مسيرتها في وجه تآمر أعداء السلام ( 64) .

وخلص التعميم السياسي للقيادة القطرية إلى المبادرة بتكوين هيئة وطنية لدعم ومساندة المبادرة من القوى والأحزاب والنقابات والمنظمات الجماهيرية الراغبة في السلام والمؤيدة للاتفاق تتولى التعبئة الشعبية للتصدي لمؤامرات أعداء السلام وممارسة الضغوط لاجبار الحكومة على تبني الاتفاق وإتخاذ الاجراءات الضرورية لتنفيذه . كما دعى الى الاسراع بتكوين اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدستوري وتحديد جدول أعماله . وتبنى الحزب الدعوة إلى إسقاط الحكومة القائمة آنذاك ( الحكم الائتلافي بين الصادق والترابي ) وتكوين حكومة إتحاد وطني يقوم برنامجها على مواثيق الانتفاضة وتقوم بدعم إتفاق السلام وتحقيق أهدافه كاملة .

هكذا حشد الحزب كل إمكانياته في سبيل دعم إتفاق السلام وعقد المؤتمر الدستوري معتبراً أن هذا النهج السياسي (( هو المدخل لتنفيذ واحد من أهم شعارات وأهداف الانتفاضة ، ولقد كسبت المبادرة أهمية خاصة بمجيئها في ظروف إختل فيها توازن القوى بالبلاد لصالح قوى الردة والدكتاتورية المدنية التي تحث الخطى لاقامة الدولة الدينية بقيادة تحالف الصادق / الترابي ، وهي إذا كتب لها النجاح ستشكل عاملاً في تغيير توازن القوى بالبلاد لصالح قوى الانتفاضة وتنشيط مساعي السلام وصولاً الى بلوغه وبالتالي تعزيز الوحدة الوطنية )) .

وبالفعل نجحت خطة الحزب في إسقاط حكومة الترابي / الصادق ، وإقامة حكومة الاتحاد الوطني بدلاً عنها . والتي تبنت برنامج السلام وشرعت في التحضير لعقد المؤتمر الدستوري لحل مشكلة جنوب السودان .

وجاء إنقلاب 30/6/1989 الذي دبرته الجبهة القومية الاسلامية ليقطع الطريق أمام كل هذه الجهود من أجل السلام وليضع البلاد برمتها في دوامة الحرب الأهلية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان .

مواقف حزب البعث العربي الاشتراكي من مشكلة الجنوب بعد إنقلاب 30/6/1989

بعد وقوع إنقلاب 30/6/1989 الذي دبرته الجبهة الاسلامية بقيادة عمر البشير ، أصدر حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان بياناً في 18/7/1989 يفضح فيه إرتباط الانقلاب بالجبهة الاسلامية . وقد جاء في البيان الذي وصف الانقلابيين بأنهم مجموعة صغيرة من الضباط (( ورغم أنها طرحت نفسها كبديل وصمته بالعجز والفشل فإنها لم تنجح في وضع يدها على الأسباب الحقيقية للأزمة ، وإستعاضت عن ذلك بطرح شعارات معممة وأفكار ساذجة وقرارات مرتجلة أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية وتعقيد مشكلة الجنوب ، وإحكام طوق العزلة الخارجية )). ويمضي البيان الى اقول بأن الانقلابيين (( تجاهلوا الدروس الثمينة لانتفاضة ديسمبر 1988 ومذكرة القوات المسلحة في فبراير 1989 اللتين أثمرتا في تحقيق الاجماع الوطني حول البرنامج المرحلي بديلاً لبرنامج الهوس الديني والتخلف ، وفي الاتجاه لتطوير التجربة الديمقراطية باشراك القوى الحديثة والنظامية في مراكز إتخاذ القرار السياسي ورسم المصير الوطني والالتزام بإتفاقية السلام السودانية ، وما واكب ذلك من مباحثات وخطوات جادة في طريق السلام والوحدة الوطنية )) . ويناشد البيان قوى الشعب السوداني بأحزابه ونقاباته وإتحاداته وقواته النظامية من أجل إسقاط الدكتاتورية وإلغاء قراراتها الرامية لتصفية القوات المسلحة والنظامية والخدمة المدنية وإشاعة الفوضى في البلاد . ومن أجل تطوير التجربة الديمقراطية وإلغاء قوانين سبتمبر وإستكمال مسيرة السلام والوحدة الوطنية وتطبيق مقررات المؤتمر القومي الاقتصادي ووضع حد للفوضى والفساد والتهريب ، والنظام الطفيلي ، وإنتهاج سياسة خارجية متوازنة )) .

