الآفاق الإنسانية في فكر البعث ونضاله
الأستاذ شبلي العيسمي
مع إشتداد النزعة القومية للدول الأوروبية في القرن التاسع عشر برز تسلط الطبقة الرأسمالية الرجعية وأخذ الإستعمار الأوروبي بالإنتشار والتوسع ثم ما لبثت الأفكار النازية والفاشية أن ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين داعية الى ما عرف بالتفوق العرقي والتمايز بين الأمم بل وبين أفراد الأمة الواحدة .
وفي أوضاع كهذه كان من الطبيعي أن يقع اللبس والتشويه في فهم القومية وأن يلتصق بها كثير من المعاني الخاطئة والسلبية كالتعصب والإنغلاق وإهمال الأهداف الإنسانية ويبدو أن بعض هذه المعاني تسرب بفعل العدوى والإقتباس الى معظم الفئات والأحزاب العربية التي كانت تدعو الى القومية قبل ظهور حزب البعث العربي الإشتراكي في مرحلة الأربعينات .
على أننا نستطيع القول بصورة عامة أن هذه الأحزاب فهمت القومية العربية فهما مجردا من محتواها الإنساني التقدمي الإشتراكي ولم تفطن لأهميته وضرورته بينما إهتم بذلك حزب البعث العربي الإشتراكي وأعتبره شرطا أساسيا فضلا عن أنه وعى تلك المفاهيم الخاطئة فنقدها وتجاوزها وأنفتح على تجارب الشعوب المناضلة ولم ينغلق على التيارات الفكرية المعاصرة ولكنه حرص في الوقت نفسه على الأصالة والتجديد في منطلقاته الفكرية وأبتعد عن النقل والتقليد . ومع أن الحزب كان يركز في مرحلة التأسيس على الفكرة القومية والحفاظ على شخصية الأمة العربية ومميزاتها وخصائصها كرد على إمعان الإستعمار الحديث في تجزئة الوطن العربي وتمزيقه وعلى نشاط المنظمات والأحزاب الأممية منها والإقليمية المناهضة للقومية العربية فإنه كان يصر على طرح القومية بمضمونها الإشتراكي الإنساني ويؤكد على الترابط العضوي بين القومية العربية والإنسانية ويرفض إصطناع التعارض بينهما إذ يرى فيهما وحدة متكاملة كالصورة التي لا تكون طبيعية إلا بتعدد ألوانها .وذلك في وقت كانت فيه الأكثرية الساحقة من المواطنين ترى أن العمل للوحدة ضرب من الخيال والوهم . فكيف العمل لأهداف إنسانية أشمل وأعمّ بمعنى أنه إذا كان من المتعذر في نظرها تحقيق الوحدة في ظل التجزئة والتخلف والسيطرة الإمبريالية فمن باب أولى أن يتعذر أي نشاط فاعل ومؤثر لدعم النضال الذي تخوضه الشعوب الأخرى من أجل تحررها وتقدمها . ومن هناك كان البعثيون الأوائل يوصفون بالمثالية والطوباوية بل كان بعض الناس ينظر الى أهدافهم ونشاطاتهم نظرة الإشفاق على الجهد الضائع والأهداف الخيالية ولولا ثقة الحزب المطلقة بسلامة أهدافه وصدق تعبيرها عن تطلعات الأمة ولولا إيمانه العميق بالطاقات الضخمة الثاوية في أعماق الجماهير والمناقضة لما هو طاف على السطح من أوضاع التخلف والفساد الطارئة لما إستطاع المضي في طريقه والإصرار على أهدافه القومية الإنسانية حتى النهاية .
ولعل العبارات التالية من مبادئ الحزب وأدبياته تبين لنا الآفاق الإنسانية في نضاله ومنطلقاته النظرية . فالمبدأ الثالث من مبادئ الحزب الأساسية التي وردت في دستوره لعام 1947 يؤكد أن رسالة الأمة العربية ” ترمي الى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري وتنمية الإنسجام والتعاون بين الأمم ولهذا فإن الحزب يعتبر الإستعمار وكا ما يمت له عملا إجراميا يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة ويسعون ضمن إمكاناتهم المادية والمعنوية الى مساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حريتها كما يعتبر الحزب أن الإنسانية مجموه متضامن في مصلحته مشترك في قيمه وحضارته . فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها ويمدون الإخاء الى الأمم الأخرى ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح ” .
وفي المادة الثانية من سياسة الحزب الداخلية يؤكد على أن الرابطة القومية تكافح سائر الصعبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية بينما يقرر في المادة الأولى من سياسته الخارجية ” أن رسالة العرب الخالدة ترمي الى المساهمة مع الأمم الأخرى في إيجاد عالم منسجم آمن يسير في سبيل التقدم الدائم ” -1- .
لم يقف الحزب عند تثبيت هذه الأهداف القومية الإنسانية في دستوره بل كان يعمل على توضيحها وتعميقها وإعطائها أبعادا جديدة من خلال التوعية والتثقيف والممارسة النضالية . وبهذا الصدد يقول الأستاذ ميشيل عفلق : ” إن معركة العرب معركة إيجابية بكل معنى الكلمة وهي لأنفسهم وللعالم فبمقدار ما يتحررون يحررون العالم … وهي إذن معركة الحضارة والقيم الإنسانية والمستقبـــــــل ” -2- .
” إن طموحنا في أعماقه طموح إيجابي بناء وهو أن نعمل وأن نبدع ونسترجع من جديد تجاوبنا الصادق مع الحياة وأن نساهم في بناء الحضارة وإخصاب القيم الإنسانية وفي الدفاع عنها وفي تجسيدها تجسيدا صادقا في حياتنا وسلوكنا ” -3- .
