البحث في الهوية – جسـر للوحدة أم منـزلق للتفتيت

البحث في الهوية – جسـر للوحدة أم منـزلق للتفتيت

 

 

في 29ابريل 1984م. توعد نميري شعبنا باستخدام القانون (البطال) (والنط فوق الحيطان)بدخول المنازل والتجسس علي ساكنيها بإعتبارها الوسيلة المناسبة لتطبيق قوانين سبتمبر 1983 م التي سماها (قوانين الشريعة ) …وبمثلما كانت تلك الخطوات هروباً من الاعتراف بفشل سياسات النظام الذي باع الوطن وأذلّ شعبه وسرق قوته ومتاجرةً خطيرةً بالمقدسات الدينية كغطاء لذلك الهروب من مواجهة تحلل وتفسخ النظام، سيما وأنها قد جاءت بعد قرار نميري بإعادة تقسيم الجنوب الي ثلاثة أقاليم بدلاً من إقليم واحد حسبما تم اقراره في اتفاق اديس ابابا 1972 م الأمر الذي كان أحد الأسباب المجددة لإندلاع الحرب مرة أخري 1983م.مثل ذلك كله كان خطاب البشير في 19 ديسمبر في2010م في القضارف والذي توعد الشعب بتطبيق (الشريعة) وبالقطع والقطع من خلاف ووالقتل والصلب، اذا ما انفصل الجنوب .. هكذا بدون مواربة تتعرى متاجرة النظام بشرع الله عندما جعله قابلاً للمقايضة!!بالوحدة، ويتعرى كذلك النظام كنظام استبدادي يتجاوز فيه الرئيس اختصاصاته بالتعدي علي صلاحيات المؤسسات الأخري لاسيما القضائية عندما رفض قرار القضاء والشرطة بالتحقيق في واقعة جلد الفتاة-  ليطأ بأقدام القمع الدستور الذي صاغه بمثلما كان إنقلابه في 30 يونيو 1989 ـــانتهاكاً للدستور ونكوصاً حقا عن قسم القوات المسلحة بحماية الدستور وهو بذلك لايقدم الاسلام لبلده والعالم إلا من بوابة الحدود ومناقضاً بتعديه علي اختصاص الشرطة والقضاء بالتحقيق الحديث الشريف القائل (إدرأوا الحدود بالشبهات).والحدثان كانت تداعيات قضية النضال الوطني في جنوب السودان واحدة منهما..لقد كانت واحدة من أهم تحديات ما بعد الاستقلال تتمثل في التوافق على دستور دائم مستوعب لواقع الوحدة والتنوع..دستور ديمقراطي قائم على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز على أساس العنصر أو الدين أو الإقليم مستوعباً لمعادلة الوحدة والتنوع – الديني والثقافيوأن لا تفرق الدولة بين دينٍ وآخر، وترعى الحقوق الثقافية لكافة الجماعات الوطنية بتهيئة البيئة الملائمة لتطوير هذه الثقافات وفتح منابر وقنوات الحوار والتكامل الحضاري والثقافي. وأن تجسد مؤسسات الدولة بدءاً من مؤسسات السيادة، في تركيبها وسياساتها، الاجماع والتنوع القومي كضمانة لقومية واحترام وفاعلية هذه المؤسساتولئن كانت الأغلبية تدين بالإسلام، إلا أن هذا لاينبغي أن يتأسس عليه أي ضرر أو تعدي على حقوق الآخرين غير المسلمين، بل ويتوجب أن يتمتع هؤلاء بكل حقوق المواطنة، أي ألا يكون الانتماء الديني معياراً للتمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

كما أن التمييز والتفرقة على أسس ومعايير دينية تؤدي إلى التجزئة وإضعاف الولاء والاحساس بالمواطنة والانتماء لدى من لاينتسبون لدين الأغلبية.. ثم إن أطروحة الدولة الدينية هي محل اختلاف بين اجتهادات المسلمين ولم يجمعوا عليها، وليس هناك ما يسند هذه الاطروحة في الكتاب أو السنة المؤكدة.

لقد جاءت إزدواجية  التخلف والتطور، غير المتوازنة، في أقاليم السودان المختلفة ، كنتيجة طبيعية لنشأة القطاع الاقتصادي الحديث في عهد الاستعمار الذي أولاه عنايته لارتباطه بالتجارة الخارجية والمصالح الاستعمارية. اذ شهدت مناطق الانتاج الحديثق بعض الخدمات والمنشآت الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية التي حرمت منها ومازالت مناطق القطاع التقليدي.