وفي 18 /8/ 1989 صدر العدد الأول من صحيفة (الهدف) السرية الناطقة بلسان حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان – أول عدد في عهد الدكتاتورية الثالثة – نشرت فيه بيان الحزب حول الانقلاب وملخص بيان جون قرنق للشعب السوداني والذي إلتقطته الصحيفة من راديو الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) في الفترة من 14-18/8/1989 ، وجاء في بيان قرنق (( أن عمر البشير واهم إذا كان يعتقد أنه يمكن أن يصل الى حل مع الحركة الشعبية)).

ومضت الصحيفة عبر صفحاتها تفضح المؤامرة وتثبت المواقف المحلية والعربية من إنقلاب 30 /6/1989 .

وفي عددها الصادر بتاريخ 26/8/1989 كتبت (الهدف) تحت عنوان : (( محادثات سلطة 30 يونيو والحركة الشعبية تصل الى طريق مسدود ، إنهم حكومة حرب وليسوا حكومة سلام .. وبرنامج الجبهة الاسلامية مصمم على الحرب وتمزيق الوحدة الوطنية )) .

كتبت تقول : (( لقد كان واضحاً منذ الثلاثين من يونيو 1989 أن السلطة الجديدة هي سلطة حرب ، وليست سلطة سلام ، فالتوقيت الذي جاء فيه الإنقلاب ( قبل أربعة أيام من الموعد المقرر للالتقاء بين الحركة الشعبية SPLA ووفد الحكومة لحسم نقاط الخلاف وتمهيد الطريق لانعقاد المؤتمر الدستوري )) مقروناً مع البرنامج الذي طرحه الانقلاب لمعالجة مسألة الجنوب – برنامج الجبهة الاسلامية – والذي يقوم على رفض كل الاتفاقيات والمبادرات السابقة وعلى رأسها مبادرة 16 نوفمبر 1988 ، وماسبقها من محادثات و ( تجاوزها) ، وإتهامها بأنها كانت مجرد مناورات ، والاصرار على التمسك بقوانين مايو وفي مقدمتها قوانين سبتمبر 1983 – كل هذه الدلائل والمؤشرات كانت تؤكد بوضوح تام أن هذا الانقلاب قد جاء أصلاً – ضمن ما جاء من أجله – لايقاف مسيرة السلام بإعتبارها في غير صالح الجبهة الاسلامية ، ولكن قادة الانقلاب – إمعاناً منهم في تضليل الشعب – إدَّعوُا بأنهم (الأقدر) على الوصول لحل المشكلة ، وإدعوا أن هناك أنباء سارة عن السلام سيسمعها الشعب عن قريب .!

ويمضي المقال إلى القول : (( وظلت وسائل إعلامهم تخفي الحقائق عن الشعب بعدم إبراز ، أو التطرق الى ما طرحته الحركة الشعبية SPLA من آراء وتصورات حول قادة الانقلاب وطبيعتهم المعادية للديمقراطية ، وتصورات تربط بين الحل وبين وجود نظام ديمقراطي في السودان . بل راحوا يتحدثون بشكل مجرد عن (محادثات) (وإتفاق على مواصلة الحوار ) ، و ( قبول الحركة بالتفاوض دون شروط مسبقة ) حتى وصلت الأمور بقائد الانقلاب ليقول : (( إن الحركة قد قبلت تصوراتنا )) .