ثم يقول أيضا : ” نريد أمة حرة كريمة تؤمن بالإنسانية والقيم العليا لها رسالة خيرة فلا يمكن أن نتجاهل هذه القيم اليوم ونرجئ تطبيقها الى حين تحقيق أهدافنا بعد عشرات السنين وإذا كانت هذه القيم لم تتجسد في نفوسنا وأعمالنا منذ بدأنا النضال ووعينا هذه القيم فإننا لن نحققها في يوم من الأيام بالمستقبل ” -4- .
هكذا يبدو الترابط على أوضح ما يكون بين القومية والإنسانية وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة تتلخص فيها عقيدة الحزب . والحق أن العقيدة السياسية أية عقيدة لكي تبقى قادرة على البقاء والنماء ولكي تكتسب صفة التجدد والخلود لا يكفي أن تعبر عن تطلعات الأمة في مرحلة تاريخية معينة بل لا بد لها من تطلعات وأهداف بعيدة شاملة لا تقيدها حدود الزمان والمكان وتتصل إتصالا وثيقا وصميميا مع القيم والمثل الإنسانية التي تهم البشرية كافة كالحق والخير والمحبة والعدل . وهنا لا بد من الإشارة الى أن مراعاة هذه القيم والتمسك بها لا يتناقضان مع إستخدام الحزب للشدة والقسوة والعنف ضد الإمبريالية والصهيونية وضد القوى الرجعية المعرقلة لتطور العرب بإتجاه الوحدة والحرية والإشتراكية ذلك لأن إعتماد العنف وما يستوجبه من تضحية في مقاومة القوى المعادية لهذه الأهداف لا يخلو من التعبير عن شدة إيمانه بها ومدى إستعداده للدفاع عنها . على أنه من المناسب في هذا المجال أن ننوه بأن الحزب في قسوته مع القوى الرجعية العربية لا ينطلق من نظرة الحقد والتشفي والكراهية بل من نظرة المحبة للأمة العربية ومن الحرص على إزالة العراقيل التي تعترض سبيلها الى التقدم وبناء غد أفضل .
هذا وثمة جوانب أخرى من فكر الحزب وممارساته تتجسد فيها الآفاق الإنسانية منها تشديده على أن يكون للحودة العربية محتوى ديمقراطي إشتراكي وتوكيده على تقديس حرية الفرد ورفضه لأي مبدأ يبيح هدر كرامته وإذابة شخصيته في سبيل المجتمع أو بدافع الحرص على مصلحة الثورة أو لأي سبب آخر ومنها إلحاحه على الجانب الأخلاقي في العمل السياسي بما يعني رفض الأسلوب الماكيافيلي وإلتزام جانب الحقيقة والحق ومصارحة الشعب .
ومما يدعو الى التأمل والإعجاب أن الحزب منذ نشأته ورغم ضعف قوته وضآلة حجمه وتأثيره على الصعيدين الرسمي والشعبي كان يطمح لتجاوز النظامين الشيوعي والرأسمالي والوصول الى إيديولوجية أعمق وأشمل وأكثر تجاوبا مع الأهداف الإنسانية . وبهذا الصدد يقول الأستاذ عفلق : ” القومية الجديدة لا تفرط بحرية الإنسان بل إنها تغذي إنسانيته كما أنها ثورية تنشد الثورة لنفسها وللعالم ولكنها لا تضحي بالمثل من أجل ثورة مادية فحسب … ” -5- .
وفي معرض التوضيح لمفهوم الحياد الإيجابي وعدم الإنحياز نلاحظ أن الحزب يؤكد في نشراته وأدبياته على التعايش السلمي بين جميع الشعوب والأمم على أساس من التعاون والإحترام المتبادل ويقاوم سياسة الأحلاف العسكرية التي تستهدف إستقطاب الشعوب وجرها الى حلبة الصراع والحرب الباردة التي قد تتحول الى حرب حامية لا تبقي ولا تذر بل تجعل الحضارة البشرية اثرا بعد عين .
ولعل في العبارة التالية ما يوضح نظرة الحزب الإنسانية وطموحه لتجاوز الأنظمة العالمية السائدة إذ يقول : ” إن القصد من الحياد الإيجابي من الناحية المبدئية عدم الإقرار بمشروعية الإنقسام على أساس الحلّين الراسمالي والشيوعي وضرورة تجاوزهما الى ما هو أعلى وأكثر حرية وإيجابية ومن الناحية العملية عدم تشجيع التناحر الدولي وذوبان جميع الشعوب في معمعة هذا الصراع بل فسح المجال لتعايش الشعوب ضمن مختلف الأنظمة الملائمة لحاجات وميزات كل منها … ” -6- .
وبعد : فلو شئنا أن نصل من كل ما تقدم الى خلاصة مكثفة لأمكننا القول إن حزب البعث العربي الإشتراكي مع إيمانه بالفكرة القومية كحقيقة حية خالدة وبالوحدة العربية كتجسيد عملي لها فإنه يؤكد على مضمونها الإشتراكي الديمقراطي بما يعزز إنسانية الإنسان كما أنه في ممارساته النضالية ضد الإستعمار وكل أشكال الظلم والإستغلال في العالم وفي طرحه لأهداف الأمة العربية ورسالتها الخالدة يشدد على ترابطها التام مع الأهداف والقيم الإنسانية وذلك الى الحد الذي يرى فيه أن الأهداف القومية والإنسانية تشكل كلا موحدا متكاملا وأن أي فصل بينها لا يؤذيها فحسب بل يؤدي بها ويفقدها القدرة على البقاء والنماء
Leave a Reply