في 10فبراير 1987م – قدم حزب البعث العربي الاشتراكي ـ مشروعاْ للقوي السياسية والديمقراطية حول موضوع الهوية القومية إلا إن انقلاب 30 يونيو أطاح بإمكانية انعقاد المؤتمر الدستوري الذي أعدت تلك الدراسة وغيرها من الدراسات، حول نظام الحكم، والدين والدولة، والتنمية الاقتصادية، ليتم التداول والحوار الديمقراطي حولها باعتبارها أهم قضايا تلك الحقبة .ان المناخ السياسي الذي صيغت تحت ظلاله تلك الأوراق – اتسم بقدر ملحوظ من التفاؤل الذي وفره انتصار شعبنا في انتفاضة مارس/ أبريل – فانعكس ذلك على التوقعات التي طرحتها ورقة (الهوية ) القائلة بإمكانية تعزيز الوحدة الوطنية وتحقق قدر عالي من التفاعل، بين أبناء شمال وجنوب السودان، في نفس الوقت فان عمق الإدراك بجذور مشكلة الجنوب وما يمكن ان تنحدر اليه من تداعيات تهدد الوحدة الوطنية ، جعلنا نحدد بدقة مطلوبات الارتفاع بمعدلات التفاعل بين الشمال والجنوب بـ : توفر مناخ صحي للتفاعل بين كافة الإطراف، يقوم على احترام الثقافات، مهما كان وزنها العددي والسياسي ورعايتها .. كما يقتضي ذلك ديمقراطية سياسية تعددية، مرتبطة بتطور محسوس نحو ديمقراطية اقتصادية اجتماعية، تزيل التخلف وأشكاله المادية المفاهيمية والنفسية، والتي تقف وراء ظواهر الاستعلاء والدونية القومية ).لذلك أكدنا أهمية (الحرص الفائق على تهيئة كافة الشروط الضرورية لتقوية فعل عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية وتنقيتها من سلبيات عهود التخلف والسيطرة الاستعمارية )وحوت وثيقة الهوية نقداً لمشروع الدولة الدينية، الذي مافتئت تطرحه الجبهة الإسلامية القومية والقوي التقليدية، التي تلكأت هي ومن قبلها المجلس العسكري الانتقالي، في إلغاء قوانين سبتمبر 1983م، التي خلقت تهديداًًًً خطيراْ لوحدة القطر ( ان الجوانب الاقتصادية والسياسية والقانونية وغيرها من الجوانب التي يقوم عليها نظام الدولة الدينية ، هي اجتهاد نظري سياسي وليست جزءاً أصيلاً وطبيعياً من الانتماء أو العقيدة الإسلامية ) ..ولذلك ( لا يمكن اعتبار تصورات بعض القوى السياسية لما هو تنظيم اقتصادي وسياسي وقانوني إسلامي للمجتمع، كجزء من العقيدة الإسلامية، مما يجعلها غير صالحة لاتفاق دستوري حتي بين المسلمين أنفسهم ) أما بالنسبة لغير المسلمين ( يعتبر الاصرارعلى تلك التصورات، مدعاه لتعطيل الاتفاق الوطني الدستوري، لانطوائه على تهديدات خطيرة على الديمقراطية والوحدة الوطنية ) .ذلك ما طبعته ممارسات عصبة الدجل والهوس والمتاجرة بالمقدسات الدينية ـ سيما نهج تكفير الخصوم، الذي تصدي له حزبنا وأصدقائه بجدارة، في محاكمة الرفاق الأربعة الذين سعي مشعوذوا ودجالوا النظام المايوي، قضاة وأكاديميين بالصاق تهمة الالحاد والردة بهم ، وعلى أفكار حزبهم 1984م.كذلك اشتملت الوثيقة المشار إليها أعلاه، تعريفاً لمصطلح ( القومية ) ولواقع وحدود القومية العربية في السودان ( الشمالي )، كما استعرضت حركة التطور (القومي) في جنوب السودان، وما يؤدي إلي ترسيخ  الوحدة الوطنية ثم تناولت حقائق الانتماء الافريقي والإسلامي للسودان لتخلص أخيراً الي القول: ( بأن الانعتاق من التخلف ونجاح تجربة التعايش بين العرب وغير العرب مهما كان مصيرها من ناحية التكوين القومي سيجعلان  افريقية السودان قوة دفع هائلة للمفهوم الحالي لحركة الوحدة الإفريقية ولتيارات التبلور القومي في القارة ومستقبل الشقين ، الجنوبي و الشمالي فيها).واختتمنا القول آنذاك ( فبراير 1987) باعتقادنا بعروبة وافريقية وإسلامية السودان، وان مصطلح سوداني يعني ( الانتماء الي جنسية  قانونية لكيان سياسي موحد يتساوي فيه المواطنون مساواة   مطلقة وتتفاعل فيه نحو صياغة أكثر تبلوراْ للعلاقة القومية الجامعة، حضارة عربية إسلامية وثقافات  جنوبية .. وإن ماهية السوداني والشخصية السودانية – بعيدة عن المفهوم الشكلي الرائج الذي يراها كمجرد تجمع لثقافات متعددة في حالة جمود استاتيكية أو يقدم صيغة توفيقية وسطية تحت ذلك المصطلح كحل سياسي مؤقت .. وكلاهما يتجنبان المواجهة المباشرة للقضية المطروحة التي يثور حولها جدل شديد يوحي بأنها غير قابلة للحل العلمي القائم علي التعريف الموضوعي لعناصرها ، ثم اشتقاق المصطلح المطلوب من هذا التعريف .. وان قدراْ كبيراْ من هذا الخلاف والجدل يدور خارج الموضوع ..وأن مصطلحات إفريقي / إسلامي / عربي لاخلاف عليها كصفات للسودان وشعبه ، لكن القدر الموجود من الخلاف هو في مغزي هذا المصطلح ـ وعلاقتها ببعضها البعض   التي تجعل منها مصطلحاْ واحداْ، وهو خلاف محدود يمكن إزالته إذا تجرد الجميع من المفاهيم المسبقة والشكوك وأدركوا أنه ليس على صلة بالصفات التي تستخدم لتحديد هوية السودان  )