وتفضح (الهدف) أكاذيب نظام الجبهة حول السلام عندما تقول: (( وبعد محادثات 19 و20 أغسطس 1989 الفاشلة بين وفد الانقلاب ، ووفد الحركة ، لم يذكر الانقلابيون سوى نص البيان الصغير الذي يقول (( عقد وفد حكومة ثورة الانقاذ الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان ، إجتماعات مشتركة في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في الفترة من 19-20 أغسطس 1989 وتبادلا خلالها وجهات النظر حول قضية الحرب والسلام ، وكانت المباحثات جادة وصريحة ، وإتفق الطرفان على مواصلة الحوار في وقت لاحق يتفقان عليه )) . هذا ما أبرزه إعلام الانقلابيين . أما إذاعة الحركة الشعبية فقد واصلت طرح تصوراتها بشكل واضح مشترطة ((الاستناد في أي حل على كافة المبادرات السابقة ومن ضمنها ، إتفاقية (كوكادام) ومبادرة 16 نوفمبر ، العودة للنظام الديمقراطي ، إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين ، وحرية العمل الحزبي والنقابي والصحفي ، إنهاء الحكم الدكتاتوري القائم حالياً ، وتكوين حكومة وحدة وطنية إنتقالية عريضة من الأحزاب والنقابات والقوات المسلحة ، ثم إنعقاد المؤتمر الدستوري تعقبه إنتخابات عامة في البلاد … الخ )) .

كما أن د. لام أكول رئيس وفد الحركة SPLA في المفاوضات قد صرح بأن وفد الانقلابيين لم يكن يحمل أي تصور أو برنامج واضح بخصوص السلام ، وإن المفاوضات قد إنهارت منذ اللحظة الأولى نتيجة لرفض وفد الحكومة لمقترح وفد الحركة بتشكيل حكومة إنتقالية عريضة القاعدة .

وتعلق صحيفة الحزب بالقول : (( إن معالجة مسألة الجنوب ليست بالأمر الذي يمكن أن تحسمه سلطة محدودة القاعدة ، وقائمة على مجموعة إنقلابية ، محدودة ومعزولة عن الجيش والشعب ، ومرتبطة ببرنامج إتجاه سياسي بعينه ، معروف بعدائه للسلام والديمقراطية والتقدم . إن مسألة الجنوب تحتاج إلى جهد وطني شامل عريض القاعدة ، بضم كافة القوى الحية والفاعلة في المجتمع والممثلة لكل فئات الشعب ، وهي الأحزاب شمالها وجنوبها ، والنقابات في الشمال والجنوب ، والقوات المسلحة والنظامية كافة ، والحركة الشعبية لتحرير السودان ، حيث تلتقي هذه القوى في مؤتمر وطني في ظل مناخ ديمقراطي شامل . وهذا لا يتأتى إلا بإنتهاء الدكتاتورية القائمة ، وإحلال البديل الوطني الديمقراطي الممثل لكل قوى شعبنا .. الملتزم ببرنامج قوى الانتفاضة ، وبغير ذلك يبقى أي حديث عن (حل مسألة الجنوب) مجرد تضليل لا طائله وراءه ، وموقف معادي للسلام ، لا يعبر إلا عن رأي فئة محدودة ومعزولة عن الشعب هي ( الجبهة الاسلامية ) )) .

وعلى هذا المنوال تستمر صحيفة الحزب السرية في متابعة تطورات الحرب الأهلية في الجنوب وتعبر عن مواقف البعث منها ، ففي عددها الصادر بتاريخ 2/9/1989 تكتب تحت عنوان : (( وعود وأحلام حول مسألة الجنوب وقضايا المعيشة والاقتصاد )) معلقة على جولة جديدة من المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية SPLA وعلى ما يسمى بمؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السلام الذي كانت تعد له السلطة الدكتاتورية . وتعلق الصحيفة على الوضع المعيشي بالقول : (( بينما تزعم الحكومة ( أن الأمن مستتب تماماً في البلاد وتستمر الوعود والأماني تصل الأزمة المعيشية الى قمتها وتتفجر الأوضاع الأمنية في جنوب كردفان بشكل خطير وتتداعى الأحوال الأمنية كلها باتجاه التفجر وليس لدى الانقلابيين سوى الوعود )) .