* لقد ولد انقلاب 30يونيو من رحم إجهاض انتفاضة مارس/ ابريل الذي بدأ بتكوين المجلس العسكري الانتقالي والتراجع عن إلغاء قوانين سبتمبر ، وإشراك جبهة بقايا مايو فيما سمي حكومة الوفاق الوطني (1988م) والمماحكة  في إقرار اتفاق نوفمبر 1988م ( الميرغني /قرنق) وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية كما شكلت حملات ( التصعيد والتصعيد المضاد) التي اشتدت بين الجبهة الإسلامية القومية والحركة الشعبية تهديدا جديا للوحدة الوطنية ولعبت دورا كبيرا في إجهاض تجربة التعددية الثالثة وهدر تضحيات أبناء وبنات شعبنا.

إن النهج السياسي الاقتصادي الاجتماعي لنظام الإنقاذ ومن تناغم معه هو الذي أوصلنا لكل الاحتمالات السالبة الخطيرة التي تتجه بلادنا نحوها حيث ان اتفاقات النظام مع الحركات المسلحة سواء في الجنوب أو الغرب او الشرق لم تفلح لا في تحقيق السلام أو التحول الديمقراطي أو العدالة والمساواة كما لم تحافظ علي سيادة السودان أو وحدته الوطنية، كما لم يفلح التجمع الوطني الديمقراطي في تحقيق ما توصلوا اليه في مؤتمر اسمرا 1995م ولا اتفاق القاهرة الذي ابرمه مع الانقاذ .. في تحقيق اسقاط النظام أو تفكيكه أوتحقيق التحول الديمقراطي كما تخلت الحركة الشعبية صراحةً عن مشروع السودان الجديد منذ انفرادها بالاتفاق مع الإنقاذ وتخليهما معاْ عن  العمل على ان تكون الوحدة جاذبة بدعمها لخيار الانفصال وتعبئة ابناء الجنوب بهذا الاتجاه تحت عنوان الا يكون ابناء الجنوب ( مواطنون من الدرجة الثانية ) .

لقد طرحت قضية الهوية بشكل بارز في الخطاب السياسي بصورة متدرجة ومتصاعدة مع ارتفاع الوعي باكتشاف طابعها العام والتعرف في ذات الحين علي خصائصها الكلية بابعادها السياسية التاريخية الثقافية الاجتماعية وتزامن طرحها مع تصاعد أجندة القضايا الوطنية ومضامين الصراع السياسي الاجتماعي بعد الاستقلال بشكل خاص الصراع بين النخب الحاكمة في مركز القطر وحملة السلاح جنوباْ: تمرد 1955م وما بعده ،العجز عن تلبية مطالب النخب الجنوبية بالفدرالية – والنظرة القاصرة لضرورة إستيعاب أعدادا مناسبة من أبناء الجنوب في الوظائف المسودنة ، وردة الفعل على تمرد 1955م ، وإنعكاسه على أبناء الجنوب، الفشل بشكل عام في انجاز برنامج مابعد الاستقلال بربط الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والتنمية، فإحتلت قضية جنوب القطر مكانة القلب في تحقيق التوافق على الهوية الوطنية لأبناء السودان.

ما طرحناه في وثيقة الهوية ارتكز على الوعي بإبعاد الازمة الوطنية في جنوب القطر كما ارتكز على رؤية البعث لمسألة الأقليات أو المجموعات (غير العربية) في الوطن العربي:في المفاهيم البعثية (فإن كينونة الأمة العربية أو القومية العربية الواحدة كحقيقة لا ينفي حقيقة كينونة أو وجود جماعات أو اقليات ضمن الأمة أو القومية وأن هذه الجماعات قد نسميها (اقليات ) قومية محددة مكتملة التكوين القومي ( الاكراد مثلاْ) أو قد تكون جماعات أو( اقليات دينية ) ، أو كونها مجرد قبائل أو جماعات إثنية متناثرة بسبب أن تفاعل العوامل الحضارية الاجتماعية الثقافية لم يتحقق بطريقة واحدة أو مرة واحدة في ربوع الوطن العربي بكامله، بل ان ذلك قد تحقق على درجات و بطرق مختلفة ، حيث لعبت فيها عوامل خارجة عن ارادة الامة دورا مؤثرا- الظاهرة الاستعمارية والتجزئة- وكذلك كان لعوامل داخلية اثراْ كبيراْ فيها (سيطرة الفئات والطبقات المستغلة).ويضيف المرحوم الأستاذ / بدر الدين مدثر عضو/ القيادة القومية لحزب البعث أمين سر قيادة القطر الراحل في مخطوطته ( البعث ومسالة الجنوب في السودان 1974م ) ، حول نظرة البعث للاقليات :ان اعتبار هذه الاقليات بمختلف انواعها جزء من الامة أو القومية العربية بمنظورها البعثي ، لا يلغي حق هذه الاقليات في المحافظة على خصائصها وتطوير هذه الخصائص .. في الوقت نفسه فان هذا الحق لا ينبغي ان يوضع في مواجهة حق الامة أو القومية العربية في الحفاظ على وحدتها ونضالها الوحدوي الاشتراكي .. فتطوير الخصائص الثقافية والاجتماعية لاقلية ما لايجب ان يعني العمل ضد نضال مجموع الامة كما ان الحفاظ على وحدة الامة أو القومية يجب الا يعني المساس بحقوق الاقليات الثقافية والديمقراطية ، بل ان ضمان حقوقها هذه وتطويرها ضروري لفتح مجال لتفاعل عطائها في بوتقة التطور والارتقاء الثقافي والحضاري لمجموع الامة ، كما يشكل عامل هام من عوامل وحدة الامة وتنوع ثقافتها وعطائها الانساني ) ويضيف ( ان ظروف الهيمنة الاستعمارية والتجزئة والتخلف والاستغلال الطبقي هي البيئة الحقيقية لنشوء النزعات الشوفينية  والاستعلائية سواء وسط الاغلبية أو الاقليات، وان حزب البعث اذ يناضل ضد هذه الظروف انما يستهدف استئصال جذور الشوفينية والاستعلاء القومي من التربة العربية ) ويقول (فالعروبة والإنتماء العربي كانت وستظل قيمة حضارية ونضالية قبل أن تكون انتماء عرقيا جغرافيا، وأن حقوق الاقليات في الوطن العربي بمفهومها الذي قدمه حزبنا يجب ان تفهم بمنظور انها علاج جذري للمشاكل والقضايا التي يثيرها وجود هذه الاقليات كما انها في الوقت نفسه احدي صور العلاج الجذري الشامل لمشاكل وقضايا النضال القومي العربي .. وذلك انها تفتح الباب واسعاْ امام التفاعل بين اجزاء الامة لكي تسترجع الامة حقيقتها الاولى .. ذلك الباب الذي اوصدته العوامل الخارجية، الظاهرة الاستعمارية والتجزئة ، والعوامل الداخلية ، الاستغلال الاقتصادي الداخلي . وهذه الحقوق ليست منحة من العرب للاقليات ولا هي بالانتصار المنتزع للاقليات من العرب بقدر ما هي نتيجة نضال الامة في مجموعها باقلياتها واغلبيتها ضد مظاهر تمزقها وتخلفها وضد الاسباب البعيدة لهذه المظاهر، وضد الاعداء التاريخيين لوحدة هذه الامة : الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية وبضمنها الرجعية وسط الاقليات . بهذه النظرة فان حقوق الاقليات في الوطن العربي قد تتعدد اشكالها : من الحكم الذاتي الاقليمي ، الي ضمان الحقوق الثقافية  الاجتماعية الاقتصادية ، مروراْ بحرية العقيدة الدينية ….الخ الا ان هذه الحقوق كلها ، في مختلف درجاتها واساليب تطبيقها هي قضية  تهم مجموعة الامة ، وان الجهة الوحيدة  المؤهلة لحلها تاريخياْ هي الجماهير المنظمة بقيادة الطلائع الثورية للامة).ويقول القائد المؤسس عليه رحمة الله ورضوانه (فهمنا للعروبة يختلف كثيراْ عن المفاهيم التقليدية . فالقومية المغلقة المتعصبة اكبر خطر علينا،  لأنها تغذي الفروق وتمزق وحدة الشعب .. لقد وُجد في البلاد العربية من تبني النظرية النازية ، وصور العروبة بأنها مقتصرة على نوع معين من الناس وانها تفاخر واستعلاء على الاخرين … وطبيعي أن يحدث هذا رد فعل وأن تشعر الاقليات الإثنية بأنها مهددة في وجودها امام مثل هذه القومية .. فنحن احوج ما نكون الي مفهوم صحيح للعروبة نقدمه للعالم وللحضارة وللتفكير الانساني . لهذا فسرنا قوميتنا بالاشتراكية وبفكرة الحرية ) ويقول أيضا ( نحن عندما ننادي بالمساواة الاقتصادية وبتكافؤ الفرص نعني اننا سلمنا قضية البلاد لاصحابها الحقيقيين وهم أفراد الشعب، وهم في حقيقتهم شي واحد لا فرق بين عربي وكردي وبربري …الخ فلا يعقل مطلقاْ ان تكون القومية اشتراكية وفي نفس الوقت متعصبة ، لان الاشتراكية في فلسفتها هي محو كل تمايز واستغلال وسيطرة من فئة على أخري ) ويقول في مكان اخر ( ان القومية العربية لاتقوم على اساس عنصر او دم وانما على اساس تاريخ وثقافة مشتركة ولغة واحدة ومصلحة مشتركة في الحياة معا وفي الدفاع عن وطن واحد والعمل لبناء مستقبل واحد )