وفي عددها الصادرفي يوليو 1992 تنشر (الهدف) مقالاً تحت عنوان : (( لا للحرب .. لا للانفصال .. نعم للسلام )) تقول فيه : ((للمرة الثانية ، بعد مفاوضات أديس أبابا ونيروبي ، يفشل طرفا الحرب الأهلية في جنوب البلاد في التوصل الى صيغة سلام في الجولة الثالثة للمفاوضات التي عقدت في العاصمة النيجيرية (أبوجا))) .. وتمضي الى القول : (( وبالرغم من أن مفاوضات أبوجا قد سبقتها العديد من اللقاءات السرية بين قادة الجبهة الحاكمة ، وقادة التمرد ، أهمها لقاء فرانكفورت الذي تمخض عن إتفاق الطرفين على صيغة متدرجة ومموهه لفصل الجنوب تحت غطاء الكونفدرالية ، إلا أن مفاوضات أبوجا والتي كان مقرراً لها أن تقنن إتفاق فرانكفورت السري ، قد أخفقت هي الأخرى أيضاً ، بسبب تداخل وتضارب إرادات ومصالح القوى الأجنبية التي أدارت تلك المفاوضات من وراء الستار )) .

في أغسطس 1993 إنعقد الاجتماع الموسع لقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان ، وصدر عن الاجتماع تحليل سياسي شامل للوضع في السودان على ضوء المتغيرات المحلية والعربية والدولية .. وتوقف التحليل مطولاً عند قضية الحرب الأهلية في السودان والتطورات الخطيرة التي أدت الى تهديد الوحدة الوطنية السودانية . محدداً مستلزمات الدفاع عن الهوية العربية الاسلامية في السودان بالآتي (65)  :-

1- التخلص من النظرة الشوفينية الضيقة والمتعصبة والنظر الى العروبة ككيان ثقافي له دوره الايجابي في ترسيخ الوحدة الوطنية وله تقاليده في التعامل والتعايش السلمي الايجابي مع الكيانات الثقافية الأخرى في المجتمع .

2- التمسك بتراث القبائل العربية الأفريقية وتقاليدها في التعايش والتفاعل مع الكيانات غير العربية عبر تاريخها الطويل ، والعمل على تطويرها في إتجاه بناء سودان ديمقراطي موحد ومستقل . لأن الوجود العربي لا ينفي وجود الكيانات الأخرى ، ولا يلغي حقها في الوجود وفي تطوير ثقافاتها وتقاليدها الخاصة في إطار الوحدة الوطنية والمصالح العليا للبلاد .

3- النظر لمشكلة الحرب الأهلية الجارية في الجنوب كإفراز لمشكلة الاندماج الوطني في بلد متعدد الثقافات والكيانات ، وكنتاج للمنهج الخاطئ للحكومات المتعاقبة بما فيها حكومة يونيو 1989 بقيادة الجبهة الاسلامية ، في معالجاتها جميعاً لواقع التفاوت في مســتوى التطور الاقتصادي والاجتماعي بين مختلف أقاليم البلاد وخاصة في الجنوب والشرق والغرب .. وحلها يكمن في مواجهة جذورها وأسبابها الأساسية ، وبالعمل على بناء سودان ديمقراطي موحد ومستقل ومرتبط بعمقه العربي ومحيطه الأفريقي .

4- ربط الدعوة إلى العروبة والاسلام بقيمها الأصيلة والعميقة الارتباط بقضية التقدم . وبقضية الديمقراطية والشورى . وبالجهاد ضد المحتلين والغاصبين . وبنصرة النضال من أجل العدالة الاجتماعية والاشتراكية والوحدة العربية ، ومن أجل الانسانية عموماً .

كما تناول التحليل إحتمالات التغيير للوضع السياسي القائم في السودان محددها في أربعة إحتمالات :-

1- ما يسمى بالمصالحة الوطنية .

2- البديل الأمريكي .

3- التدخل الأجنبي .

4- الانتفاضة الشعبية .

وقد عبر البعث عن رفضه ومقاومته للاحتمالات الثلاث الأولى محدداً إستراتيجيته في الاحتمال الرابع أي خيار الانتفاضة الشعبية لاسقاط دكتاتورية الجبهة الاسلامية وإحلال البديل الوطني المستقل من أجل تحقيق السلام وصيانة الوحدة الوطنية .

ووفقاً لهذه الاستراتيجية واصل البعث نضاله الوطني معبراً عن رفضه لاستمرار الحرب الأهلية في الجنوب وإستغلاله كثغرة للتدخل الأجنبي وتمزيق الوحدة الوطنية .