ويقول شهيد الحج الاكبر القائد صدام حسين الامين العام لحزبنا عام 1980م (نحن لانقول بان الوحدة العربية هي الحالة التي تنتفي فيها الخصوصيات الوطنية والمحلية كليا، وإنما هي الحالة التي تَوجد خصوصيات جديدة مشتركة وروابط جديدة للأمة تكون هي الأساس ، وما عداها يكون في خدمة الأساس أو غير متعارض معه على الأقل . وعلى هذا الأساس فان الحالة المحلية والخصوصية المحلية هي ليست حالة ضعف للأمة إذا ماكانت خيمتها الأساسية الوحدة ، بل علي العكس قد تكون حالة مطلوبة ، وحالة قوة حقيقية للأمة .. والاندماج الذي يلغي الخصوصية قد يكون حالة مرضية ومؤذية للوحدة العربية .. ومثلما نقول الآن أن لمحافظة التأميم خصوصياتها ، ومثلما لمحافظة البصرة خصوصياتها ومثلما للعاصمة بغداد خصوصياتها حيث لايفترض أن تكون حالتها كما هي حالة محافظة صلاح الدين لاعتبارات معروفة ، علينا أن نقول أيضاً ينبغي أن تكون للأقطار العربية ضمن الأمة ووحدة العرب ودولة العرب خصوصياتها.. ولكن هل ننظر إلي هذه الخصوصيات من زاوية قطرية منعزلة منغلقه ، أم أننا ننظر إليها من ناحية موضوعية وعملية وفي ظل المبادئ التي تخدم التوحد ؟ إنه من الطبيعي أن نطل علي الخصوصيات من منظارين واقعي ومبدئي ، حيث إننا في الوقت الذي نري واقعيتها وضرورتها باعتبار ان الأمة العربية أمة مجزأة ألي أقطار وان التجزئة قد خلقت ظروفاً موضوعية ينبغي أن لانغمض عيوننا عنها ، فأننا نتصرف تجاهها بما يخدم التوحد ويقويه وليس بها ما يضعفه أو يجعل من الخصوصيات القطرية المحلية بديلاً عن التوحد ، وعند ذلك عندما (نداري) الخصوصية ونعالجها معالجة عقلانية ، فإننا نقوم بمثل هذا الواجب لخدمة الوحدة وليس العكس).ولقد حددت بدقة النظرة الإنسانية للقومية ـ شروط الانتماء للأمة في دستور حزب البعث العربي الاشتراكي بالنص (العربي هو من كانت لغته العربية ، وعاش في الأرض العربية أو تطلع الي الحياه فيها وآمن بإنتسابه الي الأمه العربية )

باستدعاء ذاكرتنا التاريخية نستشف منها مايلي :

1) إن عملية الإندماج والتكوين القومي في السودان ـ لاسيما فيما يعرف بشمال السودان الآن ـ قد تمت بسلاسة وتدرج سلمي فيما قبل الرسالة الإسلامية ومن بعدها فاكتسب هذا الجزء هوية عربية إسلامية سودانية مميزة .

2) إن جوهر الصراع أو القاسم المشترك علي مدار تاريخ التطور الوطني قبل الظاهرة الاستعمارية ـ التركية / البريطانية كان حول تنازع الملك والموارد ، لم يكن التحادد أو التقابل علي أسس أثنية .

3) إن عملية الإندماج والتفاعل السلمية المتدرجة المشار أليها في (1) أعلاه لم تترك حيزاً أو مكوناً يمكن الزعم بنقائه العنصري .. إذ صحبتها زيجات ومصاهرات بجانب وحدة المعتنق الديني لحد كبير .

4) إن ما يمكن وصفه بالممارسات اللاانسانية (الرق) التي كانت متناثرة هنا وهناك هي أولاً لم تكن وقفاً علي مكونات إثنية بعينها، وأنها ثانياً قد كانت محدودة وبهدف التجنيد أو الخدمة المنزلية أو المتعة (الاماء والسراري) ثالثاً : فإن هؤلاء كثيراً ما اندمجوا كاعضاء اصليين في مجتمعاتهم الجديدة.

5) أن هذه الممارسة لم تنطلق من قوة دفع مركزية ( سلطة مركزية ) إذ أن السودان حتي قبل الاستعمار التركي / البريطاني لم تقم به أو يعرف الدولة المركزية.

6) أن ممارسة الاضطهاد من قبل المستعمر ـ والتي كان الاسترقاق أحد عناوينها أو وسائلها قد شكلت الأرضية التي بني عليها المستعمر فيما بعد بذور الفتنه وازمة الثقة بين وسط السودان ( بشماله ) حيث تركزت حاجة المستعمر لموارده. وبين اطراف السودان لاسيما جنوبه وغربه والذي لم تمتد مشروعات المستعمر لبناء مدني فيه ـ مخلفاًً بذلك تبايناً درجيا ونسبياً بين الوسط وتلك الأجزاء لمحدودية وبدائية مشروعاته حتي في وسط السودان.

7) أن السلاح الثاني الذي استخدمه المستعمر هو اضعاف التواصل الذي حالت أوضاع التخلف عن مغالبة عوامله المادية لاسيما المناخ وغياب التوجه والتخطيط المركزي ـ وذلك ليس فقط بسن قانون ولوائح المناطق المقفولة بدءا من عام 1922م : لائحة جوازات السفر + مرسوم المناطق المغلقة + عام 1925م مرسوم تصاريح التجارة في المديريات الجنوبية _ عام 1928م مؤتمر الرجاف + 1930م ـ مذكرة الحاكم العام حول سياسات الاستعمار البريطاني تجاه الجنوب ليس ذلك فحسب بل وشهدت هذه الفترة علي وجه التحديد وحتي خروج المستعمر تعبئة بتصوير الشمال والشماليون كتجار رقيق ومستغلين وعنصريين و.. الخ.

8) أن ردة فعل مؤتمر الخريجين عام 1942م في المطالبة بالغاء قانون المناطق المقفولة لم تتوفر له العوامل الذاتية والموضوعية اللازمة لتجاوز مخلفات القانون من نفوس ابناء الجنوب .

9) أن عوامل الانقطاع التاريخي عن التواصل بين الشمال والجنوب ومحدوديته لم يكن وعي النخب الحاكمه قد توصل اليها عشية الاستقلال ـ لذلك استعصي عليها استيعاب الدوافع التي حركت تمرد الفرقة الاستوائية 1955م ـ ليكون رد الفعل عليها عاملاً مضافاً معززاً بلا وعي للمخطط الاستعماري للتفرقة بين شمال السودان وجنوبه.

10) إن غياب الوعي قد وسم وسائل تعامل الانقلاب العسكري 1958م مع حركة التمرد ـ لتأتي وسائله هذه واهدافه بالنقيض منها تماماً . فحيث انبني تشخيص عسكر نوفمبر علي اسباب التمرد في:-

( أ ) التبشير الكنسي

(ب) منع التعريب

(ج)وأن التمرد قد اضطلع الجيش (القوة) بحسمه ، إذا فان الحل في رؤيتهم كان:

أ/ الحسم العسكري     ب/ الأسلمة والتعريب القسري

11) أن صراع النخب في الوصول للسلطة في اطار مشروع وبرنامج اقتصادي اجتماعي لم يوفر شعوراً لدي المواطنين لاسيما في الجنوب بالفرق بين عهد الاستعمار وعهد الاستقلال.