ففي عددها الصادر بتاريخ ديسمبر 1993 يناير 1994 كتبت صحيفة (الهدف) لسان حال الحزب ، تحت عنوان : (( حكم الجبهة والتفريط بوحدة البلاد وإستقلالها وسيادتها )) تقول : (( أدى إعتماد النظام خيار الحرب إزاء قضية الجنوب ، ومحاولة إضفاء القداسة عليها باسم الجهاد إلى تعقيدات جديدة في الوضع السياسي وإلى تصاعد حدة الاقتتال في جنوب الوطن ، إذ أن قضية الجنوب ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالديمقراطية ، وبمشاركة الشعب في كل القطر في السلطة وفي تقرير مصير البلاد ، وبحق جماهير شعبنا في الجنوب في تنمية ثقافاتها ومناطقها في إطار من التنمية الشاملة المتوازنة . وهذا ما لا يتحقق في ظل النظام الفردي التسلطي القائم على محاولة فرض خيارات الجبهة في ( الأسلمة) و( الفدرالية ) ..الخ . بكل ما يتطلبه ذلك من القسر والتعسف )) .

وتحت عنوان (( لا لذرائع التدخل الأجنبي .. لا لأكاذيب النظام )) كتبت (الهدف) : (( أصدرت الادارة الأمريكية في وقت سابق من العام 1993 قراراً بإدراج السودان ضمن قائمة الدول التي ترعى الارهاب ، وتسعى منذ ذلك الوقت حثيثاً لاصدار قرار من مجلس الأمن بإقامة مناطق آمنة في الأقاليم التي تعاني من المجاعة والحرب الأهلية في جنوب السودان وفرض عقوبات على السودان بعد وفاة نصف مليون من سكان الجنوب نتيجة إنتشار المرض وندرة الغذاء .. الخ )) . وتنشر الهدف تعليق ناطق باسم الحزب قائلاً: (( إن هذه الخطوات تجئ في إطار مخطط مفضوح يستهدف فصل الجنوب وإضعاف السودان ، وتفتيت وحدته الوطنية ، وإنتهاك سيادته ، ولا سيما أن النيل من السودان بموارده وموقعه ودوره كان وما يزال يمثل حلقة مهمة في مخططات الامبريالية والصهيونية الهادفة لفرض هيمنتها على الوطن العربي والبحر الأحمر والقارة الأفريقية ، لنهب ثرواتها والنيل من إستقلالها وسيادتها ومن قرارها الوطني ، وإلحاق بلادنا بركب قوى العدوان الامبريالي الأطلسي الصهيوني وعملائه في المنطقة )) . وأوضح البعث بأن هذه ليست هي المرة الأولى التي تستخدم فيها مثل هذه الذرائع التي تدعي الدفاع عن القيم الانسانية لتبرير وتغطية مخططات العدوان على الأمة العربية . فالعدوان الثلاثيني على العراق وفرض الحصار الظالم عليه وغيرها من القرارات الصادرة التي تحاول النيل من سيادته الوطنية ، والحصار الجوي المفروض على ليبيا والعدوان على الصومال ، ومخطط تصفية القضية الفلسطينية وقمع المقاومة في جنوب لبنان ، وتكريس إحتلال منابع النفط وتواجد القوات الأجنبية في الجزيرة والخليج العربي ، كلها إنطلقت من مخططات تدثرت بذرائع مفضوحة وواهية مماثلة لما يراد فرضه على السودان الآن )) . ويواصل الناطق باسم الحزب القول : (( إن شعب السودان عبر تاريخ نضاله الوطني لم يكن يستجدي العون من الأجنبي لحل مشكلاته وأزماته الوطنية ، ولا سيما وهو يدرك أن هذه القوى الامبريالية الصهيونية التي تزعم الحرص والدفاع عن القيم الانسانية وعلاج مشكلات القطر ، لم تكن في الأصل بعيدة عن خلق أسباب وتفاقم هذه الأزمات ، إن لم تكن ضالعة في صنعها ، فآثار وويلات العهد الاستعماري البريطاني البغيض (1898-1956) مثل سياسة المناطق المقفولة ، ومخططات التفرقة والتقسيم ما زالت مطبوعة في ذاكرة أبناء وبنات شعب السودان )) . ويقول (( إننا في الوقت الذي نجدد فيه رفضنا وتنديدنا بكل محاولات التدخل الخارجي في شؤوننا الداخلية .. الخ ، كذلك نفضح أكاذيب أركان الفئة الحاكمة النافية لوجود إنتهاكات لحقوق الانسان وحرياته )) .