12) إن النخب الحاكمة والمتداولة للسلطة والتي كانت دوماً لمصلحة قوي شبه الاقطاع والرأسمالية الوكيلة فالطفيلية لم تكن تنظر في سياساتها لابعد من وسائل بقاءها في كرسي السلطة وخدمة امتيازاتها.

13) إن الإنتهازية التي وسمت علاقات المركز القابض علي السلطة مع الكثير من النخب الجنوبية ـ وتنكر المركز للوعود والاتفاقات التي يبرمها معها ـ قد زرعت عميقاً ازمة ثقة مستفحلة في كل ما يصدر عن الشمال والشماليون.

14) إن العروبة والإسلام قد إنطبعا في عقل ووجدان ابناء الجنوب (بالإستعمار العروبي الإسلامي) بسبب الفهم والممارسة الخاطئة لهما والمزايدة والمتاجرة بهما علي النقيض من جوهرهما ـ لاسيما في عهد الإنقاذ.

15) إن ممارسة النخب الحاكمة وتهافت بعض معارضيها ( خارج السلطة ) لازاحتها باي ثمن ـ قد فتح ثغرة كبيرة اخترق منها الأجنبي ساحتنا الوطنية بل وليصل لحد المقرر الفعلي لحاضر ومستقبل السودان ….. الخ

فشل المركز في تحقيق التنمية بأقاليم السودان المختلفة على وجه الخصوص، وعجز الأحزاب السياسية في أن تكون بديلاً تاريخياً قادراً على إنجاز ذلك الهدف، رفع من درجات الانكفاء الجهوي والقبلي والإثني، كمحددات للهوية بديلاً عن المحدد الوطني الجامع لها في تنوعها، الأمر الذي أدى لتشويه وتغييب طبيعة الصراع كصراع سياسي اجتماعي في جوهره.نموذج نظام الحكم الذي زرعته اتفاقات مشاكوس/ نيفاشا/ أبوجا…أثمر امتيازات ومصالح للنخب المقاتلة شبيهة بتلك التي تتمتع بها النخب الحاكمة في الدولة القطرية في الوطن العربي لذلك يمضي مخطط الانفصال لتكريس هذا الواقع الجديد الذي بذرته تلك الاتفاقات، وبمزاعم ان (الوحدة ) هي المسئولة عن ضياع الحقوق وأن الانفصال هو الذي سيمنح الاجزاء المنفصلة حقوقها ويجعل ابناءها مواطنون من الدرجة الاولي بدلاً من أوضاعهم كمواطنين من الدرجة الثانيه في دولة الوحدة .

ولما كانت الاثار المترتبة علي الانفصال في ظل العولمة – تتجاوز حدود جنوب السودان ، لذلك فإن الأجزاء المتأثرة من تلك الخطوة ستعمل سراً أوجهراً وبطرق مباشرة أوغير مباشرة ، علي حماية نفسها من تداعيات الانفصال .. وهو مايهدد بانفجار صراع مسلح وإستقطاب دولي يغذي بدوره التصعيد الحالي بين الاطراف … وتزداد العلاقة تباعاً بين الأمن الوطني وأمن الإقليم والأمن الدولي أو بكل مايمس ما تعتبره القوى العظمي مصالح حيوية ومهددات لأمنها القومي .

الاقتتال بدوره يعمق مشاعر الكراهية والعداء المقيت والتمايز السلبي ، ويقيم برازخ تحول دون البناء الوحدوي في المستقبل [ افرازات تمرد 1955 والمذابح التي نجمت عنه.. أحداث الأحد الدامي 1965 .. مذابح بابنوسة 1965، والضعين 1987 ، ماجرى ويجري في دارفور، أحداث الإثنين الأسود بعد مقتل قرنق … إلخ] .

إن مثال الأوضاع التي عاشتها الجماعات ذات الأصول الصفراء ( سيما اليابانيون) في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية – والتي تم تجريدها من كافة حقوقها السياسية والاقتصادية رغم تمتعها بالجنسية الامريكية بالميلاد – وكذلك الاوضاع التي تعرض ويتعرض لها المسلمون في الولايات المتحدة وأوربا بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 – تلك الأوضاع الموسومة بالتمييز السلبي فإن الجنوبين في الشمال أو إخوتهم الشماليين في الجنوب لن يكونوا بعيدين عن تذوق مرارتها … سيما حالة إندلاع الحرب .. وفي كل الاحوال يسود شعوراً طاغياً بالخوف بين هؤلاء .الذي باعد من الثقة بين النخب السياسية الوحدوية في الشمال والجنوب .. أنهما معاً قد إستعصى عليهما فهم خصوصية النشأة وتقاليد الممارسة السياسية المتوزعة بين حمل السلاح والعنف كوسيلة لحسم الصراع وبين وسائل العمل السلمي عبر المنشور والتظاهر والأضراب  ألخ ..ولم يتم النظر إلي تلك الوسائل في تكاملها أو زمان تلاقي خطوطها ولم تصلح خطوات التنسيق أوالتحالف في تحويل أحادية المنهج إلى منهج وطني موحد .