وفي عدد مارس 1995 تقول الهدف (( أن سياسات النظام باتت تهدد أكثر من أي وقت مضى إستقلال البلاد وتمزيق وحدتها الوطنية ، فالفدرالية غير المرتبطة بآفاق التنمية والديمقراطية وتعزيز الوحدة الوطنية ، تكرس واقع التخلف والتجزئة وتثير النعرات والعصبيات الطائفية والمذهبية والعنصرية تحت ستار كثيف من الشعارات الاسلامية التي تحل التعصب والعنف والتطرف والتمييز الديني محل الجدل والصراع السلمي وتفتح الباب واسعاً لتمزيق وحدة الوطن وتأجيج الحروب الأهلية )) .

وفي بيانه الصادر بمناسبة الذكرى الخامسة لحركة 28 رمضان 23 أبريل 1990 والمنشور بتاريخ 23/4/1995 يقول حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان : (( خلال أكثر من خمسة سنوات أكدت الطغمة الحاكمة فشلها الفاضح في تحقيق ما جاء في بياناتها الأولى ، بل وأكدت إنها لم تقم بإنقلابها من أجل إنقاذ السودان ، بل من أجل تقويض الديمقراطية وعرقلة الجهود الوطنية لايقاف الحرب الأهلية وتحقيق السلام )) .

وفي أغسطس 1995 أصدرت قيادة قطر السودان لحزب البعث خلاصة تحليلها السياسي الداخلي لدورة أغسطس 1993 . تحت عنوان : البعث والمخرج من الأزمة الوطنية الشاملة في السودان : ( تم توزيعه على نطاق جماهيري ) ، إستعرض التحليل تطورات الوضع السياسي في السودان وعلى صعيد حركة المعارضة والتجمع الوطني وعكس تحليل الحزب مواقف البعث من مقررات مؤتمر قوى المعارضة الخارجية في أسمرا 1995 – معلقاً بالقول : (( إن معالجة المعضلات الوطنية المصيرية من موقع المعارضة رغم أهميتها في رسم خطوط المستقبل خارج حسابات وضغوط السلطة ، إلا أن أهميتها الحقيقية تكمن في تحليها بالوضوح والصراحة وإمكانيات التفاعل الطبيعي بين الأطراف السياسية ، حتى لا تتحول بدورها إلى معضلات إضافية تزداد تعقيداً في مرحلة الحكم والمسؤولية السياسية ، لذا ينبغي مد الجسور بين القوى المؤمنة بوحدة السودان وتقدمه في الشمال والجنوب ، وبلورة القناعات بعيداً عن مغريات الوعود السهلة والمواقف المظهرية البخسة ، لأن أكبر الضربات التي لحقت بالعلاقات بين شقي الحركة السياسية في البلاد هو عدم مصداقية الزعامات التقليدية الشمالية والأنظمة المتعاقبة في تعاملها مع الجنوب على أسس مبدئية . وعبر تحليل الحزب عن المواقف التالية :-

1- إنتقد دور بعض الأحزاب التقليدية في الخارج في تعديل ميثاق التجمع وضم أجنحة الحركة المسلحة في جنوب السودان .. وبالرغم أن ذلك يمثل خطوة الى الأمام لزج تلك الأجنحة في مسيرة النضال الوطني الموحد إلا أنه يمثل خطوات الى الوراء في كسب رهان المستقبل ، لأن إنضوائها حسب الكيفية التي تمت بها ، كان على حساب النظرة المبدئية للتجمع ، وبالعمل على الاستقواء بتلك الأجنحة وإلى حين ، في مقابل مسايرتها للدوافع التي تتناقض مع قوى التجمع ومواقفها المعلنة في أكتوبر 1989 .

-2كما أعلن الحزب موقفه من شعار حق تقرير المصير ، إذ يقول : (( إذا وضعنا جانباً مماحكات السباق السياسي السلبي لبعض الأطراف في تنظيم المكاسب الآنية الدعائية ، فإنه مهما تكاتفت مشكلات المناطق الأكثر تخلفاً وتنوعت ملامحها وتبلورت تعبيراتها فلا يمكن طرحها خارج الثوابت ومعادلات الوحدة الوطنية وعزلها عن قالبها وكيانها العضوي ، بصرف النظر عن حدة التناقضات النسبية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.