كيف نرتقي بالوعي بضرورة التفاعل بين الوحدة والتنوع إلي وعي جماهيري غالب ومتطور ومحيطاً للصلة بين التمايز والخصوصية وبين ماهو جامع وكلي؟.

وكيف نتجاوز سلوك النخب السياسية الجنوبية والشمالية الذي طبع علاقات التواصل بينهما بالانتهازية؟.

إن الوصول لتحديد سمات الهوية الجامعة (الوطنية) إذ يحققه حشد طاقات البناء الوطني لمواجهة التحديات التي تقف في وجههم ، فانها تقدم من السودان في هذه الحالة نموذجاً لوحدة النضال العربي الافريقي وإستعادة لحقائق التاريخ حيث تزامنت انطلاقة حركتي التحرر العربي الافريقي باعتبارهما جبهة واحدة ضد الاستعمار وذيوله .. الفرقة والتخلف والاستغلال الداخلي .إننا بحاجة ماسة لاعادة قراءة وكتابة تاريخ حركة التطور الوطني بمكوناته القومية وماقبل القومية – علاقات شمال وجنوب السودان – علي أن هذا واجب وطني لأبناء الشمال والجنوب معاً – قراءة نحاكم ونقيم فيها تلك المسيرة بقياسات تاريخ الإحداث لابمقاييس الحاضر . ويجدر بنا ونحن نؤدي هذا الواجب إستذكار مايلي :

1/ أن لاتذر وازرة وزر اخري . بمعني أن هذا الحمل لايتحمل وزره الاجيال اللاحقة . بما يحررها تماماً من عقدة المسئولية . وهي يمارس نقد تراثها  (الصفحات المظلمة ندينها ولاننكرها).

2/ أن مكتبة تاريخ السودان قد ساهم فيها كثيرون من غير السودانين ومنها الغث وكما فيها الثمين … نحن لانتحيز لنهج الاستشراق ولا نتماهى معه ولانغفل ما طرحته ونشاهد عبرها منظار الاخر لتاريخنا وأثر ذلك علي موقفه منا.

إن المناقشة التي دارت في اجتماعات قيادة البعث توصلت الي أن نهج النظام سيتسم بقدر كبير من القمع والعنف في مواجهه الخصوم إذا جاءت نتائج الاستفتاء بانفصال الجنوب … وقد عبرنا قبل ذلك عن ملاحظاتنا المدعومة بشواهد حية عن تراجع في مجال الحريات وليس ما توهمه البعض من تقدم علي طريق التحول الديمقراطي ـ وقلنا ايضاً أن سياسة النظام ستسعي نحو عسف متلحف بثياب الدين كما كان عهده الأول ـ ليس قناعة به بل ـ هروباً من مواجهة حقيقة فشل وهزيمة مشروعه (الحضاري) الذي قاده الي بيع السيادة والتفريط في الوحدة الوطنية واهدار موارد القطر وكرامة ابنائه.

النظام إذاً بالاضافة الي موقفه المعادي للحريات كنقيض لها فانه يمضى قدماً في تعميق جرح الهوية الذي أوغل سيوفه فيه مما ينذر بتفتت القطر أو المتبقي منه بعد فصل الجنوب وفي ضحالة فهمه لأزمة الهوية إنتهازية ولا مبدئية موقفه من مسألة (الشريعة السمحاء) حيث لم يخف ذلك عندما ربط إنفاذ قوانينها وإعتبارها المصدر الرئيس للتشريع حال إنفصال الجنوب ـ أي أن ( شرع الله ) وفق الفهم الإنقاذي قابل للمقايضة ؟!

إن البنية الطبقية للسلطة والنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعبر عن مصالح هذه البنية و باعتباره انعكاساً لها ،  يمثل جوهر الصراع السياسي الدائر في بلادنا منذ فجر الاستقلال.ولذلك فإن أي محاولة لطمس الهوية أو افتعال تناقض بين مكوناتها العربية الإسلامية الأفريقية ليست سوى محاولة لتغبيش الوعي بجوهر الصراع السياسي وخلط الخنادق وبالتالي سيكون ذلك منزلقاً للتفتيت وافتقاداً لبوصلة الطريق للحل الجذري لتناقضات الواقع.

 

 

 

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.